تراجع واضح
أظهرت دراسة لمؤسسة “الدولية للمعلومات” أن حجم التراجع في عدد البطاقات بلغ 28.6 في المئة، و29.6 في المئة في عدد أجهزة الصرف الآلية، أما نقاط البيع فقد تراجعت بمستوى 33.5 في المئة.
قارنت الدراسة المنحى التطوري للتعاملات التجارية، ومكانة البطاقات المصرفية. وأبرزت “توسع المصارف اللبنانية في إصدار البطاقات المصرفية”، قبل أن تأتي الأزمة ويبدأ هبوطها، وصولاً إلى سيطرة الاقتصاد النقدي. ففي عام 2010، تجاوز عدد البطاقات المصرفية المليون والنصف مليون، واستمر العدد في الارتفاع الملحوظ، فقاربت 2.8 مليون بطاقة في 2016، وصولاً إلى 3.5 مليون في 2019، أي بارتفاع نسبته 91 في المئة.
مع اندلاع الأزمة المالية، تراجعت الأعداد بشكل كبير، وتقلصت النسبة في 2023 بمقدار 868,174 بطاقة، عما كان عليه الأمر في 2019، السنة التي اعتبرت ذروة إصدار واستخدام البطاقات المصرفية. في أبريل (نيسان) الماضي أصبح العدد 2,168,582 بطاقة بحسب الدولية للمعلومات، كما شهدت نقاط البيع تراجعاً كبيراً، حيث أقفلت المصارف 592 صرافاً آلياً، علماً أن البعض منها تعرض للإحراق من قبل محتجين على سياسة المصارف بعد الأزمة. وتراجعت نقاط البيع من نحو 38 ألف نقطة بيع في 2019، إلى 25.246 نقطة في 2023، أي بتراجع 12.685 نقطة بيع عن السابق.
ضحية “الكابيتال كونترول”
يؤكد المتخصص الاقتصادي حسن علي حمادة أن لبنان شهد تراجعاً كبيراً على مستوى نظامه المصرفي والاقتصادي، ذلك أن “البطاقات المصرفية تلعب دوراً محورياً ومهماً في الانتقال السريع نحو التخلي عن الأوراق النقدية لصالح النقود الرقمية”.
يشدد حمادة على تعدد أدوار البطاقات المصرفية، “لأنها لا تقتصر على عمليات السحب، فهي في قلب استراتيجية الشمول المالي والتطور الاقتصادي، وارتباطها المباشر بادخار الأفراد والمؤسسات الفائض من أموالها في البنوك، واللجوء إلى البطاقات لإجراء السحوبات والدفوعات، والاستغناء عن الادخار النقدي في المنازل بخلاف القطاع المصرفي الذي يفترض به الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي من طريق إقراض القطاع الخاص الذي تقع على عاتقه مهمة الإنتاج وتوليد فرص عمل، وتحريك الاقتصاد”.
في قلب محاربة الجريمة
تقع البطاقات المصرفية في قلب محاربة الجريمة، ويشير الدكتور حمادة إلى مساهماتها في مكافحة تبييض الأموال أو التجارة غير المشروعة كالسلاح والمخدرات، ويلاحظ “تراجع استخدام الأرواق النقدية في الدول المتطورة اقتصادياً كدول الخليج العربي، وأوروبا وآسيا، في مقابل ارتفاع البطاقات المصرفية”.
ويلفت حمادة من جهة أخرى إلى العلاقة بين ارتفاع التعامل بالبطاقات المصرفية، وتراجع الجريمة المنظمة، لأن “الشخص الذي يحمل مبالغ كبيرة هو عرضة للسرقة أو القتل. وتسهم البطاقات المصرفية في ملاحقة وتتبع خيوط بعض الجرائم، واكتشاف أماكن الفاعلين والضحايا من خلال حركة الحسابات والبطاقات، لذلك تحرص الحكومات المتطورة على الشمول المالي، وتشجيع الأفراد على حيازة البطاقات المصرفية أو دفع المبالغ الكبيرة بواسطة الشيك”.
الانهيار المالي وجه آخر للجريمة
في الحقبة السابقة على الانهيار المالي، احتل لبنان موقعاً ريادياً على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب النظام المصرفي المليء لناحية البطاقات المصرفية، والنقود الرقمية، قبل انطلاق المسار التراجعي. ويستذكر اللبنانيون الحملات التي كانت تقوم بها المصارف لتشجيع عملائها لاستخدام البطاقات المصرفية، من أجل تجميع النقاط والفوز ببعض الجوائز على غرار بطاقات السفر أو المجوهرات.
يقول حمادة “رغم علامات الاستفهام الكبيرة في حق القطاع المصرفي الذي كان يقرض الدولة لقاء فوائد عالية، بقي بالإمكان استخدام البطاقة المصرفية في المؤسسات التجارية والسياحية، ومحطات البنزين، وبلغ الأمر ببعض المصارف عدم تقاضي الأموال نقداً بين عامي 2015-2016، كما كانت المصارف تدقق في مصدر الأموال التي تبلغ 10 آلاف دولار وما فوق”.
يتحدث حمادة عن سمتين تحكمان الاقتصاد اللبناني حالياً: “الدولرة”، واقتصاد “الكاش” أي الاقتصاد النقدي. ويخشى من آثار الاقتصاد النقدي على الأفراد والمؤسسات، فمن جهة يدخر المواطنون كميات كبيرة من النقود في منازلهم، مما يجعلها خارج النظام المصرفي، وعدم القدرة على توظيفها في الاقتصاد وتحقيق النمو.
أخطار الاقتصاد النقدي
يشير تقرير صادر عن البنك الدولي في 16 مايو (أيار) 2023 إلى تنامي الاقتصاد النقدي “المدولر”، والمقدر بـ9.9 مليار دولار في عام 2022، أي نحو نصف حجم الاقتصاد اللبناني، وهو “يشكل عائقاً كبيراً أمام تحقيق التعافي الاقتصادي”، فيما “لا تزال صناعة السياسات بوضعها الراهن تتسم بقرارات مجزأة وغير مناسبة لإدارة الأزمة، مقوضة أي خطة شاملة ومنصفة، مما يؤدي إلى استنزاف رأس المال بكل أوجهه، لا سيما البشري والاجتماعي، ويفسح المجال أمام تعميق عدم المساواة الاجتماعية، بحيث يبرز عدد قليل فقط من الفائزين وغالبية من الخاسرين”. ويلاحظ تقرير البنك الدولي “تحولاً سريعاً نحو المعاملات النقدية بالعملات الصعبة في أعقاب فقدان كامل للثقة بالقطاع المصرفي الضعيف وبالعملة المحلية”.
يجزم التقرير أن “الاقتصاد النقدي بعيد كل البعد عن أن يكون مساهماً صافياً في النمو. بل على العكس من ذلك، فهو يهدد المساس بفعالية السياسة المالية والسياسة النقدية، ويزيد من إمكانية غسل الأموال، فضلاً عن زيادة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، والتشجيع على زيادة التهرب الضريبي”، و”يهدد الاعتماد المتزايد على المعاملات النقدية أيضاً بعكس مسار التقدم الذي حققه لبنان قبل الأزمة نحو تعزيز سلامته المالية من خلال إنشاء آليات متينة لمكافحة غسل الأموال في القطاع المصرفي”، بحسب البنك الدولي.
من جهته يؤكد حمادة تراجع القيود التي تفرضها على رؤوس المال والودائع لأنها باتت في حاجة إليها لتحفيز حركتها وتعزيز ملاءتها.
بطاقات بديلة
في وقت تتراجع فيه البطاقات المصرفية، تبرز مبادرة شركات تحويل الأموال النافذة في لبنان إلى إصدار بطاقات مسبقة الدفع خاصة بها لتسهيل عمليات العملاء في ظل عدم قبول المؤسسات الخارجية بالبطاقات المصرفية اللبنانية.
يلفت حمادة أن “الطبيعة لا تقبل الفراغ” لذلك هناك سعي دائم لإطلاق مبادرات رديفة في ظل عدم معالجة أزمة القطاع المصرفي. وفي هذا السياق، تبرز حسابات “الأموال الفريش”، وبطاقات شركات تحويل الأموال، التي تتصف بهامش حركة محدود للغاية وتستخدم عند الاضطرار لتجاوز عمليات رفض الدفع النقدي. ويصف حمادة هذه الإجراءات بـ”الالتفافية على الواقع” لتجاوز قيود محددة في الخارج، وهي حلول موقتة، لا تقود إلى معالجة الأزمة، مطالباً بحلول جذرية للأزمة الاقتصادية والمالية، والانطلاق من إعادة هيكلة النظام المصرفي اللبناني، والخروج من مرحلة تضارب المصالح، ووقف عملية تذويب الودائع التي يدفع ثمنها المواطن اللبناني.