يرجح محللون أن يتحول تركيز إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى لبنان عندما يتم التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، حيث تأمل في وقف التصعيد وسط مخاوف من اندلاع حرب واسعة النطاق.
وقبل أسبوعين، أفادت وسائل إعلام محلية وعربية باستجابة باردة من جانب بيروت لمقترح أعدته واشنطن بشراكة مع باريس ونقلته إلى المسؤولين اللبنانيين ومسؤولين في حزب الله عبر ورقة بيضاء فرنسية غير رسمية.
ويقول ديفيد شينكر، الذي شغل سابقا منصب مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، في تقرير نشره معهد واشنطن، إن على الرغم من أن المفاوضات الفعلية لن تبدأ جديا إلا بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، إلّا أن رد الفعل الأولي للبنان تجاه المقترح يشير إلى أن فرص نجاحه ضئيلة.
الاتفاق المقترح
زار المبعوث الأميركي آموس هوكستين ووزير أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورني بيروت مرارا وتكرارا في الأشهر الأخيرة لوضع أسس خطة مشتركة لوقف التصعيد، والتي بلغت ذروتها في الكتاب الأبيض.
وبناء على قرار “مجلس الأمن الدولي رقم 1701″، الذي أنهى فعليا حرب عام 2006 بين حزب الله وإسرائيل لكنه فشل في تأمين سلام دائم، يسعى المقترح الجديد إلى إصلاح العيوب التي شابت الوثيقة الأصلية وأعاقت التنفيذ، وأضعفت الثقة، وساهمت في زعزعة الاستقرار على طول الحدود على المدى الطويل. وتشمل العناصر الرئيسية للمبادرة الأميركية – الفرنسية ما يلي:
● إعادة انتشار قوة “الرضوان” التابعة لحزب الله على مسافة سبعة إلى عشرة كيلومترات شمال الحدود، بالقرب من نهر الليطاني ولكن ليس بالضرورة وراءه.
● نشر 15 ألف جندي من الجيش اللبناني على طول الحدود.
● السماح لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) وعددها البالغ حوالي 11 ألف جندي بإجراء دوريات أقل تقييدا في جنوب لبنان دون مرافقة من الجيش اللبناني.
● بناء مراكز مراقبة قرب الحدود يشغلها الجيش اللبناني و/أو قوات اليونيفيل.
● إنهاء التحليق العسكري الإسرائيلي فوق لبنان.
● إنشاء لجنة مراقبة لمناقشة أي انتهاكات للترتيب الجديد، على غرار الهيئة التي تم إنشاؤها بعد الحملة العسكرية الإسرائيلية في لبنان عام 1996.
● البدء بمفاوضات بشأن بعض النقاط الحدودية المتنازع عليها مع التركيز على تحديد “الخط الأزرق” الذي رسمته الأمم المتحدة بشكل أكثر رسمية ودقة.
وسيتم استكمال هذه الخطوات من خلال تمويل أوروبي لضمان عمليات الجيش اللبناني في الجنوب، بالإضافة إلى المساعدة الإنمائية المحلية الأميركية وترويج الاستثمار.
وأفادت وسائل الإعلام العربية باعتراضات فورية على عدة جوانب من المقترح. فقد أشارت صحيفة “نداء الوطن” اللبنانية إلى أن حزب الله رفض الخطة رفضا قاطعا، في حين أشارت صحيفة “الأخبار” اليومية المعروفة بتأييدها لحزب الله إلى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري رفض البنود المتعلقة بإعادة انتشار قوات حزب الله، مما يمنح اليونيفيل حرية الحركة في الجنوب، وإسناد دور موجه دوليا للجيش اللبناني في الجنوب.
على الرغم من أن الولايات المتحدة وفرنسا تبدوان في الغالب على الموجة ذاتها في ما يتعلق باتفاق محتمل بشأن جنوب لبنان، إلا أنهما تختلفان حول ما إذا كان ينبغي ربط الاتفاق باختيار رئيس الجمهورية المقبل في لبنان وكيفية القيام بذلك، وهو المنصب الذي ظل شاغرا منذ أكتوبر 2022.
وبينما رفض الفرنسيون الربط بين القضيتين، إلّا أن هوكستين ربطهما ببعضهما البعض وفق بعض التقارير على الرغم من أنه من غير الواضح مدى موثوقية هذه التقارير.
وبموجب القانون، يجب أن يتولى منصب الرئاسة مسيحي ماروني، لكن اختيار البرلمان للمرشحين الموارنة معقد، إذ إن حزب الله يضغط باتجاه زعيم تيار المردة سليمان فرنجية، الذي يُعد حليف النظام السوري، في حين يفضل المعارضون شخصيات أكثر حيادية.
ويُعتبر هذا القرار ذا صلة بالخطة الأميركية – الفرنسية، لأنه سيتعين على الرئيس في النهاية التصديق على أي اتفاق حدودي. ونظرا لرفض حزب الله للشروط الحالية، سيسعى الحزب على الأرجح للحصول على تنازلات مقابل نقل قوة “الرضوان” التابعة له.
ونظريا، قد يبدو ترسيم الحدود مقايضة كافية، لكن حزب الله قد لا يرغب فعليا في حل النزاع الحدودي لأن السبب الواضح لوجوده هو محاربة الاحتلال الإسرائيلي للبنان.
ويلاقي إنجاز آخر استحسانا أكبر لدى الحزب وهو تعيين فرنجية رئيسا، ويبدو أن واشنطن مستعدة للنظر في إمكانية القيام بهذا التنازل.
وربما تكون باريس، التي تشعر بالقلق إزاء تسهيل حكم رئيس لبناني ضعيف صديق لإيران على مدى ست سنوات أخرى، مترددة حتى الآن على نحو غير معهود في تبني مثل هذا النهج النفعي.
ويذكّر ربط إدارة بايدن على ما يبدو لهاتين القضيتين باتفاق الدوحة من مايو 2008، وهو اتفاق تم التوصل إليه بوساطة قطرية خلال أزمة داخلية لبنانية سابقة وفراغ رئاسي. فقد ظهرت هذه الأزمة بعد أن حاولت الحكومة الموالية للغرب سابقا في بيروت إضعاف سيطرة حزب الله على المطار الدولي في البلاد وتقييد شبكة اتصالاته الآمنة، مما دفع الميليشيا إلى الزحف إلى العاصمة والانخراط في اشتباكات مسلحة أسفرت عن مقتل ما يقرب من مئة شخص.
وقد قدم الاتفاق الناتج عن ذلك تنازلات حاسمة لحزب الله، بما في ذلك “الثلث المعطل” في مجلس الوزراء وحق نقض فعلي على جميع قرارات الحكومة. ومن المفارقات أن الأطراف اتفقت أيضا على حظر “استخدام الأسلحة والعنف” لحل النزاعات السياسية الداخلية، مما منح الدولة “السلطة الأمنية والعسكرية الكاملة على المواطنين اللبنانيين”.
وفي ما يتعلق برئاسة الجمهورية الشاغرة، اتفقت الأطراف على أن يجتمع مجلس النواب ويعيّن قائد الجيش العماد ميشال سليمان لهذا المنصب خلال أربع وعشرين ساعة من توقيع الاتفاق. ويبدو أن حزب الله اعتبر سليمان مقبولا لأن الجيش اللبناني امتنع عن التدخل أثناء هجوم الحزب على بيروت. ومن غير المستغرب أن سليمان لم يتحد مطلقا أوامر “حزب الله” خلال السنوات الست اللاحقة التي قضاها في منصبه.
وباختصار، كان اتفاق الدوحة بمثابة نعمة لحزب الله، حيث عزز هيمنته السياسية الداخلية دون أي تكلفة. وقد تجاهل الحزب، كما كان متوقعا، التزامه بنبذ العنف ضد أبناء وطنه. فمنذ عام 2008، أصبح حزب الله المشتبه به الرئيسي في سبع عمليات اغتيال على الأقل لمعارضين بارزين ضمن المؤسسة السياسية والأمنية، من بين العديد من الأمثلة الأخرى لمهاجمة أو ترهيب كل من يعترض أنشطته المحلية. وبالمثل، يظل “حزب الله”، وليس “الدولة”، هو السلطة العسكرية والأمنية العليا في لبنان.
وعلى الرغم من أن التفاوض على صفقة لإرساء وضع راهن جديد على الحدود قد يؤدي مؤقتا إلى تأجيل الحرب المقبلة بين إسرائيل وحزب الله، إلا أن القيام بذلك على حساب تنصيب رئيس جمهورية خاضع للميليشيا لن يخدم مصالح الشعب اللبناني.
ومنذ عام 2019، ترزح البلاد تحت وطأة أزمة مالية، ولكن بدلا من أن يساعد حزب الله أبناء وطنه على الخروج من هذا المأزق، يستغل الأزمة بشكل نشط بينما يعارض الإصلاحات الضرورية. ومن غير المرجح أن يتابع رئيس مؤيد لحزب الله مثل هذه الإصلاحات. وعلاوة على ذلك، فإن التصوّر بأن إدارة بايدن تدرس تقديم تنازلات لحزب الله بينما تتجنب على ما يبدو المشاورات مع المنتقدين اللبنانيين للحزب، قد يعطي شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط سببا إضافيا للتشكيك في موثوقية واشنطن.
عدم الالتزام
لكن الأهم من مشكلة التصوّر هو احتمال عدم التزام حزب الله بأي اتفاق تتوصل إليه بيروت مع واشنطن وباريس. فالعبرة المستقاة من عام 2008 هي أن الحزب سيحصل على أي بنود تخدم مكانته في الداخل ومصالح رعاته في إيران بينما يتجاهل في النهاية الأحكام المتبقية.
وللأسف، تجسّدت هذه العبرة بطريقة وحشية بعد خمس سنوات من اتفاق الدوحة، عندما كتب الوزير اللبناني السابق محمد شطح رسالة مفتوحة إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني يناشده فيها دعم تنفيذ “قرار مجلس الأمن رقم 1701″، بما في ذلك الأحكام المتعلقة بنشر الجيش اللبناني على الحدود وإنهاء الأعمال العدائية مع إسرائيل. وبعد أيام فقط، اغتيل شطح، على يد حزب الله بشكل شبه مؤكد. ومن ثم، فإن أي اتفاق جديد يديم سيطرة حزب الله وإيران على لبنان محكوم عليه بالفشل على المدى الطويل.
وحتى الفائدة الرئيسية للصفقة على المدى القصير، المتمثلة بوقف تصعيد الأعمال العدائية المستمرة بين حزب الله وإسرائيل، قد تكون موضع نقاش. فمع طرح مفاوضات “الخط الأزرق” على الطاولة، قد يختار الحزب التصعيد لضمان التوصل إلى اتفاق أفضل، كما فعل خلال الفترة التي سبقت الاتفاق البحري لعام 2022.
وقد يقرر الحزب أيضا مواصلة إطلاق النار على إسرائيل حتى بعد وقف إطلاق النار في غزة. فمع استمرار إجلاء ما يقرب من 80 ألف مواطن إسرائيلي من شمال البلاد، تتعرض حكومة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لضغوط متزايدة لاتخاذ إجراءات من شأنها تمكين عودتهم، وربما يشمل ذلك العمل العسكري.
وفي خضم العمليات القتالية الجديدة في رفح والتقارير عن عمليات التجنيد التي يجريها حزب الله في لبنان، حذر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مؤخرا من أن “الصيف قد يكون حارا” في الشمال، ونظرا للتعقيدات والتكاليف المرتبطة بالتوصل إلى اتفاق حدودي، فقد يكون على حق.