هشاشة بنية الإقتصاد اللبناني
إن الأزمة الكبيرة التي يشهدها الإقتصاد اللبناني، تعود إلى كونه إقتصاداً ريعيّاً غير منتج، يعتمد على التحويلات التي تأتي من الخارج فضلاً على اعتماده على قطاع الخدمات الذي يتأثر كثيراً بالأحداث السياسيّة والأمنيّة المختلفة، في ظل تهميش كبير لقطاعي الزراعة والصناعة. وتتلخّص سماته في عاملين أساسيّين: تراجع الإستثمارات بالإضافة إلى تراجع فرص العمل في ظل إنتشار العمالة الأجنبيّة. ففي ظل تقاعس السلطات السياسية عن الشروع بإصلاحات جذرية وملحّة، يخطو لبنان طريقه بإتجاه تصنيفه كدولة فاشلة. إذ من الطبيعي أن يشكّل التحوّل السياسي حاجة ضرورية لإحداث التغيير اللازم إلا أن إعادة صياغة النموذج الإقتصادي اللبناني تعتبر حاجة ملحّة أيضاً.
فبحسب البيان الأخير للمجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي الصادر في 29 حزيران 2023، تكمن الأولوية بالشروع بإصلاحات هيكليّة للمالية العامة وللمصارف فضلاً عن مكافحة الفساد. بحيث أعرب الصندوق عن قلقه الكبير إزاء الأزمة العميقة التي يواجهها لبنان كما أعلن عن أسفه حيال الإجراءات المحدودة التي تمّ اتخاذها للتصدّي للأزمة. وبما يتعلّق بالثروة البتروليّة، فأهميّتها مرتبطة إلى حدّ كبير بمدى إندماجها بالإقتصاد الوطني وإنعكاسها على مستوى المعيشة ومستوى البطالة والتأمينات الإجتماعيّة في لبنان، وبالتالي زيادة النمو الإجمالي والحدّ من هجرة الشباب إلى الخارج. إذ يشكّل الإصلاح المالي مدخلاً أساسياً لتصميم هذا النموذج وبناء دولة جديدة تضمن توزيعاً عادلاً للموارد، وتجنّب تلك الأخيرة مدركات الفساد العالية المنتشرة في مجمل قطاعات الدولة.
خلق فرص عمل كبيرة
إن البعد الإقتصادي لمشروع إستغلال الثروة البترولية، سوف يدعم إلى حد كبير الإقتصاد اللبناني. وذلك من خلال تحفيز الإستثمارات والمشاريع الإنتاجيّة التي بدورها سوف تدعم الإنفاق المحلّي وتخلق فرص عمل كبيرة، خاصّة وأن مرسوم إتفاقيّة الإستكشاف والإنتاج ينص على أن تكون نسبة ما لا يقل عن 80% من العدد الإجمالي للأجراء العاملين لدى أصحاب الحقوق (بما في ذلك الشركة المشغّلة) من الجنسيّة اللبنانيّة.
طبعاً، ودون التخفيف من أهميّة هذا الإجراء وحفاظاً على الموضوعيّة لا بد من نقل رأي ينتقده. إذ يعتبر بعض المختصين بالشأن الإقتصادي أن هذا التدبير الذي فرضته المادة 20 من مرسوم إتفاقيّة الإستكشاف والإنتاج بفرض نسبة 80% من اللبنانيين كعمّال في مختلف الأنشطة البترولية لا يشكّل حلاً للأزمة. فهو يعالج جزءاً من المشكلة بإعتبار أن فرص العمل المستجدّة في حقل البترول والصناعات البتروكيميائيّة لن تعوّض تلك التي ستنخفض من جراء إنهيار بعض النشاطات الإنتاجيّة الأخرى.
إلا أن هذا التدبير في الحقيقة سيساهم بشكل فعّال في الحد من البطالة وتأمين خدمات توظيفيّة تتراوح بين 50 إلى 70 ألف وظيفة خلال فترة السنوات العشر الأولى بما يختص بالوظائف المباشرة وغير المباشرة المرتبطة بالصناعات البتروليّة وتلك البتروكيميائيّة. فمجرّد مقارنة وضع لبنان الحالي مع وضع أوروبا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، يتبيّن أن معدّل البطالة حالياً في لبنان قد تخطّت نسبته الثلاثين بالمئة (30%)، بينما سجّلت نسبة البطالة بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا أقل من 6% وفي اليابان أقل من 3% ممّا يعني أن وضع لبنان أسوأ.
التحدّي يكمن في كيفيّة الدمج
إن تحوّل لبنان إلى بلد منتج ومصدّر للغاز الطبيعي على غرار النموذج النروجي، يشكّل فرصة مهمّة تساهم في تخفيض إستيراده للمنتجات الطاقويّة الأمر الذي يقلّل العجز في الميزان التجاري، كما ويشكّل فرصة لتطوير النظام الإقتصادي بما يضمن توزيع الثروات بشكل عادل وخلق فرص عمل وتعزيز الإستثمارات الضخمة. هذا ما سيؤدّي إلى تحسين موقع لبنان الإقتصادي والمالي على الساحة الدوليّة وسيساهم بزيادة التعاون مع الشركات والمنظمات الإقليميّة والدوليّة.
أمّا بالنسبة إلى تصدير الغاز اللبناني إلى الخارج، فإنه سيساهم في زيادة الإيرادات وتعزيز التدفقات الماليّة الخارجيّة إلى لبنان إذ يرتبط هذا الأمر بالعلاقة التي تربطه بالدول المجاورة والبعيدة على حدٍ سواء. فعلى الرغم من التحديات والصعوبات الكثيرة التي تعترض تصدير لبنان لغازه الطبيعي نظراً للتطورات الإقليميّة والدولية المتسارعة، تبقى أمامه فرص كبيرة لشبك أفضل العلاقات مع الدول التي تعاني من عجز طاقوي وزيادة في الطلب على الطاقة، لا سيّما الدول الأوروبيّة ودول آسيا ذات الإقتصادات الصاعدة.
وعن كيفيّة دمج الغاز في البنية الإقتصاديّة اللبنانيّة، يعتبر المختصون بالمجال البترولي أن للغاز ولعوائده الماليّة ثلاثة أوجه للإستخدام: الأوّل، يكمن في إستخدام العائدات الماليّة المتأتية من بيع الغاز الطبيعي في عمليّة التنمية المتوازنة والمستدامة. الثّاني، عبر إستخدام الغاز كمصدر للطاقة باعتباره أقل تكلفة وأقل تلويثاً من المصادر الأخرى. أمّا الثّالث، فمن خلال إستخدام الغاز باعتباره مادّة أولية لتطوير القطاع الصناعي.
الهدف مرهون بحسن إستغلال الثروة
سيساهم حسن إستغلال الثروة البترولية بعيداً عن الفساد والمحاصصة والمصالح الضيّقة، بتأمين أجواء إقتصاديّة مريحة لجهة زيادة إجمال الناتج القومي وتخفيض العجز المالي وتحسّن سعر صرف الليرة اللبنانيّة. بالإضافة إلى تحقيق التنمية المستدامة، وتخفيض الدين العام من خلال إقامة مشاريع إستثماريّة وتعزيز ثقة المستثمرين اللبنانييّن والأجانب بالإقتصاد الوطني. فعلى الصعيد المالي، تفترض بعض الدراسات أن حسن إستثمار العائدات الماليّة المتأتية من إنتاج النفط والغاز سيؤدّي إلى إرتفاع إجمالي الناتج المحلّي الذي بدوره سيؤدّي إلى سد عجز الموازنة وتخفيض الدين وخدماته.
فبحسب بيانات البنك الدولي للعام 2021، بلغ إجمالي الناتج المحلّي ما يوازي 23 مليار دولار بينما سجّل التضخم معدّل 154.8%. فإذا استقرّ الوضع السياسي والأمني المحلي والإقليمي يمكن أن تسجّل نسبة النمو إرتفاعاً ملحوظاً، أمّا إذا استمر التجاذب السياسي وعدم الإستقرار فيمكن أن تبقى وتيرة النمو في تراجع مستمر خاصة في ظل غياب الخطوات الجدية للشروع بالإصلاح.
ويحتاج حسن إستثمار الثروة البتروليّة في لبنان إلى إعتماد إستراتيجيّة مزدوجة، الأولى تسعى إلى المحافظة على الكميّات المتوافرة من هذه الثروة والإستفادة منها لأطول مدّة ممكنة مع تأمين أعلى نسبة ممكنة من الأرباح الناتجة عن عائداتها المباشرة وغير المباشرة (مع دراسة الجدوى الإقتصاديّة من إستخراجها). أمّا الثانية، فتسعى إلى خلق التكامل لإقتصاد النفط مع النشاط الإقتصادي القائم أو بمعنى آخر تأمين إندماج قطاع البترول بالإقتصاد الشامل بشكل إيجابي لا يحمل أي إنعكاسات سلبيّة.
إذاً، فإن أي سياسة إقتصاديّة سليمة ورشيدة سيعتمدها لبنان، يجب أن تتركّز على توظيف هذه الثروة في إطار مشروع تنموي شامل، يؤسّس لبناء إقتصاد قويّ ويعتمد على تطوير القطاعات الإنتاجيّة الأساسيّة في ظل إستراتيجيّة تحفيز النمو. مع ضرورة الفصل بين العوائد الماليّة المتأتية من الأنشطة البتروليّة من جهة ومسار الموازنة العامة وخدمة الدين العام من جهة أخرى.
وذلك مع الأخذ بعين الإعتبار عدم السماح بحدوث تحسّن فائض في سعر الصرف الحقيقي كي لا تفقد البلاد تنافسيّتها، إذ إن صياغة قانون الموارد البترولية في المياه البحرية رقم 132 تأخذ في الحسبان تجنّب تأثيرات المرض الهولندي على الإقتصاد اللبناني. على أن يتبع ذلك إنتهاج سياسة ماليّة حكيمة تستفيد من العائدات الماليّة للنفط والغاز لتقوم بتخفيف الضرائب عن كاهل المواطن بدلاً من زيادتها لتغطية العجز الذي سبّبه الإنفاق العشوائي الذي ساد وفقاً لنظام القاعدة الإثنتي عشريّة على مدى سنوات طويلة. بالإضافة إلى إعداد البيئة المناسبة والتي تهدف إلى إستعادة الإقتصاد الوطني قدرته التنافسيّة وطاقته على الإنتاج والتصدير.
الحاجة ملحّة لتكثيف عمليّات الإستكشاف
إذا ما تحقّق إستغلال هذه الثروة الوطنيّة بالشكل المناسب لا سيّما الغاز منها، فإن هذا الأمر سوف تكون له إنعكاسات مهمّة ومفصليّة على البنية الإقتصادية والمالية للدولة اللبنانية الواقعة تحت ضغوط ماليّة ومشاكل إقتصاديّة وإجتماعيّة مختلفة. هذا ما سيشكّل خطوة أساسيّة لإحداث نهوض إقتصادي مبني على الإنتاج الرشيد، فضلاً عن حسن الإستثمار والتنمية المستدامة.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن السياسة البتروليّة التي سوف تتبعها الدولة اللبنانية سيكون لها أثر مباشر على الإقتصاد الوطني، لجهة إحداث نهضة إقتصاديّة كبرى ولجهة تحفيز الإستثمارات الوطنيّة والأجنبيّة في مختلف القطاعات الإنتاجيّة ضمن إستراتيجيّة وطنيّة تنمويّة شاملة. فالحوكمة والإدارة الرشيدة للقطاع البترولي في لبنان، تؤدّي إلى إحداث نهضة إقتصاديّة كبرى إذا ما استطاعت الدولة اللبنانيّة الإستفادة من هذه الثروة وإدارتها بالشكل المناسب.
إن تكثيف عمليات الإستكشاف في المياه البحريّة اللبنانيّة يعتبر أمراً ضرورياً وملحّاً وذلك من أجل زيادة فرص النجاح وفرص الإكتشافات التجاريّة. هذا ما يتطلّب إطلاق دورات تراخيص متتابعة ومتلاحقة تسمح بدورها بإطلاق عمليات الإستكشاف والتنقيب، من خلال حفر عدد مريح من الآبار اللازمة لتشجيع ولزيادة إمكانيّة تحقيق إكتشافات تجاريّة تساهم في تغيير موقع لبنان الجيوسياسي والجيوإقتصادي. فهذا التخبط الحاصل إقتصادياً وسياسياً يشكّل عائقاً أساسياً أمام تقدّم القطاع البترولي خاصّة من الناحية الزمنيّة، فلبنان بحاجة ماسّة للإسراع في إستغلال ثروته لتحقيق النهوض المرجو.
(*) دكتورة في العلوم السياسية وباحثة في مجال إدارة قطاع النفط والغاز في لبنان.