لم تكن سوريا بعيدة عن شرارة الحرب المندلعة بالقرب منها خلال الفترة الأخيرة ولو بشكل غير مباشر، ومع وجود مؤشرات عن تحوّل التصعيد الحاصل إلى مستويات أكبر تثار تساؤلات عما ينتظر الوجود الإيراني فيها، سواء على الميدان أو ضمن مواطئ القدم الأخرى التي ثبتتها طهران بالتدريج خلال السنوات الماضية.
ومنذ عام 2012 زج “الحرس الثوري” الإيراني بالكثير من الميليشيات على أرض سوريا، وبعدما حققت طهران هدفها مع روسيا بتثبيت رئيس النظام السوري، بشار الأسد على كرسي الحكم اتجهت بعد ذلك إلى التوغل في قطاعات اقتصادية واجتماعية.
كما حجزت لها دورا كبيرا في المشهد السياسي الخاص بالبلاد، وطالما كان المسؤولون فيها يحضرون الاجتماعات المتعلقة بالتنسيق على الأرض مع بقية القوى الفاعلة الأخرى، ويجرون المحادثات بالتوازي كـ”طرف ضامن”، وفق ما تؤكده محطات مسار “أستانة”.
لكن الظروف التي وضعت فيها إيران أول موطئ قدم لها في سوريا قبل 12 عاما تكاد تختلف بشكل جذري عن الوقت الحالي، رغم أن النظام السوري ما يزال يؤكد أن وجودها في البلاد “شرعي”.
وغربا، يتعرض وكيلها في لبنان لسلسلة ضربات كانت أسفرت قبل أسبوعين عن مقتل أمينه العام حسن نصر الله وقادة الصف الأول والثاني، وشرقا، مرورا بسوريا تكاد لا تهدأ الضربات التي تنفذها إسرائيل، في مسعى منها لقطع طرق الإمداد للجماعة اللبنانية.
وفي حين أن كرة اللهب ما تزال تقذف من ساحة وكلاء إلى أخرى فمن المرتقب أن تصل في جولة جديدة و”استثنائية” إلى أراضيها في المرحلة المقبلة، وهو ما تهدد به إسرائيل، ردا على هجوم الصواريخ البالستية الذي تعرضت له.
“إعادة تعريف الدور”
ومنذ اندلاع الحرب في غزة وما تبع ذلك من تداعيات لم يخرج معظمها عن إطار التصعيد المباشر ما بين إسرائيل وإيران ووكلائها نادرا ما كانت طهران تزج باسم النظام السوري ضمن دائرة الأحداث.
وساد في مقابل ذلك اتخاذ النظام الذي يرأسه بشار الأسد في دمشق موقفا “حياديا”، سواء على صعيد إبداء المواقف أو حتى فيما يتعلق بمجريات الأنشطة المتعلقة بجهات سوريا مع إسرائيل.
ومع أن ذلك “الحياد” أبعد سوريا نسبيا وبالصورة العامة خلال العام الماضي عن التداعيات التي فرضت على “محور الممانعة” الذي تقوده إيران لم تكن الحالة كفيلة بإبعادها عن دائرة الخطر، خاصة على صعيد الهجمات المتكررة لإسرائيل، والتي أخذت مؤخرا نطاق الاغتيالات المباشرة لشخصيات فاعلة.
ويعتقد الباحث السوري في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، أيمن الدسوقي، أن “لحظة عدم اليقين” التي يمر بها الإقليم تفرض راهنا نفسها في الوقت الحالي على العلاقات التي تجمع نظام الأسد بحليفه الإيراني وحزب الله.
وفي وقت يقيم فيه كل طرف مآلات التصعيد ومخاطره وفرص التفاوض ومكاسبها انطلاقا من مصالحه واعتباراته الذاتية أولا والتي قد لا تتطابق بالضرورة مع الآخر، يرى الباحث في حديثه لموقع “الحرة” أن الفترة الراهنة تتطلب سيما من إيران احتواء أي خلافات أو مشاكل قد تنشأ مع النظام السوري.
كما تتطلب أيضا “الحفاظ على شكل من التنسيق السياسي من جانب إيران مع النظام، وفي ظل ما تتعرض له من ضغوطات”.
ومن المرجح أن تكون إيران أكثر تفهما تجاه ما يبديه النظام السوري من هوامش أكبر في الحركة على المستوى الإقليمي، “بغية عدم إظهار أي تراجع في موقفها الإقليمي وفي علاقتها مع حلفائها في ظل مآلات التصعيد وبازار المفاوضات”، وفق الدسوقي.
وكذلك يرتبط الأمر برغبة منها “في عدم الضغط خشية خسارة نفوذها داخل النظام”.
ولا يعتقد الباحث أن وجود إيران الكلي في سوريا ونفوذها في خطر الآن.
وما يحصل اليوم بوجهة نظره هو “إعادة تعريف الدور الإيراني في سوريا من ناحية حدوده وتموضعه وشكله ليكون مقبولا إقليميا ودوليا”.
مستفيدة أم متضررة؟
وتركز إسرائيل حملتها الآن على حزب الله في لبنان، ورغم أنها ما تزال منخرطة في العمليات العسكرية بقطاع غزة تكاد تبدو هذه الجبهة ثانوية بالنظر إلى المجريات التي حصلت، خلال الأسبوعين الماضيين.
ويسود ترقب في الوقت الحالي بشأن طبيعة “الرد الانتقامي” الذي ستنفذه إسرائيل ضد إيران، بعدما شنت الأخيرة هجوما عليها بالصواريخ البالستية.
وتنعكس حالة الترقب أيضا على ما ستؤول إليه مجريات الحملة في جنوب لبنان، وما إذا كانت إسرائيل ستوسع مسرح عملياتها ليشمل سوريا، التي تنتشر فيها ميليشيات كثيرة لإيران، وتعتبرها الأخيرة دولة محورية في المحور الذي تقوده، وهو ما أشار إليه المرشد الإيراني الأعلى، علي خامنئي، مطلع العام الحالي.
ورغم أن النظام السوري لا يزال يعتمد بشكل كبير على إيران، إلا أنه يمتلك شريكا روسيا، للمساعدة في دعمه والحفاظ على درجة من الاستقلال عن طهران، وفق حديث الباحث الأميركي في شؤون الشرق الأوسط، ريان بوهل.
وتدرك إيران أن الحرب الأهلية في سوريا لم تُحل بالكامل وأن التورط المباشر الجاد في الصراع الإقليمي الجاري الحالي من المرجح أن يضعف النظام السوري بدلا من أن يكون له تأثير كبير على إسرائيل.
وبالنسبة لإيران أيضا حسبما يقول بوهل لموقع “الحرة”: “تظل سوريا ممرا مهما للوصول إلى حزب الله وقاعدة للعمليات ضد إسرائيل”.
وفيما يتعلق بالنظام السوري، فإن الأمر يتعلق الآن ومن جانبه “بالنجاة من أزمة إقليمية أخرى دون الانجرار إليها”.
ويتيح موقف “الحياد” الذي يتخذه الآن “البقاء مركزا على القضاء على بقايا الحرب الأهلية وفرض السيطرة الكاملة على البلاد”.
ويوضح الباحث الأميركي أن الاستراتيجية المذكورة سابقا “ليست مناسبة للانخراط بشكل أعمق في الصراع الإقليمي المستمر بين إسرائيل وإيران”، وهو ما تعيه كل من طهران ودمشق.
ولا يرى الباحث السوري، الدسوقي مصلحة للنظام في الانخراط بأي شكل من الأشكال في أي تصعيد إقليمي.
وعلى أساس ذلك يعتقد “بمحاولته تحييد نفسه ما أمكنه ميدانيا، مع مواصلة أشكال أخرى من الدعم وخاصة السياسي”.
في المقابل، من الممكن أن يقوم النظام السوري ببعض الهجمات الرمزية ضد مرتفعات الجولان ردا على أي تصعيد إضافي ضد إيران، كما يرجح بوهل.
لكن نظرا للقدرات العسكرية السورية المحدودة للغاية، فإن تلك الهجمات “لن تكون ذات تأثير كبير”، وفق الباحث الأميركي.
هل يخاطر من أجل إيران؟
على مدى السنوات الماضية تغلغلت عسكريا في مختلف أنحاء سوريا وشتى مجالاتها وكان الكثير من قادتها يجولون في محافظات البلاد، وأشهرهم قاسم سليماني الذي قتل بضربة أميركية قرب مطار بغداد.
وبعدما خاضت معظم المعارك ضد فصائل المعارضة وحرفت بوصلة الميدان لصالح الأسد إلى جانب الدعم المقدم من روسيا انتقلت مؤخرا إلى مرحلة الانتشار والتثبيت.
ومع ذلك، ورغم تغلغلها ونجاحها في دعم الأسد، واجهت خطرا متواصلا منذ سنوات وتمثل بضربات جوية وصاروخية لم توقف إسرائيل عملية تنفيذها، وطالت مطلع العام الحالي سفارتها في دمشق وقادة كبار من “الحرس الثوري”، أبرزهم محمد رضا زاهدي.
وما يزال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، يؤكد على فكرة أن “ما قبل حرب غزة لن يكون كما بعدها”، وفي خطابه الأخير في الجمعية العامة رفع خريطتين ألمح من خلالهما إلى “شرق أوسط جديد”.
ولا تبدو حتى الآن ملامح هذا “الشرق الجديد” الذي تحدث عنه نتانياهو. ووفقا لخبراء ومراقبين سيؤسس ما يجري الآن في غزة وعلى صعيد وكلاء إيران في لبنان لمرحلة إقليمية جديدة لن تكون سوريا بمعزل عنها، وهي المجاورة لإسرائيل.
النظام السوري كان استخدم إيران وروسيا لهزيمة أعدائه في الحرب الأهلية، لكن ليس لديه أي سبب يجعله جزءا أبديا من محور المقاومة الإيراني، كما يرى آراش عزيزي، المحاضر الأول في التاريخ والعلوم السياسية في جامعة كليمسون ومؤلف كتاب “القائد الظل: سليماني والولايات المتحدة وطموحات إيران العالمية”.
ويطرح مثالا عن ذلك “عندما طرد الحوثيين وتوقف عن الاعتراف بهم كحكومة لليمن”.
والآن وحيال التطورات الحاصلة لن يهدد حكمه بالتورط في الحرب كرامة لإيران، وهو الذي لم يطلق رصاصة واحدة ضد إسرائيل، لعقود من الزمن، وفق قول عزيزي لموقع “الحرة”.
ويبدو للباحث أن دمشق تتطلع الآن إلى أبوظبي أكثر من طهران.
ويوضح أنها “تقدر علاقتها بالإمارات العربية المتحدة والدول العربية الأخرى التي تعتبر أكثر أهمية لمستقبل إعادة الإعمار، وكذلك في تنظيم علاقاتها في المناطق الرئيسية غير الخاضعة لحكم النظام مثل تلك الموجودة في إدلب والشمال الشرقي”.
وفيما يتعلق بإيران فمن المفترض أن يمنح وجودها في سوريا بعض النفوذ في علاقاتها مع تركيا، روسيا، السعودية ودول أخرى في المنطقة.
لكن في مقابل ذلك، فقد أظهرت إسرائيل أنها لا تواجه مشكلة في استهداف الإيرانيين على الأراضي السورية، وكما هو الحال في أي مجال آخر، فإن لهذا الأمر تعقيداته الخاصة فيما يتعلق بالقوى الأخرى، بحسب الباحث عزيزي.