كلما صدر موقف من البطريركية المارونية يرفع سقف الاعتراض على سياسة “حزب الله”، أصيبت الشخصيات المسيحية التي تمالئ هذا الحزب أو تماشيه من أمثال جبران باسيل وسليمان فرنجية بالإحراج، ومما يزيد في الأذية السياسية أن “حزب الله” بدوره لا يسهل الأمور على أحد.
وهذا الاشتباك الدائم بين البطريرك بشارة الراعي و”حزب الله” يتعدى السياسة إلى ما هو أعمق وأخطر، إذ ينفذ إلى المفاهيم الكيانية التي تدافع عنها بكركي صانعة “لبنان الكبير”، فالقوى المسيحية والإسلامية التي تقف ضد منطق “الدويلة”، يتمادى “حزب الله” في نقل الصراع معها إلى ما لا يمكن للتسويات السياسية أن تخفف من حدته.
وبعدما ما اقتطعت “الدويلة” ما تريده من الدولة الشرعية، حرقت كل جسور التواصل بسلسلة من القطائع (جمع قطيعة) المجتمعية التي تثخن الجسد اللبناني بجراح لا تنفع معها مراهم التسويات السياسية.
وفي الأيام الماضية تولى رئيس كتلة “حزب الله” النيابية محمد رعد رمي الخصوم بقطيعة مجتمعية لا لبس فيها، وأهمل الجدل الناشئ عن الاستفراد وتوريط لبنان في معركة مرشحة إلى أن تصبح حرباً مدمرة، ليجرد معارضيه من صفة الإنسانية الذين برأيه لا يرتقون إلى “مصاف الناس والشرفاء”، كذلك وصف من يريدون أن يعيشوا حياتهم وأن يذهبوا إلى الملاهي وشواطئ البحار بأنهم نفعيون وأنانيون.
هذه النفحة النازية في كلام رعد تزيد من اقتناع رأي لبناني واسع بأن لا رجوع للدويلة إلى جادة الصواب الوطني، لذا لا بد من صيغة تمنع امتداداتها إلى خارج بيئتها.
القطيعة الثانية التي تلت، اختلط فيها الديني بالمجتمعي وجاءت على لسان المفتي الجعفري الممتاز أحمد قبلان، المتخصص الدائم بالرد على البطريرك الراعي، و”بيان القطيعة” الطويل جاء بعدما قاطع نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى أحمد الخطيب اللقاء الروحي في بكركي في مناسبة زيارة الرجل الثاني في الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين.
لقد استحضر الشيخ قبلان أدوات دينية وأكثر من ذكر السيد المسيح والنبي محمد، في رد على موقف وطني للبطريرك الراعي، وهذا الاستحضار يشي بأن رأس الكنيسة المارونية لا يفقه أو يتناسى بعضاً من قيم الرسالتين المسيحية والإسلامية، ومما زاد في عبثية الرد أنه موجه إلى الكاردينال بارولين ويشرح سبب مقاطعة رجال الدين الشيعة للقاء الروحي في بكركي، بعد عظة ألقاها الراعي في الـ23 من يونيو (حزيران) الجاري.
وكذلك تقصدت أوساط شيعية الإيحاء بأن الفاتيكان لا يشاطر الراعي في بعض المواقف التي يطلقها، وتوحي التسريبات أن “حزب الله” بدوره يتجه إلى مقاطعة رأس الكنيسة المارونية، فكيف لا تصب مياه جديدة في طاحونة المقاطعة بعدما قال قبلان إن الراعي يوظف الكنيسة “بمواقف تخدم الإرهاب الصهيوني والإجرام العالمي”.
عظة الراعي التي أثارت كل هذا الغبار نصت حرفياً “إننا نفهم معنى عدم وجود رئيس للجمهورية، إنه رئيس يفاوض بملء الصلاحيات الدستورية، ويطالب مجلس الأمن تطبيق قراراته، لا سيما القرار 1559 الخاص بنزع السلاح، والقرار 1680 الخاص بترسيم الحدود مع سوريا، والقرار 1701 الذي يعني بتحييد الجنوب، وبعد ذلك يعنى هذا الرئيس بألا يعود لبنان منطلقاً لأعمال إرهابية تزعزع أمن المنطقة واستقرارها”.
بمعنى آخر يطالب الراعي بانتخاب رئيس جمهورية، وتطبيق قرارات دولية من شأنها أن تعيد سيادة الدولة كاملة على أرضها، وهذه الاستحقاقات الأربع أي انتخاب رئيس وتطبيق ثلاث قرارات أممية، معني بها “حزب الله” بشكل مباشر، لذا تهون المحاذير المجتمعية لأية قطيعة إذا تصدت لأناس تجردوا من صفة الإنسانية، ولكنيسة تخدم الإرهاب.