قبل ذلك عايش القصر صفحات مختلفة من تاريخ لبنان، منذ دخول “سيد القصر الأول” شارل حلو الذي كان بمثابة الأب المؤسس له، وصولاً إلى مغادرة العماد ميشال عون مقر الرئاسة قبل انتخاب رئيس جديد للبلاد حتى الآن.
تاريخ الرئاسيات
في الأول من سبتمبر (أيلول) 1920، أعلن قائد جيش الشرق العام الجنرال الفرنسي غورو تأسيس دولة لبنان الكبير من قصر “الصنوبر” الذي لم يكن ملكاً عاماً وإنما “كان يفترض أن يكون كازينو تابعاً للقطاع العام”، مطلقاً عهداً طويلاً من تأثير الانتداب في لبنان.
خلال تلك الحقبة، لم يكن هناك مقر رئاسي في لبنان الدولة الوليدة، واستمر الأمر كذلك إلى حين تولي شارل حلو الرئاسة في ستينيات القرن الـ20. ففي المرحلة السابقة سكن الرئيس بشارة الخوري قصر “القنطاري” في بيروت الذي استأجرته الدولة اللبنانية وأدار منه الدولة الفتية، وكذلك فعل كميل شمعون صاحب الشخصية الكاريزماتية الذي كان له دور حاسم في تشييد قصر لرئاسة الجمهورية.
من الوجهة التاريخية، لم يكن القصر الجمهوري “مقراً للرئاسة الأولى”، بحيث لم يكن هناك مقر شتوي لرئيس البلاد التي استقلت حديثاً عن فرنسا، لتتبلور فكرته مع ثاني الرؤساء بعد الاستقلال كميل شمعون الذي اتخذ قراراً ببنائه، ولهذا وضع حجر الأساس في بعبدا عام 1956 ليشكل هذا الأمر حدثاً سياسياً مهماً في حياة الجمهورية الجديدة.
لم يتحمس الرئيس الثالث فؤاد شهاب لبناء قصر رئاسي، واستمر في إدارة البلاد من دارته المتواضعة في جونية، ومن فيللا في ذوق مكايل بجبل لبنان، لتتأخر عملية البناء إلى عهد الرئيس شارل حلو الذي افتتحه في آخر سنة من ولايته، لكنه لم يقِم فيه.
يعتقد الباحث حسان الزين بأن “بناء قصر جمهوري في بعبدا كان في حد ذاته حدثاً مهماً في تاريخ الجمهورية اللبنانية، وقد جاء في سياق عام، إذ حاولت الدولة اللبنانية تأسيس مبانٍ خاصة بها”، مستدركاً، “لكن لم يكن وجهه خيراً على الجمهورية والرؤساء، فاغتيل اثنان منهم قبل دخوله، هما بشير الجميل ورينيه معوض، فيما تلاحقت الأزمات على البلاد”.
يسرد الزين تاريخية هذا الحدث المهم، ويقول “في 1956 وضع حجر الأساس لبناء قصر بعبدا في عهد كميل شمعون، لكن الأحداث الأمنية التي وقعت في نهاية عهده، ومن ثم سياسة التقشف وإعطاء الأولوية للسياسة المؤسساتية التي اتبعها خلفه فؤاد شهاب، أسهمت في تأخير تشييده”.
كان لا بد من انتظار قدوم شارل حلو إلى الرئاسة، فكلف شركة هندسة سويسرية لتصميمه وتنفيذه بمظاهر بسيطة وحداثية، وقامت زوجته نينا حلو بالتعاون مع مدير المتحف الوطني آنذاك المهندس موريس شهاب، بإدخال بعض المفردات المعمارية اللبنانية والعربية على التصميم مثل القناطر والحجر ليعزز الهوية الخاصة به.
وعلى رغم أن شارل حلو كان أول سيد لقصر بعبدا الذي افتتحه في آخر سنة من عهده عام 1969، فإنه استمر في تسيير البلاد من فيللا مستأجرة في سن الفيل حتى نهاية ولايته، وشكل تسلّم أوراق اعتماد السفراء الأجانب أهم محطاتها في يناير (كانون الثاني) 1969.
بحسب حسان الزين، استقبل قصر بعبدا الرئيس سليمان فرنجية في بداية عهده، لكن سرعان ما بدأت الاضطرابات التي انعكست سلباً على استمرارية الحياة في القصر. صمد فرنجية خلال السنة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية المندلعة في 1975، لكنه اضطر في أواخر عهده إلى مغادرته والانتقال إلى القصر البلدي في ذوق مكايل بسبب اشتداد المعارك بين الحركة الوطنية (الأحزاب اليسارية و”التقدمي الاشتراكي” وغيرها من القوى الحليفة للقوى الفلسطينية)، والجبهة اللبنانية (التي شكلت نواتها أحزاب “الأحرار” و”المردة” و”الكتائب” التي كانت على علاقة جيدة بادىء الأمر مع الرئيس السوري حافظ الأسد).
ضحية الحروب
شهد القصر أول محاولة ترميم في عهد الرئيس إلياس سركيس الذي اشتهر بأنه “رئيس إدارة الأزمة”، وعاد سركيس للقصر واستحدث أول ملجأ تحته وبقي فيه إلى حين “الاجتياح الإسرائيلي في 1982، حيث وصل أرييل شارون إلى بعد 200 متر من القصر، وحاول الترويج لانتصاراته والتقاط صور وحوله ضباط لبنانيون في ثكنة لقوى الأمن الداخلي تابعة لسرية بعبدا.
ألحق العدوان الإسرائيلي أضراراً بالقصر الرئاسي، وبقي فارغاً إلى حين انتخاب الرئيس أمين الجميل في أعقاب اغتيال شقيقه الرئيس بشير الجميل، فقام بترميم القصر والحديقة وتأثيثه مجدداً وأضاف إليه بعض الأجنحة.
أدار أمين الجميل البلاد من بعبدا إلى حين انتهاء ولايته وبدء الأزمة الدستورية بسبب وجود حكومتين، الأولى برئاسة الرئيس سليم الحص، وأخرى عسكرية شكلها قائد الجيش العماد ميشال عون في نهاية 1988.
تعرض القصر لأضرار بفعل الانقسام والاشتباكات التي دارت في محيطه، وشهد القصر مولد “الحال العونية” عندما اعتصم مناصروه داخل “قصر الشعب” وظل هناك داخل مقر الرئاسة الأولى في بعبدا إلى ال13 من أكتوبر (تشرين الأول) 1990 عندما دخل الجيش اللبناني بقيادة إميل لحود والجيش السوري إلى هناك، وأدت عملية إبعاد ميشال عون إلى أضرار كبيرة في القصر.
استمرت عملية الترميم لغاية 1993 خلال عهد إلياس الهراوي الذي أقام في ثكنة أبلح، ومن ثم مبنى ضمن منطقة الرملة البيضاء (مقر جريدة “المستقبل” لاحقاً)، وخلف الهراوي الرئيس رينيه معوض الذي اغتيل قبل تسلمه مقاليد الحكم، وحصلت أعمال الترميم على نفقة الدولة اللبنانية وكان رئيس الحكومة هو رفيق الحريري.
استمرار للمتصرفية
يركز الزين على “أهمية مكان القصر في السردية السياسية اللبنانية، فالموقع الجغرافي هو مفردة سياسية، ذلك أنه بعد استقلال لبنان في 1943 الذي قام على أساس الميثاق الوطني، لم يكن هناك قصر رئاسي خاص بالموقع المسيحي الأول في لبنان، فيما كان هناك السراي الكبير الذي يمثل الوزن الإسلامي في البلاد، لذلك وقع الخيار على بعبدا التي تعتبر امتداداً جغرافياً لمتصرفية جبل لبنان التاريخية التي تأسست في 1861”.
ويضيف أن “قصر ’بيت الدين‘ أعلن مقراً صيفياً لرئيس الجمهورية في 1846، ووضعت صورة الرئيس إلى جانب لوحة الجلاء عند نهر الكلب في 1946، وعام 1950 كانت المرة الأولى التي توضع فيها صورة رئيس الجمهورية إلى جانب قصر ’بيت الدين‘، مما يوحي بأن القصر هو مقر الرئاسة، علماً أن هذا القصر يثير حساسية تاريخية لارتباطه بالأمير بشير الشهابي الذي قتل في عكا بشير جنبلاط زعيم العائلة الجنبلاطية، ناهيك عن اعتباره وجهة سياحية”.
احتفاليات بعبدا
يحتضن قصر بعبدا الرئاسي مجموعة من الاحتفاليات البروتوكولية، على غرار قبول أوراق اعتماد السفراء الجدد والاستشارات لتسمية رئيس الحكومة واحتفالات الأعياد الوطنية مثل عيد الاستقلال وعيد الجيش وإضاءة شجرة ومغارة الميلاد، والاستقبالات الرئاسية والاجتماعات الحكومية، وما زالت المديريات العامة المدنية والحرس الرئاسي في القصر يقومان بأعمالهما الإدارية وفق المقتضى، لكن كل هذه المناسبات ثانوية أمام الفراغ في موقع الرئاسة الأولى.
يعتقد الزين بأن “هناك مشكلة شاملة لجميع أركان النظام، والفراغ لا يقتصر على موقع الرئاسة الأولى (المارونية)، وإنما يمتد إلى بقية المؤسسات الدستورية، فرئاسة الحكومة أيضاً في فراغ وتعيش تصريف الأعمال، ومجلس النواب معطل والناس ممنوعون من دخوله”، معتبراً أن أصدق وصف للواقع الحالي هو “الدولة الغائبة”.
ويلفت إلى أن “ما يجري في لبنان هو امتداد لمتغيرات دولية وإقليمية لأن النظام اللبناني تاريخياً هو نظام دولي منذ المتصرفية، وما يحصل في الخارج ينعكس على الداخل. كما أن هناك تبدلاً في مواقع القوى الداخلية، وبما أن هناك توازنات طائفية داخل النظام، فإن ’حزب الله‘ الذي يعتبر القوة الإسلامية الأكبر ومدير النظام يريد حصته من الرئاسة وتعويضاً مقنعاً بسبب المعادلة العددية المتفاوتة”.
الفراغ الدائم
لم يعرف الفراغ في الرئاسة قبل عام 1988 على رغم وجود أزمات حادة من بينها الحرب، بحسب أستاذ التاريخ السياسي في الجامعة اللبنانية فارس أشتي الذي يجمل حقبات عدة من فراغ السلطة، إذ إن “نهاية ولاية الرئيس أمين الجميل شكلت أولى محطات الفراغ الرئاسي في تاريخ لبنان، وقد حلت محله حكومتان، واحدة للرئيس سليم الحص، وهي حكومة شرعية بحسب الدستور، وحكومة العماد ميشال عون التي شكلت في اليوم الأخير من العهد ولم تنَل الثقة”.
أما ثاني فراغ، بحسب أشتي، فكان بعد انتهاء عهد الرئيس أميل لحود في نوفمبر (تشرين الثاني) 2007 واستمر لغاية مايو (أيار) 2008، وحلت محله حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وهي حكومة شرعية، وارتبطت بمعطيين، اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان (2005) وما عنى من حضور للمحور الأميركي دولياً وإقليمياً، وحرب 2006 مع إسرائيل وعودة المحور الإيراني إقليمياً وبروز “حزب الله” كقوة إقليمية. وانتهى الفراغ باتفاق الدوحة (2008) وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً.
ويستمر أشتي في السرد التاريخي لنظام الفراغ، فيوضح أن انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان عام 2006 شكل ثالث حقبات الفراغ، وحلت محله حكومة الرئيس تمام سلام الشرعية بحسب الدستور، والمكبلة بشرط غير دستوري هو موافقة الوزراء كلهم على أي قرار يتخذ، وارتبط ذلك بثبات صعود “حزب الله” لبنانياً وإقليمياً، ومشاركته بالحرب في سوريا وتكريس الثنائية الشيعية. وانتهى الفراغ بانتخاب ميشال عون رئيساً في 2018″.
أما رابع فراغ، كما يقول أستاذ التاريخ السياسي، فهو الذي يعيشه لبنان حالياً بعد انتهاء عهد الرئيس ميشال عون في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، وحلت محله حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وهي حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال وما زالت مستمرة.
يخلص أشتي إلى أن “هذه الفراغات عبرت عن انكشاف لبنان على الصراعات الإقليمية والدولية، وعن تجاوز إحدى طوائفه حدود لبنانيته، معتبراً أن “هناك مشكلة في النظام” ومؤكداً الحاجة إلى إصلاحات بنيوية بما يتجاوز الحفاظ على مارونية الرئاسة، “حفاظاً على الدولة في لبنان، وأكاد أقول وحدة البلد”.
مشكلة بنيوية مركبة
يشرح أشتي الأسباب التي تؤدي إلى تلاحق الأزمات السياسية في لبنان من وجهة نظره، ويقول إنها “تعود للنواة المؤسسة لكيان لبنان أي المتصرفية، واستمرت أيام الانتداب وفي عهود الاستقلال وحتى اليوم”، مضيفاً أنه “يمكن حصر العوامل بموقع هذه البقعة الجغرافية في مشاريع التوسع الإمبريالي في النصف الثاني من القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20، ثم صراع القطبين بعده وما أنتجه من محاور إقليمية لم تنهِ الوحدانية القطبية، إذ رافقها حضور الشركات المتعددة الجنسيات التي تنافست ومنعت بقايا القطب الآخر من التسليم بهذه الوحدانية”.
ويشير إلى أن “تشكل هوية سياسية للأقليات الدينية مترافق مع هذا التوسع ومتراكب معها، وقد قارب الاكتمال مع بروز دور الطائفة الشيعية في سبعينيات القرن الـ20 لدى انتصار التيار الخميني في إيران وتسلمه السلطة فيها، في وقت لم تستمر محاولة تشكيل السنة مع صعود رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف وانتكست باغتياله في 2005، ثم انكفأت باعتزال سعد الحريري عام 2022، وكذلك قيام إسرائيل وحروبها وما نتج منها مع العاملين السابقين”.