كانت هذه الكلمات التي دخل فيها الأديب والروائي اللبناني – الفرنسي، أمين معلوف، على الأكاديمية الفرنسية عضواً في عام 2011، حيث شغل المقعد رقم 29 فيها، فكان اللبناني الأول الحاصل على هذه العضوية والعربي الثاني بعد الكاتبة والمخرجة الجزائرية، آسيا جبار (2005).
اختصر معلوف بكلمته المقتضبة تلك، مسيرته الأدبية الطويلة، ولخص عبرها هدفه الأسمى، الذي لطالما تمحورت كتاباته حوله، ونقله معه إلى الأكاديمية الفرنسية، ليخلده معه بين “الخالدين”، وهو الوصف المستخدم لأعضاء وأمناء الأكاديمية الفرنسية.
كان ذلك قبل أن ينتخب معلوف، الخميس، أمينا دائما للأكاديمية الفرنسية، خلفا للمؤرخة الفرنسية إيلين كارير دانكوس التي توفيت في أغسطس الماضي، بأغلبية 24 صوتاً مقابل 8 لمنافسه وصديقه الكاتب جان كريستوف روفان.
أمين معلوف.. سيرة لبنانية “شيقة” جذبت أجيالا من القراء حول العالم
“سيداتي سادتي، في الأكاديمية عندما نحصل على شرف الدخول في قلب عائلة كما عائلتكم الكريمة، لا نأتي بأيادٍ فارغة. وإذا كان المدعوّ مشرقيًا كما هي حالي، فيأتي بيدين مُحملتين. أحضر معي كلّ ما منحني إيّاه هذان البلدان، جذوري، لغاتي، لهجتي، إداناتي، شكوكي، وأكثر من هذا كلّه حلمي في التناغم والتقدّم والتعايش. أحلامي اليوم يُساء إليها. جدار يرتفع في بلدان الشرق الأوسط في وجه العوالم الثقافية التي أطالب بها. هذا الجدار، لم أكن أنوي تجاوزه لأعبر من ضفّة إلى أخرى. جدار المقت هذا، جدار الكراهية بين أوروبيين وأفارقة وبين الغرب والإسلام وبين اليهود والعرب، طموحي هو هدمه. إزالته. محوه. هذا كان دائمًا علّة حياتي، علّة كتابتي. هذا هو همّي وسأتابعه داخل مؤسستكم”.
كانت هذه الكلمات التي دخل فيها الأديب والروائي اللبناني – الفرنسي، أمين معلوف، على الأكاديمية الفرنسية عضواً في عام 2011، حيث شغل المقعد رقم 29 فيها، فكان اللبناني الأول الحاصل على هذه العضوية والعربي الثاني بعد الكاتبة والمخرجة الجزائرية، آسيا جبار (2005).
اختصر معلوف بكلمته المقتضبة تلك، مسيرته الأدبية الطويلة، ولخص عبرها هدفه الأسمى، الذي لطالما تمحورت كتاباته حوله، ونقله معه إلى الأكاديمية الفرنسية، ليخلده معه بين “الخالدين”، وهو الوصف المستخدم لأعضاء وأمناء الأكاديمية الفرنسية.
كان ذلك قبل أن ينتخب معلوف، الخميس، أمينا دائما للأكاديمية الفرنسية، خلفا للمؤرخة الفرنسية إيلين كارير دانكوس التي توفيت في أغسطس الماضي، بأغلبية 24 صوتاً مقابل 8 لمنافسه وصديقه الكاتب جان كريستوف روفان.
بداية “مختلفة”
يُجمع كل من عرف معلوف أن لطفولته وعائلته دوراً بارزاً في صقل شخصيته والتأسيس لفكره المنفتح على الآخر، فهو الذي ولد عام 1949، لعائلة تعود أصولها اللبنانية إلى قرية عين القبو الجبلية في منطقة المتن الشمالي، من أبوين ينتميان إلى طائفتين مسيحيتين مختلفتين، فالأب، الكاتب والصحفي والشاعر، رشدي معلوف، كان من طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، فيما والدته أديل غصين، وهي من أم تركية، من الطائفة المارونية، التقيا وتزوجا في مصر، عام 1945.
بدأ حياته المدرسية من مدرسة سيدة الجمهور، وهي مدرسة فرنسية كاثوليكية يسوعية، وتابع تعليمه الجامعي في جامعة القديس يوسف، الفرنكوفونية، في بيروت، حيث درس علم الاجتماع قبل أن ينتقل بعد تخرجه للعمل مع صحيفة النهار اللبنانية.
شهد الكاتب والصحفي اللبناني، سمير عطالله، على مراحل مختلفة من حياة معلوف، بدءا من طفولته حيث التقاه وكان بعمر الـ 10 سنوات في مكتب خاله الذي كان سفيراً لدى قبرص، حين كان يكتب لجريدة “الصفاء” التي كان يملكها والد معلوف.
يرى عطالله في عائلة أمين معلوف “موزاييك يصل إلى حد مضحك، فكانت هوية أمين مركبة مثل ‘بازل’ (puzzle)، وكان لذلك أثر بالغ على أفكاره”.
بعد نحو 12 عاماً، وصل معلوف إلى صحيفة النهار، وكان بعمر 22 عاماً، وفقما يروي عطالله لموقع “الحرة”، “كانت مكاتبنا متقابلة، وكان بعمر صغير، حيث كنت أكبره بـ 8 سنوات، مع ذلك تمكنا من بناء علاقة صداقة متينة وبدأنا سويا بعملنا الصحفي من مكتب واحد”.
في حينها كان معلوف متزوجاً حديثاً من زوجته الحالية، أندريه معلوف، له منها ثلاثة أولاد، عمل وقتها في الملحق الاقتصادي للصحيفة اللبنانية، كذلك في الأحداث السياسية الدولية، وكان مراسلاً أساسياً تنقل في مهماته الصحفية بين أكثر من 60 بلداً حول العالم، وغطى أحداثاً عالمية كبرى مثل حرب فيتنام وسقوط النظام الملكي الإثيوبي إضافة إلى معركة سايغون، وغيرها.
أطرف ما يستذكره عطالله عن أمين معلوف الصحفي في تلك الفترة كانت سيارته، “قديمة الطراز مهترئة من نوع فولس فاغن، كانت مثار ضحك من كل رفاقه ومحور الكثير من النكات في حينها”، وكان أفضل ما يدعو إليه أصدقاءه “أكلة غمة في قريته عين القبو”.
تزخر ذاكرة عطالله بالمواقف الطريفة والتعاون المهني الذي جمع بينه وبين أمين معلوف، إلى حد وصل إلى تبادل “العواميد والأقسام والوظائف” بينهما، وأكثر ما يحضر في بال عطالله كان المقال الذي كتبه معلوف عن انتقال عطالله من العمل في صحيفة “النهار” إلى “الأسبوع العربي”، يقول عطالله: “لا زلت أحفظ هذا المقال، كان من أروع ما يكون”.
معلوف “الزميل”، بحسب عطالله، كان “بالغ الحياء والأدب ومسالما إلى أقصى الحدود”، ويضيف “كنا نمازحه بشأن إخفائه الدائم لكتاب أسفل المكتب يقرأه بالسر، فيما يقوم بعمله الصحفي على المكتب، لشدة خجله من أن يظهر مضيّعا للوقت، فكنت أقول له: ‘مستقبلك أسفل المكتب وليس فوقه'”.
من الصحافة إلى الأدب
استمر عمل معلوف في صحيفة “النهار” حتى عام 1975، حين دفعته الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان إلى الانتقال، عام 1976، إلى فرنسا التي لا تزال مكان إقامته حتى اليوم، شكلت تلك الحرب مرحلة محورية في حياة الروائي اللبناني، وتركت أثراً لافتاً على أعماله الأدبية، فكانت موضوعاً رئيسياً في العديد منها.
كذلك كان للحرب الأهلية دور في وفاة والد أمين معلوف، حيث وبحسب الروايات المتناقلة، توفي متأثراً بصوت انفجار قوي وقع بقربه مع بدايات الحرب.
كانت فرنسا مدخل معلوف إلى الكتابة الصحفية باللغة الفرنسية، وكانت أولى تجاربه مع مجلة “إيكونوميا” الاقتصادية، ليتسلم فيما بعد رئاسة تحرير مجلة “جون أفريك” (أفريقيا الفتاة)، فيما استمر عمله في صحيفة النهار كرئيس تحرير لـ “النهار العربي والدولي”.
“أمين كان مكسباً هائلاً أينما حل في عمله الصحفي، ولم تكن كتاباته بالفرنسية أقل جمالاً وإبداعاً وتركيزا مما كانت عليه باللغة العربية”، يقول عطالله الذي كان قد انتقل بدوره إلى فرنسا في المرحلة الزمنية ذاتها.
ولكن في نفس الوقت، حمل انتقال معلوف إلى فرنسا نقلة على الجانب المهني، بعدما قرر الدخول إلى العالم الأدبي مع أولى أعماله، “الحروب الصليبية كما رآها العرب”، الذي حقق له نجاحاً وانتشاراً كبيرين مع صدوره عام 1983، عن دار النشر “لاتيس” التي صارت دار النشر المعتمدة لأعماله.
تخلى معلوف لاحقاً، وبخطوة مفاجئة لمحيطه، عن مهنة الصحافة نهائياً، ليتفرغ للأعمال الأدبية، حيث لم يعد يجد نفسه في هذه المهنة، “غير المستقرة” بحسب عطالله، “وكان لتجربة والده الذي أغلقت صحيفته في نهاية الأمر دور في هذه القناعة التي بلغها معلوف، رغم أن خياره حينها كان يحتاج إلى جرأة كبيرة بكونه والداً لثلاثة أطفال، إلا أن نجاحه العالمي تحقق من الكتاب الأول له”.
وتعزز هذا النجاح مع الكتاب الثاني “ليون الأفريقي”، الذي “وضع أمين على الخارطة العالمية وليس فقط الفرنسية” بحسب عطالله.
كان لهذه الرواية الفضل في دخول الأديب اللبناني للمرة الأولى إلى الأكاديمية الفرنسية مكرماً، لتسلم جائزة “بول فلات” عام 1986، وكان يبلغ من العمر حينها 37 عاماً، قبل 25 عاماً من عودته إليها عضواً (2011).
“الهويّات” هوايته
وكما عبّر معلوف بكلماته أمام الأكاديمية الفرنسية، كان “الفرز الهوياتي” الذي يعيشه العالم، محط نقد مستمر في معظم أعمال معلوف الأدبية التي شكلت قضايا الهويات العرقية والطائفية والدينية حول العالم موضوعها الرئيسي، ولم يتوان في التعبير عن دعوته العابرة لأعماله، للتصالح بين تلك الهويات، والتنظير لفكرة “الهوية الهجينة” وتبجيل “التنوع الثقافي” والتعايش.
وقد تجلت هذه الأفكار بصورة واضحة في كتابه “الهويات القاتلة”، التي قدم من خلالها رؤية مضادة للصراعات القائمة بين الهويات الثقافية والأمم المختلفة.
وكان أبرز ما ميز الأديب اللبناني – الفرنسي، تقديمه للوقائع التاريخية في القالب السردي والروائي معاً، دون إغفال الوقائع التاريخية الموثقة التي حرك في إطارها أبطال رواياته، كما هو الحال مثلاً مع رواية “سمرقند” و”صخرة طانيوس”.
ينفرد دار “الفارابي” في لبنان والدول العربية بطباعة ونشر كافة كتب أمين معلوف باللغة العربية، حيث لا يتوقف الطلب المتزايد على كتب معلوف، الأكثر مبيعاً وطلباً، في لبنان والدول العربية وفق ما يؤكد رئيس مجلس إدارة الدار، حسن خليل، لموقع “الحرة”.
ويضيف “رغم مرور عشرات السنين على كتب كثيرة له، لا زالت تطلب بكثرة، كتب أمين معلوف مثل المياه الجارية، لا تتوقف”.
وغالباً ما تمحور القالب الروائي لمعلوف حول القضايا الجدلية المحيطة بالشعوب والمثيرة للنزاعات والعصبيات فيما بينها، مثل الهجرة والحروب وصدام القوميات والأديان ولقاء الحضارات واختلاف اللغات.
وانتقل مؤخراً من الروايات التاريخية إلى استشراف المستقبل الإنساني من خلال تناوله لقضايا عالمية مثل الأسلحة النووية والجائحة الصحية والحروب الاقتصادية والعولمة والانتفاضات الشعبية والتهديدات البيئية والتكنولوجية.
ويرى خليل أن معلوف دائما ما لبى بأعماله هواجس “القارئ الإنسان”، بغض النظر عن هويته، ودق أبواب الكثير من القضايا التي تشكل حالة انقسام دولي وعالمي، “تجرأ هذا الكاتب المُتَابع عالمياً على معالجة هذه القضايا من زاويته ورؤيته وهذه مسؤولية كبيرة في تناوله للقضايا الإشكالية”.
عابر للأجيال
كُتُب معلوف باتت جزءاً من الهوية الأدبية لدار الفارابي، ومن “ثوابت الكتب إلى جانب إبداعات الأدب العالمي والإنتاجات الفكرية، ويتصدرها في الطلب”.
يلحظ خليل من خلال عمله في دار النشر أن أمين معلوف من خلال تنويعه لأعماله في مخاطبة أجيال مختلفة، “هناك جيل كبر مع أمين معلوف وجيل صغير يتعرف اليوم على معلوف، وذلك بفضل قدرته على مخاطبة الاهتمامات بسرد أدبي ممتع”.
الكاتب روجيه عوطة كان من بين الذين تابعوا أعمال معلوف منذ صغره حتى اليوم، ولا يزال حتى اليوم يحتفظ بالأثر الذي نتج عن تلك القراءات وفق ما يروي لموقع “الحرة”.
“كقارئ لأمين معلوف، علاقتي بنصه تشوبها نوع من الحيرة”، يقول عوطة الذي بدأ مشواره مع أمين معلوف من خلال رواية “سمرقند”، وانتقل إلى غيرها من الروايات المنشورة باللغة العربية، التي يقول إنها جعلته يتعرف على تاريخ “يمكن كتابته بالسرد وليس بالعرض، ليصبح مأهولا بشخصيات حية، ضليعة بزمانها، بمعنى أنها تعبر عنه، وتنتج تاريخها وتغير مجراه”.
اختلف أثر كتابات معلوف على عوطة عندما انتقل لقراءته باللغة الفرنسية، بحسب ما يروي، بدأت مع “بدايات” و”رحلة بالداسار” ثم تبعها “الهويات القاتلة”، ويضيف “هذه المرة، عقدت صلة مع لغته، مع أسلوبه، الذي يجعل نصه نصا مقروءا بيسر للغاية، وبأسلوب قص مباشر، بعيدا عن العرض التاريخي للنص”.
يرى عوطة في مسيرة معلوف، “سيرة شيقة”، فيها شيء من شخصياته التاريخية، “على الأقل مثلما تلقيتها في بداية قراءتي لمعلوف، أي أنها مغامرة، ولا تجمدها عوائق ولا ترعبها فوارق”.
أما قراءة روجيه الثالثة لمعلوف كانت مع كتب “غرق الحضارات” و”إخوتنا الغرباء”، فيرى في نصها “وظيفة دبلوماسية، تمثيل الشرق المتخيل على الغرب المتخيل، والعكس”، وهو ما “ينجزه ببراعة”، وفق قوله.
ورغم هذه القراءات الثلاث، يعبر عوطة عن عجز في حسم علاقته بأدب معلوف “وربما، هذا هو أدب أمين معلوف، وهذه كل أهميته، بحيث أنه يجعلك على حيرة من أمره”.
جوائز وأوسمة
يذكر أن معلوف وعلى مدى سنوات إنتاجه الأدبي، فاز بعدد كبير من الجوائز والأوسمة وجرى تكريمه في دول ومحافل عدة، أبرزها جائزة “غونكور” التي تمثل كبرى الجوائز الأدبية الفرنسية (1993)، عن رواية “صخرة طانيوس”، فضلاً عن جائزة الصداقة الفرنسية العربية لعام 1986 عن رواية “ليون الأفريقي”.
حاز على نيشان الاستحقاق الوطني اللبناني من رتبة ضابط (2003)، الوشاح الأكبر لوسام الأرز الوطني اللبناني (2013)، نيشان الاستحقاق الوطني من رتبة قائد (2014).
حقق في عام 2010 جائزة أمير اوسترياس الإسبانية للأدب عن مجمل أعماله كما حاز في عام 2016 على جائزة الشيخ زايد للكتاب عن “شخصية العام الثقافية”.
قلّده الرئيس الفرنسي، ايمانويل ماكرون، في عام 2020، وسام الاستحقاق الوطني الفرنسي، في احتفال أقيم في باريس، تقديرًا لعطاءاته وإنجازاته في عالم الأدب، وقد رُفع معلوف إلى درجة الضابط الأكبر، وهي ثاني أعلى درجة في الجدارة بعد مركز الصليب الكبير.
كما منح معلوف عدة شهادات أكاديمية، منها: الدكتوراه الفخرية من جامعة لوفان الكاثوليكية ببلجيكا، وشهادة من الجامعة الأميركية في بيروت، ومن جامعة روفيرا إي فيرجيلي الإسبانية، ومن جامعة إيفورا البرتغالية.
من أشهر أعماله الأدبية والروائية: الحروب الصليبية كما رواها العرب، ليون الأفريقي، سمرقند، صخرة طانيوس، الهويات القاتلة حدائق النور، سلالم الشرق (المتوقع تحويلها إلي عمل سينمائي)، رحلة بالداسار، التائهون، غرق الحضارات، إخوتنا الغرباء، وغيرها من الأعمال الأدبية والمسرحية والمقالات السياسية.