في تسعينيات القرن الماضي صادر رئيس النظام السوري الأسبق حافظ الأسد القرار اللبناني في مؤتمر مدريد للسلام ضمن مقولة ما عرف وقتها بـ”وحدة المسار والمصير” بين لبنان وسوريا. إيران ذهبت أبعد من ذلك، من خلال شعار “وحدة الساحات”. قبل حرب غزة كانت “وحدة الساحات” طموحة جداً، وتمتد نظرياً من صنعاء إلى بغداد ودمشق، مروراً ببيروت وغزة. عملياً، ومن ضمن البراغماتية الإيرانية المشهودة، انتهت “وحدة الساحات” “بجبهة إسناد” في جنوب لبنان، وبتسجيل “موقف عسكري” في البحر الأحمر.
حتى لو لم يسبب “الإسناد” حرباً واسعة في لبنان، فضباب الخطط المتشابكة والمتناقضة كثيف فوق الجنوب والقطاع. الجنوب اللبناني الذي تبلغ مساحته المربعة ضعفي غزة، عين الدول فيه على “الرقعة الليطانية” (نسبة إلى نهر الليطاني)، التي ليست أكبر بكثير من مساحة غزة. ومن يعتقد أن “حزب الله” سيقبل، بالتفاوض، انحساراً عسكرياً إلى ما وراء الليطاني، لا يفهم طبيعة المنظمات ذات الطابع الشمولي. النتيجة نفسها يقبلها “حزب الله” شرط أن تحصل تحت وطأة الضربات العسكرية. في هذه الحال يمكنه تعظيم “ربط النزاع مع العدو”، وتبرير بقاء سلاحه مسلطاً على بيروت وكل لبنان. ويعيد معزوفة “القوى الكونية” التي تجتمع عليه.
ومن المفارقات التي لن تترجم سياسياً، الدخول الجديد للفرنسيين والأميركيين على خط الجنوب اللبناني. فوزيرة الخارجية الفرنسية كاتلين كولونا ستزور بيروت وتتفقد الجنود الفرنسيين في قوات “يونيفيل” (قوات حفظ السلام الدولية)، في محاولة لتأكيد دور فرنسي على الجبهة اللبنانية، ما دامت الجبهة في غزة معقودة اللواء للأميركيين، لكن يبدو أن مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان استبق ما قد تحمله كولونا وألقى بقنبلة دخانية عندما تكلم عن إمكان تضييق في “الرقعة الليطانية”، يدفع “حزب الله” إلى الوراء نحو 10 كيلومترات فقط. يمكن اختصار زيارة سوليفان الأخيرة إلى إسرائيل بأنها حملت مطالب مؤداها “في غزة قتلى أقل وفي لبنان كيلومترات أقل”، ضمن مهلة أسابيع أقل لاستمرار آلة التدمير الإسرائيلية. الواضح أن الأميركيين لن يدقوا جرس الجلوس حول الطاولات العلنية، في وقت قريب، خصوصاً بعدما قال وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت لسوليفان إن “العملية تحتاج إلى أشهر”.
طاولات التفاوض المجهولة العدد والشكل، أمامها عقبات من نوع آخر. ففي لبنان تتنافس دولتان، الحكومة ودويلة “حزب الله”، على مقعد واحد. ودويلة “حزب الله” تريد أن تكون لها اليد الطولى في أي تفاوض. وستواجه حركة “حماس” معركة مصيرها العسكري والسياسي في غزة، إذا تقدم “حل الدولتين”. ومن سخرية القدر أن هناك نوعاً من “وحدة مسار” بين السلطة الفلسطينية والدولة اللبنانية. كلتاهما معتلتان وتحتاجان إلى إصلاحات بنيوية جذرية، ليس من السهل إنجازاها فيما الأحداث تجري متسارعة من حولهما، محملة بعشرات الأوراق وبلغات متعددة. أصلاً “حماس” و”حزب الله” تصدرا المشهد، بسبب ضعف بنية السلطة الشرعية في لبنان والأراضي الفلسطينية، فكيف تستطيع رام الله وبيروت، أن تواجها تل أبيب، وأن تقنعا العالم بقدرتهما على التفاوض؟ إذاً “اليوم التالي” في متاهة. فرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يقول إنه لن يكرر غلطة أوسلو. هذا الموقف الاستباقي يدفن “حل الدولتين” قبل أن يولد. لم يعد لدى نتنياهو ما يخسره. وموقفه من أوسلو لغم يتركه لخليفته. في المختصر، إسرائيلياً المعارك العسكرية مستمرة بلا تاريخ محدد، والأهم بلا أفق سياسي. والمفاوضات مجهولة التاريخ، وكل الأطراف التي ستجلس حول الطاولة، مجهولة الهوية والأسماء. كان يقال “اشتدي أزمة تنفرجي”، لم ينطبق هذا القول على الصراع العربي – الإسرائيلي ولا مرة.