في لبنان أصبح المال عبئاً على أصحابه الذين تحوّلوا حراساً له يغمرهم القلق والخوف من أعمال سطو وسلْب وتساورهم الخشيةُ من إقتحام بيوتهم وتَعَرُّض أرواحهم للخطر.
فاللبنانيون الذين انهارت «ليرتهم» وتكاد أن تتبخّر وعانوا السقوطَ المدوي لنظامهم المصرفي، فَقَدوا أي ثقة بـ «البنوك»، وصار «كنزهم عبّهم» كما يقول المَثَل الشعبي.
والغالبية من اللبنانيين الميسورين أو الذين حافظوا على بعض مدخراتهم لجأوا إلى إخفائها في خزنات داخل البيوت أو في مخابئ خاصة لإبقائها في «الحِفْظ والصون» وتحت ناظريهم.
هذه الظاهرة غير المسبوقة وشبه العامة استدرجتْ أسئلةً من نوع… هل حقاً يشكّل البيت الحضنَ الآمن للأموال والمدخرات؟ وهل هي الطريقة الأسلم لحمايتها وحِفْظها وإبعادها عن شبح اللصوصية في زمن العَوَز والجوع؟
أعادتْ حادثةُ السطو التي تَعَرَّضَتْ لها أخيراً إحدى السيدات، عن طريق الخطف والإعتداء، تسليطَ الضوء على خطر الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة داخل البيوت.
فالسيدة الستينية التي تمّ خَطْفُها من الحارس السابق للمبنى الذي تسكن فيه مع شركاء له، أجبرت على إرسال رسالة صوتية لمساعدتها المنزلية تطلب فيها فتح الباب للناطور الذي سيأتي حاملاً المفاتيح ليسحب لها مبلغاً مالياً قدره 58000 دولار موجود في الخزانة.
هكذا تمت عملية السرقة بـ «دم بارد» وعلى نحو لم يشكّ به أحد. وتقاسَمَ الشركاء المبلغ المسروق بعدما تركوا السيدة مقيَّدةً في صندوق سيارتها ومتروكةً في منطقةٍ شعبية بعيدة.
ولحُسن حظها أنها نجحت في النجاة والإتصال بالقوى الأمنية التي استطاعت تحديد مكان السارقين وتوقيف غالبيتهم وإعادة جزء من المبلغ لصاحبته.
ولكن مَن يعيد إلى المرأة شعورَها بالأمان؟ ومَن يمحو حال الذعر والخوف من السرقة الدائميْن من نفوس المواطنين اللبنانيين الذين يحتفظون بأموالهم في بيوتهم؟
يَصعب على الخبراء تقدير المبالغ المالية النقدية التي يحتفظ بها اللبنانيون في بيوتهم كونها خارج النظام المالي المصرفي بعدما بات لبنان يَعتمد على «اقتصاد الكاش» المُرادِف لاقتصاد الفقر كما يقول عِلم الإقتصاد، وهي أموال لا تخضع للضرائب ولا يمكن حصر كميتها.
ولكن ما هو أكيدٌ أن اللبنانيين، يحتفظون بهذه الأموال – سواء التي نجحوا في سحبها قبل الانهيار أو حصلوا عليها بالقطّارة من المَصارف التي تحتجز ودائعهم الدولارية أو التي تُحوّل إليهم من الخارج أو يتقاضونها رواتب – في البيوت تَحَسُّباً للظروف الطارئة التي يمكن أن تواجههم كأن يضمنوا دخولاً طارئاً إلى مستشفى أو قسطاً مدرسياً في آخِر الفصل أو كفالة مالية من أجل الحصول على فيزا أوروبية…
لكن هذا التشبث بالأموال النقدية ليس الحل الآمن ولا الضمانة للحفاظ على قيمة الأموال وقدرتها الشرائية وفق ما يشرح لـ «الراي» الخبير المالي والأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت جهاد الحكيّم.
وقال الحكيّم: «كان اللبناني يحتفظ بأمواله في المصرف ظناً منه أنها المكان الآمن. علماً أن تصنيف الدولة اللبنانية من الشركات العالمية كان عالي المَخاطر، وكان المودع ينال فوائد متواضعة ومردوداً ضئيلاً مقابل مَخاطر عالية. كانت ثقافة غالبية الناس المالية محدودة جداً بحيث وَقَعوا ضحية عملية نهب إحتيالية لأموالهم وتعرّضوا لخسارة مالية كبرى. قلةٌ منهم كانت تُنَوِّعُ في محفظتها المالية أو تدير ثرواتها أو حتى مدخراتها بطريقةٍ واعية ومدروسة، والغالبية منهم لجأت إلى الاحتفاظ بودائعها ومدخراتها في المصارف».
وأضاف: «أما وسيلة الحماية الوحيدة التي لجؤوا إليها حين بدأت الأزمة تتكشّف، فتمثلت بتحويل أموالهم التي كانت بالليرة اللبنانية إلى دولار فجاءت الأزمة المصرفية لتحرمهم منها وتحْجر عليها وتكبّدهم الخسائر. واليوم لم يختلف الوضع كثيراً لأن اللبنانيين ونظراً لعدم درايتهم المالية ما عادوا يثقون بالمصارف وباتوا يحتفظون بأموالهم نقداً في البيت وفي هذا مخاطرة كبيرة جداً».
هل يمكن لوم المواطنين في لبنان على رغبتهم بالإحتفاظ بأموالهم آمِنةً في خزناتهم وبيوتهم وهم الذين اكتووا بنار الخسائر في المصارف أوالعقارات؟ هل يمكن لومهم لخوفهم من تداعيات الأزمات المصرفية العالمية والظروف الإقليمية عليهم؟ بالطبع لا، وقد بات هؤلاء يسعون الى اعتماد خيارات جديدة للتخلص من هذه الأموال النقدية التي تؤرقهم وتعكّر أمانهم، وقد تكون فورة المطاعم والسهر والسفر التي تجتاح لبنان حالياً تعبيراً غير سليم عن هذه المحاولة للتخلص من الكاش.
ويؤكد الحكيّم أن «اللبنانيين اليوم يعمدون إلى شراء مقتنيات بأعلى من قيمتها الفعلية سواء عقارات أو سيارات أو مجوهرات للتخلص من الكاش، حتى أنهم يصرفون أموالهم نقداً خارج البلاد حتى ولو عرّضهم ذلك للسرقة أو الاعتداء. في رأيهم لم يعد الادّخارُ وسيلةً جيدة ولا سيما بعد جائحة كورونا التي وَضعت كل الناس على حافة الخطر وولدت عندهم حالة وجدانية بضرورة الاستمتاع بالحياة كونها هشة ويمكن خسارتها في أي لحظة، كما شكّل احتباسُ الأموال في المصارف صفعةً للبنانيين الذين تمنّوا لو استمتعوا بأموالهم وأنفقوها على نشاطات تفرحهم بدل أن يسرقها منهم المصرف».
ولكن هل الاحتفاظ بالمال في البيوت هو الحلّ الذي يحفظ لهؤلاء المواطنين، الذين يتحدّون وضعهم الصعب كل يوم، قيمةَ ما تبقّى معهم من أموال؟ هل الخزانة والخزنة يحفظان القيمة الشرائية للأموال ولو كانت بالدولار ويمنعان التضخم؟
في رأي الحكيّم أن «الحل ليس قطعاً بتخزين الأموال في البيت، بل إن الحفاظ على قيمتها يستوجب وعياً مالياً يقود أصحابَ هذه المبالغ الكبيرة كما الصغيرة الى التطلّع نحو آفاق أخرى مثل فتح حسابات مصرفية خارج لبنان أو القيام بمشاريع صغيرة سواء داخل البلد أو خارجه أو شراء الذهب لكونه استثمار آمِن يسهل حفظه ولا يتعرّض للتلف كما الأموال النقدية».
ويلاحظ الخبير المالي أن «بعض اللبنانيين قد اقتنعوا بهذه الأفكار وبدأوا يستثمرون أموالهم في مجالات مختلفة كبناء بيوت ضيافة مثلاً في ضيعهم أو إقامة مشاريع تجارية صغيرة. وبعضهم وهم قلة قليلة يحاولون الإستفادة من أموالهم عبر المضاربة بالدولار والإستفادة من منصة صيرفة عبر نموذج مالي يعرف باسم المراجحة او Arbitrage أي تحقيق أرباح فورية من خلال المتاجرة بالعملة وذلك على حساب المودعين وسعر صرف الليرة».
ورأى أنه «مهما كان الحل الذي اختاروه، يبقى الأهم ألا يحتفظوا بالأموال جامدة في خزناتهم.. هذا الجمود يعرّض قيمة الأموال للتآكل حتى ولو كانت بالدولار وهو أمر لا يدركه الكثيرون. يظنون أن العملة الخضراء استثمار آمِن، لكن في الحقيقة تشهد الولايات المتحدة تضخماً كبيراً وكون كل شيء في لبنان قد أصبح مُدَوْلَراً فإن أسعار غالبية السلع قد ارتفعت حتى بالدولار. وقد ساهم أصحاب الإحتكارات في لبنان برفع أسعار السلع ليعوّضوا عما خسروه في المصارف بحيث باتت أسعارها في لبنان أغلى منها في العالم، ما يساهم في ابتلاع سريع لما يدخره الناس في بيوتهم من عملة خضراء».
وتبقى المعادلة الأفضل بحسب الحكيّم، «التنويع في المحفظة المالية ولو كانت صغيرة، واعتماد ما يعرف بالتحوّط أي اللجوء إلى وسائل تَحْفَظُ للأموال قيمتَها فلا تتآكل سواء كانت بالليرة أو حتى بالدولار».
لكن رغم هذه النصائح القيّمة ما زال اللبنانيون متمسكين بالإحتفاظ بأموالهم أمام عيونهم.
«لا نعرف متى تشهد البلاد إنهياراً كلياً»، يقول أحدهم، والأجدى أن «نترك أموالنا في متناول يدنا تحسباً لما يمكن ان يحصل».
وتقول سيدة تعيش في خوفٍ دائم من عدم قدرتها على تأمين الاستشفاء متى إحتاجت إليه: «أحتفظ بمبلغ معيّن بالدولار في بيتي لهدف واحد لا غير وهو الحفاظ على كرامتي إذا دفعتني الحاجة لدخول مستشفى، حتى لا أموت على بابها أو اضطر إلى الاستجداء من المحسنين».
ويؤكد آخَر: «لم أعد أثق بالمصارف ولا أفكر حتى بفتح حساب بالفريش دولار. أصرف فقط ما أحتاج إليه وأترك الباقي في البيت تَحَسُّباً.. لكنني صرتُ أخشى مغادرة البيت وأفكّر ألف مرة في ما يمكن أن يحصل إن اقتحم السارقون بيتي في غيابي. ألا تكفيني سرقة جنى العمر من المصرف؟ صرنا مثل الجاحظ نعدّ أموالنا يومياً ونعرّضها للهواء حتى لا يأكلها العفن… كل المدفوعات صارت بالدولار فكيف ألبّيها إن لم إحتفظ بمبلغ معين من العملة الخضراء في متناول اليد؟ ليتني استفدتُ من الحياة أكثر حين كنت لا أزال قادرةً على ذلك أو ليتني أجدد أثاث بيتي أو اشتريتُ لي ذهباً ومجوهرات بدل أن أخبئ القرش الأبيض لليوم الأسود».
الحجج كثيرة ومُقْنِعة تنبع من الخوف والحذر لكن شدة الحرص قد تنقلب إلى خطر يهدد الأموال المكدسة وأصحابها.