الكوليرا في سوريا.. الاستجابة القاصرة تثير مخاوف الاستيطان
الحرة
Thursday, April 21, 2022
منذ الإعلان عن تفشيه، مطلع سبتمبر الماضي، لم يتوقف عداد الإصابات بمرض "الكوليرا" في عموم المناطق السورية. وما بين اليوم والآخر تظهر الإحصائيات الرسمية تضاعفا في الأرقام، ما دفع منظمات الأمم المتحدة مؤخرا للتحذير من "كارثة"، فيما أبدى باحثون وأطباء مخاوف من سيناريو شبيه باليمن، و"حالة استيطان".
وبعد قرابة شهرين لا تلوح في الأفق أي "بوادر جذرية" لوقف الانتشار، والذي يتركّز في الوقت الحالي، على الخصوص، في مناطق شمال وشرق سوريا، ليتسلل المرض مؤخرا إلى مخيمات النازحين في غربي البلاد، بعدما انتشر أيضا في مناطق سيطرة النظام السوري، أولها مدينة حلب.
وتظهر البيانات التي تتيحها بشكل يومي "شبكة الإنذار المبكر والاستجابة للأوبئة" أن إجمالي عدد الحالات المشتبه بها في شمال شرقي البلاد وصل إلى 15 ألفا و949 حالة، والوفيات 29.
أما في شمال غرب سوريا، سجلت الشبكة 2676 حالة مشتبه بها، و3 فيات، فضلا عن 428 حالة في منطقة "نبع السلام"، ووفيتان.
ويعتبر تلوث مياه الشرب أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهور المرض في سوريا، بعد غيابه عنها منذ عام 2009، وهو ما ينسحب أيضا على جارتها لبنان، والتي تشهد أيضا تفشيا متسارعا، حسب الأمم المتحدة ووزارة الصحة اللبنانية.
وعلى اعتبار أن مكافحة المرض ترتبط بمعالجة أسبابه، يوضح أطباء وباحثون مختصون بالأوبئة لموقع "الحرة" أن هذه النقطة تعتبر "إشكالية"، كون جهود وقف الانتشار لم تعد تقتصر على القطاع الصحي فحسب، بل يجب مشاركة قطاعات أخرى، منها الخاص بالمياه والزراعة والإصحاح البيئي، وصولا إلى التعليمي والتوعوي الخاص بالمجتمع.
علاوة على ذلك، تثير "الاستجابة الصحية والطبية القاصرة" مخاوف من توسع انتشار المرض وتضاعف أعداد الإصابات، ما ينذر بـ"كارثة أكبر"، بعيدة عن تلك التي تسود التحذيرات منها، وترتبط بأن يتحول المرض إلى "متوطن" في البلاد.
"خطط طور الدراسة"
ويشرح الطبيب السوري ومدير البرامج في "منظمة الأمين" الإنسانية، رامي كلزي، أن تسارع إصابات "الكوليرا" في سوريا يتركز بشكل رئيسي في مناطق سيطرة النظام السوري، ثم شمال وشرق سوريا، وأخيرا منطقة "نبع السلام".
وبينما يقول لموقع "الحرة" إن اللقاحات "ليست ضمن الخطة، لأنها مكلفة جدا والجدوى منها منخفضة"، يشير إلى أن "الاعتماد الرئيسي في الوقت الحالي لمكافحة المرض هو على التوعية الصحية، وكلورة مياه الشرب. ثم الخط الثاني وهو مراكز العلاج".
وكان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، قد عزا في مؤتمر صحفي، الأسبوع الماضي، تفاقم الزيادة في الحالات المصابة بالكوليرا بأن "مردّه النقص الحاد في المياه في جميع أنحاء سوريا، بسبب انخفاض منسوب المياه في نهر الفرات والظروف الشبيهة بالجفاف".
وأعرب عن أن شركاء "منظمة الصحة العالمية" في المجال الإنساني يواجهون نقصا في الإمدادات للتصدي للكوليرا، "مثل الأدوية والمياه والصرف الصحي ومستلزمات النظافة".
بدوره يوضح مدير برنامج اللقاح في "وحدة تنسيق الدعم"، الطبيب السوري محمد سالم أنهم يحضّرون "لمشروع لقاح يكون مدعوما من الصحة العالمية". وقال: "نعمل على رفعه، لكن إلى الآن ما يزال في طور التخطيط والدراسة. لا مواعيد محددة لوصول اللقاح إلى سوريا".
ويرى سالم في حديث لموقع "الحرة" أن "فعالية اللقاح تصل إلى 85 في المئة حتى عمر 3 و5 سنوات"، وأنه "مفيد جدا للحماية من الإصابة الفردية، حتى يتجه المجتمع لتعزيز إمكانياته، فيما يتم العمل على زيادة قدرة الإصحاح البيئي، لإنجاز مشاريع البنية التحتية، وعزل مياه الصرف الصحي".
وتأخذ "الأوبئة"، في العادة فترة من 3 إلى 6 أشهر، حسب الكثافة السكانية، لكي تصل إلى "الذروة".
ورغم تخطي عدد الإصابات حاجز الـ16 ألف في سوريا، إلا أنها ما تزال حتى الآن بعيدة عن المرحلة المذكورة.
ومع ذلك، يتوقع الطبيب سالم "إصابات أكبر بكثير، خاصة في ظل التدبير السيء للحالات والبنية التحتية المتهالكة وعدم مشاركة المجتمع الحقيقية لحماية نفسه".
وإلى جانب الحلول الطبية يؤكد سالم أنها يجب أن تترافق مع "زيادة وعي الناس ومشاركة المجتمع، وعدم الاعتماد على المنظمات الإنسانية والطبية بشكل أساسي".
"وضع إنساني مروّع"
وسجلت سوريا عامي 2008 و2009 آخر موجات تفشي المرض في محافظتي دير الزور والرقة.
وبعد نزاع مستمر منذ 11 عاما، تشهد البلاد أزمة مياه حادة، على وقع تدمير البنية التحتية للمياه والصرف الصحي، ما دفع الكثير من المواطنين للاعتماد على مياه شرب غير آمنة، وبالأخص من نهر الفرات.
وقد أثبتت التحاليل النهائية الأخيرة لعينات من النهر وجود "ضمات الكوليرا فيه"، وفق ما قال رئيس "هيئة الصحة" في الإدارة الذاتية، جوان مصطفى، في وقت سابق لـ"الحرة".
ورغم أن الوضع في شرق سوريا حيث تسيطر "الإدارة الذاتية" يبدو "كارثيا" بسبب أعداد الإصابات الكبيرة وعلى خلفية تلوث النهر الرئيسي المار من هناك، إلا أن مناطق غرب البلاد ليست بمعزل عن ذلك أيضا.
وذكرت منظمة "أطباء بلا حدود"، الأسبوع الماضي، أنه "وفي حين يخشى 4.4 مليون شخص يعيشون في شمال غرب سوريا قدوم شتاء قاسٍ آخر، يضفي التصعيد الأخير في القتال وتعطيل عملية عبور المساعدات عبر الحدود وتفشي الكوليرا مزيدا من التعقيد على الوضع الإنساني المروع أساسا".
ونظرا لتفاقم المعاناة إثر السنوات الماضية، يشكل مرض الكوليرا خطرا مهما على السوريين، حسب ما تقول الباحثة المختصة في الأمن الصحي والعلاقات الدولية بجامعة "أكسفورد"، سلمى الداودي.
وتوضح لموقع "الحرة" أن "الكوليرا مرض يمكن أن ينتشر بسرعة في البيئات التي تفتقر إلى مرافق مياه الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب، وخاصة في المناطق ذات الكثافة السكانية العالية".
وتقول "هذا يعني أن الفشل أو التأخير في الإعلان عن الحالات الوبائية، لا يسمح بتحديد مصادر تلوث المياه، مما يجعل المرض يستمر في الانتشار بمعدلات تتجاوز القدرات المحلية".
ولكون القطاع الصحي ليست لديه القدرة على مواجهة "حالات مستعصية في آن واحد"، بسبب الافتقار إلى العلاج والمعدات الطبية، تقول الداودي: "تكون ضحايا ذلك الفئات الضعيفة من المواطنين وخاصة الأطفال".
من جهته، يشير الطبيب السوري، محمد سالم، إلى أن "التدبير للكوليرا معقّد جدا، لأنه لا يعتمد على القطاع الصحي فقط"، بل "يجب أن تشترك الزراعة ومهندسي المياه والإصحاح البيئي والقطاع التعليمي والبيئي، وقيادات المجتمع كلها".
وإلى جانب ذلك، يقول سالم: "الوضع جدا معقد بسبب غياب الدولة والمركزية. وبالتالي فإن الاستجابة ستكون قاصرة وصعبة جدا".
"أبعاد تطيل عمر الوباء"
في غضون ذلك تحدثت الباحثة المختصة في الأمن الصحي بجامعة "أكسفورد"، سلمى الداودي، عن "مجموعة من الأبعاد، وأنه من الضروري معالجتها للحد من تفشي المرض، بما في ذلك تعزيز أنظمة المراقبة لتشخيص الحالات، وتتبع سلسلة انتقال العدوى وضمن الشفافية في الإعلان عن الحالات الحقيقية المصابة بمرض الكوليرا".
ومن المهم أيضا، وفق قولها "التحسيس بالمرض وأعراضه وطرق انتقاله، بالإضافة إلى اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة للحد من انتشاره".
ونظرا للتدهور الذي عرفه القطاع الصحي، يستلزم تأمين الإمدادات الطبية الضرورية، بما فيها العلاج ولقاحات الكوليرا الفموية، لمعالجة الحالات، والتأكد من أن توزيع المساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية يشمل جميع أنحاء البلاد، بما في ذلك شمال شرق وشمال غرب سوريا.
ويخشى من أن تخضع هذه المساعدات لسيطرة النظام السوري، الذي قد يفرض عراقيل على إيصالها لبعض المناطق، كـ"أداة ضغط يمارسها بحق المعارضين له".
وما سبق يعتبر "سلسلة حلول" لمواجهة الوباء، فيما تشير الداودي إلى "حل أساسي" يرتبط بتبني "سياسات لعلاج المياه"، بما في ذلك معالجة إمدادات المياه بالكلور، وتطهير نقاط ملء المياه. ويقتضي ذلك إرادة و قدرة سياسية غير موجودتين حاليا.
"قد يصبح متوطن"
ومن بداية سبتمبر خرجت الكثير من التحذيرات من "الوضع الكارثي" المتوقع، إثر التفشي المتسارع للكوليرا في سوريا، لكن وحتى الآن لم تتخذ السلطات الصحية في المناطق المتفرقة من البلاد "خطوات حاسمة وعلاجية".
وبينما تعلن السلطات في شرق سوريا وغربها عن أعداد الإصابات اليومية لم يتجه النظام السوري إلى ذات المسار، خلال الأيام الماضية، فيما تحدث أطباء عن "عدم شفافية" في الأرقام التي يعلنها.
ووفقا لآخر إحصائية لوزارة الصحة السورية عبر صفحاتها الرسمية، قبل خمسة أيام، فإن العدد الإجمالي التراكمي للإصابات في سوريا والمثبتة يبلغ 908، في عموم محافظات البلاد، وهو ما يخالف على نحو كبير ما أعلنت عنه الأمم المتحدة، الأسبوع الماضي.
من جانب آخر لا توجد مؤشرات حتى الآن عن قرب وصول لقاحات من جانب منظمة الصحة العالمية، وهي التي كانت قد أعلنت اعتمادها "استراتيجية الجرعة الواحدة".
وتوضح الباحثة سلمى الداودي أن "اللقاحات أساسية لاحتواء الوباء وحماية الشعوب، ومن الضروري الآن تأمين كميات وافية لمقاومة البكتيريا، لكنها ومع ذلك تعتبر حلول جزئية مؤقتة".
وتضيف: "العامل الهيكلي الذي يساهم في تفشي المرض هو تلوث المياه، وانعدام الصرف الصحي في بعض المناطق".
ويتطلب تأمين مياه الشرب النظيفة إصلاح البنية التحتية للمياه، بما في ذلك مرافق معالجة المياه وأنظمة الصرف الصحي.
وفي حين أن المنظمات الإنسانية تشارك في الجهود المبذولة لإعادة تأهيل بعض محطات الضخ مؤقتا، فإن "أي حل طويل الأجل سوف يتوقف على تغييرات ملموسة في السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي"، وفق الباحثة.
وتضيف: "نظرا لأن مصدر التلوث هو نهر الفرات بشكل أساسي، فهناك أبعاد إقليمية يجب مراعاتها أيضا. تسبب البناء المثير للجدل لبعض السدود وأنظمة الري الكبيرة في نقص شديد في المياه وتوترات متزايدة بين تركيا، العراق، سوريا".
وعلى اعتبار أن انتقال الكوليرا يرتبط ارتباطا وثيقا بقصور سبل إتاحة المياه النظيفة ومرافق الصرف الصحي و بضعف القدرات الصحية، فإن عدم التطرق لهذه الأبعاد قد يساهم في استمرار الوباء، كما هو مثلا الحال في اليمن.
وقد يصبح مرض الكوليرا مرض "متوطن" في سوريا، حسب ما تشير إليه الداودي "إن لم تعالج الأسباب الهيكلية الناتجة عن مجموعة من العوامل، بما فيها تسييس المياه والصحة واستعمالهما كأداة حرب".
وعرفت "هيدرولوجية سوريا" تغييرات عميقة، بسبب سوء الإدارة وتغير المناخ واستخدام المياه المكثفة والمنافسة المتزايدة للمياه عبر الحدود الدولية.
وتضيف الباحثة أن "الاستغلال المفرط واستنزاف موارد المياه العذبة، وتلوث المياه عن طريق الزئبق والرصاص، كلها أدت إلى تدهور بيئي صعب معالجته، إضافة إلى أنه تم استخدام الماء كسلاح حرب في ذروة النزاع".
وعلى مدى السنوات الماضية تم استهداف أنظمة المياه عن عمد في سوريا، وبشكل مستمر، ولم يتم تنفيذ الصيانة المناسبة.
وأسفر ذلك عن جعل محطات معالجة مياه الصرف غير صالحة للعمل نتيجة للتدمير المباشر، مما أدى إلى إطلاق مياه الصرف الصحي دون علاج في البيئة الطبيعية، وشكل مخاطر متعددة على الصحة العامة وموارد المياه الجوفية.
وتوضح الباحثة: "فقط 50 في المئة من أنظمة المياه والصرف الصحي تعمل بشكل صحيح. يجعل هذا الوصول إلى مياه الشرب الآمنة تحديا يؤثر على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء سوريا، وهي تكلفة لا يستطيع الجميع تحملها، بعدما انخفض دخل الأسر، وارتفعت معدلات الفقر".