عون والفراغ وضياع الجمهورية (1) ... حكومة العماد العسكرية: 1988- 1990
نجم الهاشم - اندبندنت عربية
Thursday, April 21, 2022
تعاقب خمسة رؤساء للجمهورية على السلطة في لبنان بعد اتفاق الطائف الذي أقر في 22 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1989. منذ ذلك التاريخ لم تنتظم الحياة السياسية والرئاسية. بدأ الفراغ مع حكومة العماد ميشال عون العسكرية وتكرر في آخر عهد الرئيس إميل لحود ثم الرئيس ميشال سليمان، وها هو ذا يتكرر مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون. هذه السلسلة تتناول العهود الرئاسية بعد الطائف في لبنان. هذه الحلقة عن عهد حكومة العماد ميشال عون الذي كانت قراراته سبباً مباشراً في إقرار "اتفاق الطائف".
الفراغ الأول
افتتح قائد الجيش السابق العماد ميشال عون عهد الفراغ الأول في رئاسة الجمهورية، بعد تعيينه رئيساً للحكومة العسكرية في ربع الساعة الأخير من ليل 22 سبتمبر (أيلول) 1988، وها هو ذا يضيف عهداً جديداً إليه بعد انتهاء ولايته الرئاسية في 31 أكتوبر 2022.
الطريق العسكري إلى قيادة الجيش
ولد ميشال عون في عام 1933. وتخرج ضابطاً في الجيش اللبناني في عام 1958 ليبدأ من هناك مساره في الحياة العسكرية والسياسية، ليشكل حالة استثنائية في الحكم وإدارة الدولة انتهت في عام 1990 بحرب عسكرية أخرجته من قصر بعبدا، وفي عام 2022 بفراغ بعد انهيار الدولة والمؤسسات والاقتصاد والوضع المالي.
في بداية الحرب الأهلية في عام 1975 كان الضابط ميشال عون برتبة رائد ويخدم في منطقة صيدا التي بدأت تخرج منها بوادر الصراع الداخلي في شكل تظاهرات ضد الجيش اللبناني. ومن هناك بدأت تظهر ميوله الرافضة للواقع القائم ومحاولته فرض أمر واقع ضمن الجيش اللبناني من خلال توجيهات عامة تخطت المسائل العسكرية إلى الحد الذي عرضه لعقوبات. أول دور عسكري اضطلع به عون خلال الحرب كان في معارك مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين، عندما تولى كضابط مدفعية تنسيق عمليات القصف في وقت لم تكن هناك لدى القوات التابعة للجبهة اللبنانية قيادة مشتركة، وفي ظل انقسام الجيش اللبناني إلى وحدات التحقت بالقوى المتصارعة وأخرى بقيت تحت سقف القيادة العليا في وزارة الدفاع.
المهمة الثانية التي أوكلت إليه كانت في قطاع جبهة الشياح وعين الرمانة التي اندلعت منها الحرب بعد عام 1978 وفي عام 1980، بعد الاشتباكات التي حصلت بين تنظيمي "حزب الأحرار" و"حزب الكتائب"، وكان الرئيس الراحل بشير الجميل هو من اختاره بالتنسيق مع قيادة الجيش على رغم نصائح تلقاها من مدير الاستخبارات وقتها العقيد جوني عبدو، تتعلق بشخصية عون المشاكسة.
ظهر اسم ميشال عون أيضاً كأحد أعضاء الفريق الذي كلفه بشير الجميل التحضير لانتخابه رئيساً للجمهورية منذ عام 1980 وشارك في أحد لقاءات هذا الفريق في دير سيدة البير، وكانت مهمة هذا الفريق وضع خطة عملية للوصول إلى الرئاسة وتحضير برنامج للحكم، ولكن بعد اغتيال بشير الجميل وانتخاب شقيقه الرئيس أمين الجميل وتعيين العماد إبراهيم طنوس قائداً للجيش واعتماده تنظيماً جديداً يقوم على تشكيل ألوية عسكرية بدل الأفواج صار عون قائداً للواء الثامن، هذا اللواء سيضطلع بدور عسكري أساسي في المعارك منذ عام 1983 وسيشكل القاعدة التي انطلق منها عون للانتقال من الموقع العسكري إلى الموقع السياسي.
في عام 1984 عندما اختار الرئيس أمين الجميل الانفتاح على النظام السوري بعد الخسارة العسكرية في حربي الجبل وبيروت، كان أحد الشروط التي وضعها النظام السوري استبدال قائد الجيش العماد طنوس فتم تعيين عون مكانه في 23 يونيو (حزيران) من دون معارضة دمشق.
عون أو لا أحد
منذ انتقاله إلى مقر القيادة في وزارة الدفاع مزج عون بين النهجين العسكري والسياسي وبدأ التأسيس لتولي السلطة، هذا التوجه ترجمه بتكوين فريق عمل سياسي يساعده ويعمل على التواصل مع النظام السوري ومن خلال اعتماد سياسة خاصة داخل الجيش تجعله مؤيداً له وملتزماً به، هذا التوجه ترجمه أحد الضباط الموالين له، هو العميد فؤاد عون في كتاب "ويبقى الجيش هو الحل" الذي أراد من خلاله رسم خريطة طريق للعماد عون لتولي السلطة وتسلم رئاسة الجمهورية.
كان من الطبيعي أن تخلق هذه الرغبة الجامحة توتراً على الأرض بين عون و"القوات اللبنانية" بعد أن صار سمير جعجع قائداً لها. قبل ذلك كان عون قد نسق مع رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات" إيلي حبيقة في وضع الجزء العسكري من "الاتفاق الثلاثي"، وأخرج حبيقة بعد انتفاضة 15 يناير (كانون الثاني) 1986 ضده (قادها جعجع) من مقره المحاصر ونقله إلى وزارة الدفاع بطلب من النظام السوري. ومن هناك انتقل حبيقة إلى خارج البلاد ليعود بعد فترة إلى دمشق التي كانت راعية لهذا الاتفاق.
في عام 1988 برز طموح عون الرئاسي بوضوح. ففي مايو (أيار) نشر حواجز للجيش اللبناني في المناطق الشرقية في محاولة للتحكم بموضوع انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولكن تدخل "القوات اللبنانية" ورئيس الجمهورية أمين الجميل أعاد الجيش إلى ثكناته.
تشارك عون مع سمير جعجع في رفض اتفاق الموفد الأميركي ريتشارد مورفي مع الرئيس السوري حافظ الأسد لانتخاب النائب مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية ثم اتفقا على تعطيل محاولة أمين الجميل التفاهم مع الرئيس السوري حافظ الأسد في 21 سبتمبر على مخرج رئاسي غير مخايل الضاهر، ولكن ما لم يكن في الحسبان كان قرار الجميل تكليف عون رئاسة الحكومة العسكرية ليلة 22 سبتمبر 1988 بعد أن كانت معظم الاقتراحات لا تخرج عن نطاق جعله وزيراً في حكومة يرأسها مدني وتعمل على تأمين انتخاب رئيس للجمهورية، ولكن عون أمسك بالسلطة وأقام في قصر بعبدا وعمل على تعطيل أي محاولة لانتخاب رئيس جديد، واعتبر أنه يمثل الشرعية ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وقيادة الجيش على رغم اعتذار الضباط الثلاثة الكبار المسلمين عن الانضمام إلى حكومته العسكرية، وإعادة إحياء الحكومة التي كانت قائمة برئاسة سليم الحص على رغم انسحاب الوزراء المسيحيين منها وتعيين هذه الحكومة قائداً آخر للجيش هو اللواء سامي الخطيب. ولذلك اتجه عون إلى حسم الوضع العسكري في المناطق الشرقية ضد "القوات اللبنانية" في معركة محدودة حصلت في 14 فبراير (شباط) 1989، أدت إلى تنازل "القوات" أمامه وتخليها عن نقاط كثيرة كانت تتحكم بها من بينها مرفأ بيروت. بعد ذلك اتجه عون نحو فرض سلطته على المناطق الأخرى طالباً إقفال المرافئ غير الشرعية فرفض النظام السوري هذا الأمر فأعلن عون "حرب التحرير" في 14 مارس (آذار) 1989.
حروب عبثية واستسلام مذل
بدا واضحاً منذ البداية أنها حرب عبثية وغير متكافئة وناتجة عن قراءة سطحية للتوازن الذي كان قائماً في لبنان ولميزان القوى العسكري وللمواقف الدولية. اعتبر عون أنه من خلال إعلان هذه الحرب سيتحرك العالم كله ليطلب من حافظ الأسد سحب جيشه من لبنان، ولكن بدلاً من أن تكون حرب تحرير أطبق الجيش السوري الحصار على المناطق الشرقية وبدأ البحث عن مخرج من هذه الحرب في ظل رفض عون أي مخرج لا يجعله رئيساً للجمهورية.
فرضت التطورات العسكرية على الأرض تسريع البحث عن طريق للخلاص من خلال إدخال تعديلات على الدستور اللبناني وربطها بمسألة انسحاب الجيش السوري من لبنان. هذه التعديلات كانت تهدف إلى توازن السلطات والمناصفة في عدد الوزراء والنواب بين المسيحيين والمسلمين، وكان محورها البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير. التمهيد لذهاب النواب اللبنانيين إلى الطائف تولاه موفد اللجنة العربية الثلاثية، السفير الأخضر الإبراهيمي، وكانت هذه اللجنة تشكلت من العاهل السعودي الراحل الملك فهد بن عبدالعزيز وملك المغرب آنذاك الحسن الثاني والرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد، وكانت الخطة تقضي بوقف إطلاق النار وذهاب النواب اللبنانيين إلى الطائف لإقرار التعديلات الدستورية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
قبل ذهاب النواب اللبنانيين إلى الطائف وافق العماد عون على خطة الحل التي اقترحها الإبراهيمي مع أنه كان قد رفض مثل هذا الأمر سابقاً. عندما اتصل به موفده السابق إلى دمشق فايز القزي مكلفاً من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ينصحه باسمه وباسم الرئيس العراقي صدام حسين بقبول الحل العربي الذي سيحمله إليه الإبراهيمي، قال له إنه سيأتي إليه أخضر وسيرده يابساً، ولكن ميزان القوى العسكري والضغط الدولي مهدا الطريق لقبوله بتوجه النواب إلى الطائف من دون القبول بالنتائج التي تصدر عنه. ورفض عون كل حل يزيحه من قصر بعبدا ولم يتوان عن القيام بأي فعل من دون تقدير النتائج. هكذا اتخذ القرار بمحاصرة السفارة الأميركية في عوكر (شمال بيروت، محافظة جبل لبنان) الأمر الذي اضطر الإدارة الأميركية إلى اتخاذ قرار بإخلائها من الدبلوماسيين والموظفين وإقفالها. ولم يتوان أيضاً عن إصدار قرار بحل مجلس النواب في 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 قبل توجه النواب في اليوم التالي إلى مطار القليعات في محافظة عكار (شمال لبنان) لانتخاب رينيه معوض رئيساً للجمهورية، كما لم يمنع عون اعتداء مناصريه على البطريرك الماروني نصر الله صفير في الصرح البطريركي في بكركي (جبل لبنان).
رفض عون تسليم السلطة للرئيس المنتخب رينيه معوض. وأقام الرئيس الجديد في مقر موقت لرئاسة الجمهورية في بناية قدمها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري في الرملة البيضاء على رغم أنه رفض طلب سوريا اعتماد الحل العسكري مع ميشال عون طالباً منح الوقت للجهود السلمية. في هذا الوقت الضائع تم اغتيال الرئيس معوض يوم عيد الاستقلال في 22 نوفمبر 1989. وبعد يومين، انتخب النائب إلياس الهراوي رئيساً للجمهورية. وهدد الهراوي في خطاب القسم بالحسم العسكري ضد عون ولكن هذا الحسم لم يحصل.
في 31 يناير 1990، شن عون حربه في المناطق الشرقية ضد القوات اللبنانية. كان يعتقد أنه يستطيع القضاء على القوات خلال 48 ساعة ويقوي موقعه ويمنع إزاحته من قصر بعبدا. فشل في المعركة وتقلصت سيطرته إلى منطقتي بعبدا والمتن. هذه الحرب جعلت النظام السوري يمده بكل ما يحتاج إليه من أجل أن يبقى ويستمر طالما أوقف حرب التحرير التي شنها ضده وتحول إلى قتال القوات اللبنانية.
لم يستمع عون إلى النصائح الكثيرة التي أتته من أجل أن يسلم السلطة للرئيس الهراوي ويترك القصر الجمهوري ويعترف باتفاق الطائف وبنتائجه. وزاره السفير البابوي في لبنان وأبلغه طلباً من الفاتيكان بأن يلتزم نتائج "الطائف" لأن العالم كله صار مع ذلك الاتفاق، لكنه رفض الطلب. اعتبر دائماً بأنه هو من يمثل مسيحيي الشرق وليس بابا روما. البطريرك صفير زاره أيضاً وعاد من عنده خائباً. إيلي حبيقة حليف النظام السوري زاره وقال له إن الجيش السوري سيهجم وحدد له التاريخ وقال له "إذا أردت أن تنتحر، انتحر وحدك"، فلم يأبه. أمر العمليات بالهجوم السوري عليه، وصل إلى مديرية الاستخبارات التابعة له وتم إطلاعه عليه فاعتبر أنه محاولة لتضليله. كان هناك من أعطى موعداً لموفد يمثله مع رئيس الاستخبارات السورية في لبنان، اللواء غازي كنعان، يوم 13 أكتوبر، ولكن كان هذا الموعد للتضليل، فصدقه.
في 13 أكتوبر 1990 نفذ القرار بإزاحته من قصر بعبدا بغطاء دولي وأميركي سمح للطيران الحربي السوري بالتحليق في الأجواء اللبنانية واستهداف القصر الجمهوري بالقصف. ونتيجة لذلك لجأ عون بعد ساعة تقريباً على بدء العملية إلى السفارة الفرنسية في منطقة الحازمية، ومن هناك أعلن الاستسلام وطلب من العسكريين التابعين له أن يصبحوا تحت إمرة قيادة الجيش التابعة للرئيس إلياس الهراوي، ودخل الجيش السوري إلى القصر الجمهوري ووزارة الدفاع.
انطوت صفحة قاسية ودامية من تاريخ لبنان المعاصر بمغادرة عون. اعتباراً من هذا التاريخ ستبدأ فعلياً ولاية الرئيس إلياس الهراوي تحت القبضة السورية، ولكنها لن تكون المحطة الأخيرة في سيرة عون الذي سيعود إلى القصر في 31 أكتوبر 2016 رئيساً للجمهورية في ظل "اتفاق الطائف". ومرة ثانية سيكون وجوده في القصر موعداً مع رحلة جديدة وقاسية ومؤلمة من تاريخ لبنان.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها