المكتبة الوطنية اللبنانية وجه مضيء للوطن الصغير بلا كهرباء
حسان الزين - اندبندنت عربية
Thursday, April 21, 2022
ثمة هدوءان لا هدوء واحد، يلفحان ويصدمان زائر المكتبة الوطنية في بيروت (الصنائع). في العادة، يوجد في المكتبات العامة هدوء تفرضه طقوس القراءة والتركيز، لكن هنا ثمة هدوءاً فوق هذا الهدوء. هدوء ليس طقوسياً. هدوء جاثم، مطبق، يقفل القلب، ولعله يناقض الهدوء المكتباتي ويصارعه. هدوء طارد ومكبل يقبض على الزائر، كله، من لحظة اقترابه من سور المكتبة، ويرافقه خلال عبوره الحديقة، ويتأكد لحظة دخول المبنى. هدوء قاس لا يخفى أنه نتيجة مباشرة لانقطاع الكهرباء وعجز المكتبة ووزارة الثقافة، والدولة اللبنانية عموماً، عن توفير المازوت للمولدات بسبب الانهيار الاقتصادي والأزمة السياسية.
هذه الازدواجية ليست التناقض الوحيد في هذا الصرح الذي جعله ترميمه الباهظ في بلد مفلس يجمع بين البناء الكلاسيكي، من أيام نهضة بيروت في أواخر العهد العثماني (1905- 1907)، والتقنيات والمواد الحديثة في العمارة والتأثيث. فالتناقضات كثيرة ولعلها هوية هذا المكان في الظروف القاسية التي يمر بها البلد.
شاشة لبنان
وسط هذا الهدوء المزدوج، المضاعف، الأصلي والمستجد، يبدو المكان في لبنان وعاصمته وليس فيهما، في آن معاً. ففيما بيروت صاخبة ومحتشدة بالناس المستعجلين وشوارعها ومواقف السيارات فيها مزدحمة، المكتبة المطوية على صفحات كثيرة صامتة خالية إلا من قلة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة. وقد توافرت لهؤلاء القلة فرصة أن يختاروا في القاعة الفسيحة طاولات محاذية للواجهة الزجاجية الواسعة وحيث تسقط أشعة الشمس المتسللة من فتحات في السقف العالي الذي رفع فوق ما كان في السابق ملعباً مفتوحاً للرياضة أيام كان المبنى مخصصاً لكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية.
هنا، في هذا الصرح التراثي والحديث، الذي أعد ليكون مساحة ثقافية و"وجهاً مضيئاً للبنان التاريخ والحضارة ومواكبة العصر"، يشعر الزائر بأن لبنان المثقل بهمومه قد أدار له ظهره، وبأنه مكان منسي وشبه مجهول. فعلى الرغم من أن عمر المكتبة الوطنية تجاوز المئة بسنوات (منذ 1919)، وعلى الرغم من أن مقرها الحالي شهير وبارز في العاصمة، فإن قليلين يعرفون بوجودها. لعل السبب الرئيس وراء "نسيانها" بل عدم معرفة غالبية اللبنانيين بها هو أن انتقالها إلى هذا المبنى جاء خلال سنوات عجاف من انشغال البلد بالانقسام السياسي الحاد، ثم بالأزمة الاقتصادية غير المسبوقة وفق تعبير البنك الدولي، لكن هناك أسباباً أخرى لذلك، في مقدمتها أنه ليس من صورة الدولة لدى اللبنانيين الاهتمام بالثقافة إلى حد تخصيص مبنى تاريخي وباهظ التكلفة للقراءة وللعامة، وليس للسياسيين، إضافة إلى أن القراءة في أماكن عامة ولو كانت مكتبات (باستثناء الجامعات) ليست أمراً رائجاً في لبنان.
وهنا، في هذه القاعة الباذخة والأنيقة، يقتحم لبنان المنهار اقتصادياً ومالياً ونقدياً العزلة التي كأنها خارج لبنان. فالواجهة الزجاجية الواسعة مثل شاشة كبيرة تطل مباشرة على المصرف المركزي. هذه المؤسسة، التي أنشئت في 1963 وبني مقرها وفق طراز معماري اعتمدته الدولة ليعبر عن وجودها وقوتها وحداثتها، بات يرمز إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي، بل إلى الفساد وتبديد الثروة الوطنية. وكثيرون يصفونه بالمغارة، في إشارة إلى علي بابا والأربعين حرامياً. وها هو منذ انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 يختبئ خلف أسلاك وأسوار باطونية رفعتها السلطات لتحصينه في وجه المتظاهرين الذين تركوا في المكان شعاراتهم ورسومهم الغرافيتية مثل تعاويذ ضد السلطة وأحزابها.
أنشدت الاستقرار فتشردت
ولا يتوقف شريط تناقضات المكان هنا. فالمكتبة التي ولدت من مبادرة فردية أقدم عليها الفيكونت فيليب دي طرازي (1865- 1956) تختصر، إضافة إلى علاقة المواطن بالدولة، تاريخاً عاماً، تاريخ لبنان الحديث ودولته. وقد واجهت منذ بداياتها التناقض بين حلم المواطن ومبادرته وواقع الدولة والبلد، بين عمل المواطن وحرصه ومحدودية الوظيفة العامة ولا مسؤوليتها وفسادها، بين الأمان الذي يوفره المواطن والخطر الموجود في البلد والدولة. لقد واجهت المكتبة التي ولدت لأب هو طرازي والأدباء الذين عملوا معه اليتم، وفيما أنشدت الاستقرار ترصد بها التشرد ثم عصف بها، وبعد أن رغبت في التوسع هددها واقع البلد وقدرات الدولة ومؤهلاتها، وإذ تاقت إلى لقاء القراء في مكان عام وجدت نفسها مراراً مضطرة إلى الاختباء والتواري والخوف في الرطوبة والعتمة وتحت الأيدي العابثة. حصل معها ذلك من لحظة بحثها عن بلد ودولة يتبنياها. وبات ذلك أمراً واقعاً حين ضاق منزل طرازي، جامع الكتب ومؤرخ الصحافة العربية، بمكتبته المكونة من نحو 20 ألف وثيقة مطبوعة وثلاثة آلاف مخطوطة بلغات عديدة. وإذ وجد لها مأوى في مدرسة "الدياكونيس" في وسط بيروت (1921)، اطمأن لكنه لم يكتف. ومذاك، نشط لتحويلها مؤسسة رسمية أطلق عليها اسم "دار الكتب الكبرى". وطرق الأبواب حتى قبلت السلطات ذلك، فأخذتها وأتبعتها لمديرية المعارف العامة في 8 ديسمبر (كانون الأول) 1921. ولم يسكن طرازي حتى افتتحت رسمياً في 25 يوليو (تموز) 1922 تحت رعاية المفوض السامي الفرنسي الجنرال غورو.
وواصل طرازي الذي عين أميناً عاماً للدار حتى 1939 مبادرته الخاصة التي عرف لبنان كثيراً مثلها في سنوات ولادة دولته الحديثة، لكن وفيما نشط ما بين 1922 و1928 في الخارج لزيادة الرصيد من الكتب والمقتنيات، غرقت الدار حديثة الولادة بالفوضى وقلة الخبرة. وقد واجه ذلك بخطة لمأسستها مستعيناً بمتخصصين. وبعد أن عمل مع السلطات لإصدار قرار "الإيداع القانوني" الذي وقعه الجنرال ويغان في 17 يناير (كانون الثاني) 1924، استمر في نشاطه لإصدار مرسوم النظام الأساسي للمكتبة الوطنية، وكان ذلك في 1935 حين ألحقت بوزارة التربية الوطنية.
وما بين 1937، سنة انتقال المكتبة إلى مبنى البرلمان المشيد حديثاً آنذاك من تصميم المهندس مرديروس الطونيان، و1975 سنة اندلاع الحرب في لبنان، نمت مجموعتها من 32 ألف كتاب ومخطوطة إلى 200 ألف، إضافة إلى أرشيف نادر يحتوي على وثائق إدارية وتاريخية عثمانية ومستندات ودراسات عن بعثة هوفلان التي شكلت أرشيف السنوات الأولى للانتداب، ما جعل المكتبة مرجعاً للجامعيين والمدرسين والمسؤولين الإداريين وباتت تساعد المكتبات العاملة في لبنان، لا سيما الجامعية منها. وخصصت فيها قاعة ضمت تحفاً فنية ومخطوطات قديمة منها "شاهناما الفردوسي"، وضمت لوحات زيتية لرواد النهضة الفنية والأدبية منذ القرن الـ17 حتى القرن الـ20.
بين حربين
ويتواصل عرض التناقضات. فالمكتبة التي بدأت قصتها بعد الحرب العالمية الأولى كادت الحرب الأهلية (1975- 1990) أن تضع لحياتها حداً، وقد آذتها ودمرتها وخطفتها وشردتها وأوقفت نموها، بل نقصت تحت وطأة الإهمال والتخزين على عجل والسرقة من مئتي ألف كتاب ومخطوطة ولوحة وتحفة فنية إلى 150 ألفاً من هذا وتلك. وينقل موقع وزارة الثقافة عن "مصادر" أن المكتبة "فقدت 1200 مخطوطة نادرة ولم يبق أي ذاكرة عن كيفية تنظيمها وطرق سير العمل فيها".
ويروي موقع الوزارة عن المكتبة في أيام الحرب أن الحكومة أصدرت، في 1979، "مرسوماً قضى بتجميد أنشطتها، وأوكلت مهمة حفظ المجموعة التاريخية: المخطوطات واللوحات الزيتية والأعداد الأولى للدوريات اللبنانية من مجموعة طرازي إلى مصرف لبنان ومن ثم إلى مؤسسة المحفوظات الوطنية".
وفي 1983، "نقلت الكتب والدوريات إلى مستودع في قصر الأونيسكو بهدف المحافظة عليها، إلا أن أضرار الحرب لحقت بها، مما أثر سلباً على ظروف تخزينها (رطوبة وحشرات)".
وبعد سنة من إنشاء وزارة الثقافة (1993) التي أصبحت المكتبة من صلب مهامها، وجدت بعثة من خبراء المكتبة الوطنية الفرنسية، أن مكونات المكتبة الوطنية اللبنانية بحاجة إلى إنقاذ عاجل ومكان وظروف آمنة، فنقلت إلى "مستودع أكثر جفافاً" (في سن الفيل شرق بيروت)، بحسب الوزارة.
وبقي الوضع على حاله خمس سنوات، حتى جاءت بعثة فرنسية وأوروبية (1999)، فتحت الطريق لتمويل ورشة إعادة تأهيل المكتبة الوطنية. وآنذاك، "قرر مجلس الوزراء أن يوضع مبنى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية في الصنائع، تحت تصرف وزارة الثقافة لإقامة المقر النهائي للمكتبة الوطنية. وقع اتفاق بين وزارة الثقافة والوكالة العالمية للترقيم الدولي (ISBN) يخول لبنان الانتساب إلى نظام الترقيم الدولي. وفي سنة 2000 تم تطبيق الترقيم الدولي الموحد للكتاب الذي يعطي كل كتاب صادر في لبنان، رقماً دولياً وهوية عالمية".
منحى إيجابي
ولم تنته مسيرة تشرد المكتبة، وإن أخذت منحى إيجابياً، ففي أبريل (نيسان) 2000، نقلت مجموعة الكتب والدوريات مرة أخرى إلى مقر الجامعة اللبنانية في الحدث، وجرى تعقيم المجموعات تحت إشراف المركز الدولي لحفظ الكتاب في "آرل" (فرنسا)، وذلك في إطار مشروع "مانوميد"، مخطوطات المتوسط.
وفي 2002، خصص مقر مؤقت للمجموعات في حرم المنطقة الحرة من مرفأ بيروت، حيث جهزت المحترفات التي يعمل فيها فريق من المتخصصين للقيام بتنظيف محتويات المجموعات وفرزها وجردها.
وفي 2003، انطلق مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية ومدته ثلاث سنوات. وهدف إلى المعالجة المادية والفكرية للمجموعات، وتدريب الموارد البشرية، وإنشاء المكتبة الوطنية كمؤسسة عامة مستقلة، وإعداد المباراة الهندسية. وقد مول الاتحاد الأوروبي معظم هذا المشروع وبلغت موازنته 1375000 يورو (نحو 1.5 مليون دولار)، شارك الاتحاد الأوروبي بما نسبته 80 في المئة منها، فيما أخذت الدولة على عاتقها 20 في المئة.
وفي 2005، قدمت قطر 25 مليون دولار لترميم المبنى القديم وبناء المساحات الإضافية اللازمة للمكتبة.
وفي 2007، أطلقت الدولة اللبنانية مشروع إعادة النهوض بالمكتبة الوطنية كتتمة لمشروع التأهيل، وأخذت على عاتقها مهمة تمويله. وتتمحور مهام المشروع حول فهرسة مجموعات المكتبة الوطنية وتصنيفها، وترميم الوثائق القديمة، وإجراء الأبحاث الببليوغرافية لتنمية المجموعة الحالية وإنشاء موقع المشروع على شبكة الإنترنت.
كنز وطني ينتظر
والمكتبة الوطنية في بيروت ليست هذه القاعة الفسيحة الباذخة والخالية والهادئة فحسب، هناك كنز في مستودعات الطبقات الثلاث التي حفرت تحت المبنى التراثي. فالكتب واللوحات الفنية والتحف الأثرية المعروضة في القاعة وأرجاء المبنى هي جزء يسير مما تسكت عنه المخازن. وكثير مما هو موجود هناك لم ينجز بعد مشروع مكتبته، ولم يوضع في متناول الجمهور، بالتالي الخوف مشروع عليه وعلى مصيره. وحجة ذلك التقشف الذي يحكم عمل الوزارة والمكتبة والظروف الإدارية والمالية الناتجة من الأزمة الاقتصادية. وحتى مجموعات الكتب التي تلقتها المكتبة، وأبرزها مجموعة من مكتبة القانوني الراحل إدمون نعيم، لم تدخل بعد نظام المكتبة الوطنية على الرغم من تخصيص قاعات لها ما زالت مغلقة أمام القراء والباحثين. فالمكتبة كلها شبه مغلقة، متوقفة، بما في ذلك الكمبيوتر الذي يضم فهرس الكتب. كنز وطني يضم أيضاً عاملين متخصصين وفنانين احترفوا حفظ الكتب والمخطوطات وترميمها، يعاني الإخفاء القسري، مؤجل ومخزن في المجهول، معلق على شريط كهرباء، في مبنى تراثي رمم ببذخ الآخرين وفي مكان الأقدمين وعلى حساب الأولين وأحالته الدولة على التقاعد المبكر، على التشرد والبطالة المقنعين، وقد وفرت له متعة أن يشاهد مصرف لبنان ويقرأ الشعارات المتروكة على جدرانه، ويحصي المارة العابرين، وينتظر ربما قرّاءً وربما الدولة وربما فيليب دي طرازي.