منذ عام 2005 لم يشهد لبنان إقراراً لأي موازنة للدولة في موعدها القانوني بحسب الدستور، وذلك نتيجة الخلافات السياسية الدائمة بين أطراف السلطة، لدرجة أن التأخير في إقرار الموازنة العامة بات "عرفاً" اعتاد عليه اللبنانيون وتأقلمت معه المؤسسات والإدارات الرسمية التي تعتمد بنفقاتها على ما يعرف بقاعدة "الاثني عشرية". وطيلة 11 عاماً على عدم إقرار أي موازنة، شهد عام 2017 عودة إعداد الموازنات وإقرارها ولكن بتأخير ثمانية إلى 10 أشهر عن موعدها الدستوري.
ووفق المادة 83 من الدستور اللبناني "تقر الموازنة كل سنة في بدء عقد أكتوبر (تشرين الأول) الذي يبدأ أول ثلاثاء يلي 15 أكتوبر، تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة لنفقات الدولة ودخلها عن السنة المقبلة ويقترع على الموازنة بنداً بنداً"، الأمر الذي نادراً ما ينجح في لبنان وبالتالي تعتمد الحكومة على موازنة العام السابق لتسيير أمورها.
وفي ما يتعلق بموازنة 2022 التي أقرت نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي، برز العجز جلياً بين قيمة النفقات التي حددتها الموازنة بـ40 تريليوناً و873 مليار ليرة (نحو 1.2 مليار دولار وفق سعر الصرف بالسوق الموازية البالغ أكثر من 38 ألفاً للدولار)، في حين بلغت قيمة الإيرادات 29 تريليوناً و986 مليار ليرة (نحو 810 ملايين دولار)، أي أن العجز ناهز نحو 10 مليارات ليرة (نحو 390 مليون دولار).
وتظهر أرقام واردات الموازنة احتساب الدولار الجمركي بقيمة 15 ألف ليرة لبنانية، في سعر صرف جديد يضاف إلى الأسعار المتعددة المعتمدة في البلاد منذ بدء الانهيار الاقتصادي، على الرغم من توصيات صندوق النقد بوجوب اعتماد سعر صرف موحد وفق السوق الموازية.
طريق شائك
وعلى الرغم من أن إقرار الموازنة في الربع الأخير من السنة، لم يكن طريقه ميسراً، إذ أقرت في المجلس النيابي بأغلبية بسيطة وكادت تسقط لولا الضغوطات المستمرة من صندوق النقد الدولي، وبعد إقرارها في 27 سبتمبر الماضي في المجلس النيابي رفض رئيس الجمهورية ميشال عون حينها التوقيع عليها لنشرها، ما أدى إلى تأجيل دخولها حيز التنفيذ لمدة 40 يوماً وهي مهلة دستورية مناطة برئيس الجمهورية لنشر القوانين أو إعادتها لمجلس النواب، وفي حال عدم اتخاذ الرئيس أي من القرارين تنشر تلقائياً.
ولم تمر عدة أيام على النشر ودخولها مرحلة التنفيذ ابتداء من الثامن نوفمبر (تشرين الثاني)، تقدم 10 نواب بطعن أمام المجلس الدستوري لتدخل الموازنة في تطور جديد قد يعيد خلط الأوراق، خصوصاً وأن بنود الموازنة بدأت الدخول حيز التنفيذ تباعاً، ومنها زيادة رواتب القطاع العام ثلاثة أضعاف واعتماد سعر جديد للدولار الجمركي.
مراعاة الظروف
إلا أنه تفادياً للفوضى المتوقعة في الظروف التي يمر بها لبنان، أصدر المجلس الدستوري قراراً، قضى بـ"عدم تعليق العمل بقانون الموازنة العامة، ريثما يتم البت بالطعن المقدم أمامه من قبل عدد من النواب التغييريين".
ووفق المعلومات، فإن الطعن المقدم من بعض النواب يستند إلى عدم وجود قطع حساب، الأمر الذي اعتبره المجلس الدستوري حالياً لا يوقف مفعول الموازنة بمجملها أي أن ما أقر فيها سيستمر تنفيذه إلى حين البت بالأساس، حيث إنه في الظروف العادية وفي تجارب سابقة مشابهة، فإن عدم وجود قطع حساب يبطل قانون الموازنة، ولكن في الظروف الاستثنائية الحالية يتم تجاوز الأمر.
واعتبرت النائب في تكتل التغييريين بولا يعقوبيان، وهي من بين النواب الـ12 الذين تقدموا بالطعن، أن الإصلاح الجذري مفترض أن يكون داخل القطاع العام ومن خلال شطب الوظائف غير القانونية التي يصل عددها إلى 32 ألف وظيفة، مشيرة إلى أن "هذه الموازنة لم يسبقها قطع حساب، كما أن المجلس الدستوري يمكنه ليس فقط إبطال القانون، بل التصويب في حال حصول أي خطأ أثناء إصدار القوانين أو نشرها".
موازنة "تضخمية"
ويخشى بعض الاقتصاديين أن يتسبب رفع رواتب القطاع العام من موظفين وعسكريين إلى موجة تضخم كبيرة يضطر المصرف المركزي لطبع أطنان من الليرات لتغطية عجز موازنة 2022، لا سيما أن العجز الدفتري يقدر بنحو 390 مليون دولار، في حين أن الإيرادات لن تكون كما هو منصوص في الموازنة، وبالتالي قد يناهز العجز الحقيقي المليار دولار، الأمر الذي يؤدي إلى انهيار إضافي في سعر صرف الدولار.
ووفقاً للأرقام فإن القطاع العام يتألف من 320 ألف موظف، يشكلون 25 في المئة من حجم القوى العاملة في لبنان. ضمنهم 120 ألف متقاعد. وبحسب موازنة 2021 فإن الدولة تتكلف 12 ألف مليار ليرة سنوياً كلفة رواتب للقطاع العام، في حين أن دخلها لا يتعدى 14 مليار ليرة سنوياً.
وعلى الرغم من الفائض في القطاع العام جرى توظيف 5300 موظف في القطاع العام، وفق أرقام لجنة المال والموازنة التي كشفت عن أن 32 ألف موظف أُدخلوا إلى القطاع العام خلال السنوات الماضية من قبل أطراف سياسية، وقد تم هذا الأمر عبر خلق مناصب جديدة أو توظيفات وهمية.
شورى الدولة
وفي الإطار القانوني، يقول منسق اللجنة القانونية في "المرصد الشعبي" المحامي جاد طعمة، إنه "عند قيد المراجعة في قلم المجلس الدستوري يقوم رئيسه بتوجيه دعوة من أجل تدارس ما إذا كان يقتضي وقف تنفيذ النص القانوني موضوع المراجعة وتعليق العمل به إلى حين البت بالطعن، فإن قرر المجلس ذلك كان لا بد من نشر قراره في الجريدة الرسمية وإبلاغ نسخة عنه مصدقة إلى كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء".
ويلفت إلى أن "قرار المجلس الدستوري يصدر في مهلة أقصاها 15 يوماً من تاريخ انعقاد الجلسة، ويوقع القرار من الرئيس ومن جميع الأعضاء الحاضرين، ثم يدون في سجل خاص للحفظ لدى رئيس المجلس، علماً أن القرارات المتعلقة بمراجعة الطعن بدستورية القوانين تتخذ بأكثرية سبعة أعضاء على الأقل".
ويشير "وفي معرض البت بالمراجعة، يعلن المجلس الدستوري ما إذا كان القانون مطابقاً أو مخالفاً كلياً أو جزئياً للدستور. فإن وجده مطابقاً ترد المراجعة، أما إذا وجد مخالفات فإنه يقضي بإبطال القانون المطعون فيه كلياً أو جزئياً بقرار معلل يرسم حدود البطلان"، مضيفاً أن تقديم المراجعة أيضاً أمام مجلس شورى الدولة متاح لكل صاحب مصلحة وصفة، وإن كان مواطناً، شرط أن يكون متضرراً من القرار الإداري النافذ والضار.
تجميد مفاعيلها
وفي هذا السياق يوضح المتخصص الدستوري المحامي أنطونيو فرحات أنه "في أي طعن يجب التمييز بين الشكل والأساس، إذا قدم الطعن خلال مدة 15 يوماً من نشر القانون في الجريدة الرسمية يعتبر مقبولاً من حيث الشكل، وإذا قدم خارج هذه الفترة فإنه يرفض مهما كانت الأسباب الموجبة له، وفي الحالة التي أمامنا فإن الطعن مقبول لأن الموازنة نشرت في الجريدة الرسمية في 15 نوفمبر. ومن حيث المضمون، يستطيع المجلس الدستوري تقدير الموقف واتخاذ قرار بوقف الموازنة مؤقتاً أو احترازياً إلى حين البت بالطعن، وذلك خلال مهلة لا تتجاوز الشهر أي قبل أيام من بداية عام 2023".
وحول التداعيات وإمكانية خلق فوضى واستنسابية بتنفيذ البنود، يشير إلى أنه يجب تجميد المواد القانونية المبنية على أرقام الموازنة المبينة على أساس 15 ألف ليرة للدولار بدل 1500، وبالتالي لا يمكن أن تدخل حيز التنفيذ، ومن ضمنها الدولار الجمركي، الذي وإن كان صادراً بموجب قرار عن وزارة المال إلا أنه يستند في الأساس على أرقام الموازنة.
طعن جديد
وبحسب المعلومات يتجه محامون في منظمة "ريفورم" (منظمة متخصصة بتطوير وإصلاح التشريعات والنظم القانونية) إلى تقديم طعن بقرار وزير المال المتعلق بسعر الصرف المعتمد وفق منصة "صيرفة" التابعة للبنك المركزي (على مستوى 30300 ليرة وهو سعر متحرك) في تحصيل ضريبة الدخل، التي تصل إلى 25 في المئة، الذي على حد تعبيرهم هو قرار مجحف، بحق من يقبض راتبه بالدولار "فريش" أو "اللولار"، أي وفق الدولار المصرفي، وغير عادل، خصوصاً أنه يساويهم بالتجار الذين يجنون أرباحاً طائلة.
وهناك سبعة شطور في السلم الضريبي، اثنان في المئة، أربعة في المئة، سبعة في المئة،11 في المئة، 15 في المئة و25 في المئة، المتضرر الأكبر منها من يتقاضى رابته بالدولار الأميركي الذي سيحتسب وفق سعر صيرفة، ما يرفعه بشكل كبير بالليرة اللبنانية ويعرضه للضريبة الأعلى، وذلك في وقت ترتفع فيه تكاليف العيش والصحة والتعليم في لبنان، وتغيب الدولة عن أداء واجباتها تجاه المواطنين وتحرمهم من أبسط الخدمات.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها