القطاع الصحي في لبنان.. يئنّ وانفلاش «الكوليرا» يزيد صراخَه
صحيفة الراي الكويتية
Thursday, April 21, 2022
أضاء انتشارُ مرض الكوليرا في مناطق عدة في لبنان على ملف الصحة، من زاوية التدهور الذي أصاب هذا القطاع منذ انهيار سعر الليرة.

فالكوليرا مرض ينتشر بسبب المياه الملوَّثة والبنى التحتية المهترئة وانعدام النظافة معطوفاً على فقدان الأدوية اللازمة. وفي لبنان تجتمع كل هذه العوامل لا سيما في المناطق الأكثر فقراً والتجمّعات السكانية الأكثر اكتظاظاً. فلا اللبنانيون قادرون على تأمين مياه شفة عذبة أو شراء مياه التعبئة المكفولة من وزارة الصحة، ولا موادُ التطهير اللازمة أو الأدوية الأساسية متوافرة بأسعار مناسبة وفي متناول جميع اللبنانيين، وكل ذلك وسط انهيار البنى التحتية الكفيلة إيصال مياه شفة آمنة إلى المنازل، وهو انهيارٌ شمل كل البنى التحتية من مياه وكهرباء وطرق وسلامة عامة.

فمنذ عامين وأوضاع اللبنانيين الصحية في تراجع مستمر، فيما كانت البلاد معروفةً بقطاعها الصحي وبتحوُّلها بلداً إستشفائياً على خريطة السياحة الطبية. لكن هذا القطاع تدهور نتيجة إرتفاع سعر الدولار والأزمة التي رافقت المستشفيات مع تعثُّر تأمين المتطلبات الطبية والأدوية من الخارج نتيجة إجراءات مصرف لبنان وإنخفاض سعر الليرة. وعلى مدى عامين وأكثر، تراجع القطاع الصحي في صورة ملموسة ومأسوية، وتَفاقَمَ الأمر مع هجرة الأطباء والممرّضين الى الخارج بحثاً عن حياة أفضل، فيما بقيت المستشفيات تعاني عجزاً مستمراً زاده سوءاً تعثُّر قطاع التأمين وإنهيار المؤسسات الرسمية الضامنة.

قد يكون مرضى السرطان الأكثر تأثراً بحالة الانهيار الصحي ولا سيما مع فقدان الأدوية الخاصة وتَعَذُّر تأمينها عبر وزارة الصحة التي كانت تتولى توفير غالبية الأدوية السرطانية المرتفعة الثمن، الأمر الذي يضطر المرضى إلى تأمينها عبر تركيا التي صارت مقصداً للبنانيين المرضى والتجار والصيادلة الذين يؤمنون الأدوية عبرها كما من مصر والأردن وإيران. وقد أصبحت هذه التجارة رائجة، وباتت مجموعةٌ من التجار المختصين يسافرون إلى تركيا لتأمين أدوية بنسبة أرباح معينة. علماً ان القطاع الإستشفائي في لبنان كان يعتمد على مصادر أوروبية وأميركية وكانت شركات الإستيراد ترفع سقف معاييرها لتأمين الأفضل من الأدوية والمستجدّ منها في عالم الصحة.

والأخطر بحسب أطباء يتابعون تطور انهيار قطاع الاستشفاء لا سيما لدى مرضى السرطان، ان كل حملات الوزارات المختصة كانت تقوم على التوعية المبكرة والفحص المبكر مثلاً لسرطان الثدي. لكن النساء غالباً ما بتن يتجاهلن زيارة الطبيب المختص والقيام بفحوص دورية لتفادي الأمراض السرطانية والكشف عليها مبكراً. والأمر نفسه ينسحب على مرضى السكري والقلب والأمراض المزمنة.

ولم يقتصر الانهيار على قطاع واحد بل طاول كل مجالات الصحة، النفسية منها بعد انتشار أدوية المهدئات في شكل غير مسبوق، إضافة إلى الجسدية على مختلف مستوياتها. ورغم كل التحذيرات والحملات الإعلامية من أجل تعزيز القطاع الإستشفائي يغرق اللبنانيون أكثر فأكثر في متاهة فقدان الأدوية وتَعَذُّر الطبابة اللائقة.

في عيادة أحد أطباء الأطفال، تكثر روايات الأمهات عن التبدُّل في حياة أطفالهن من أبسط مقومات النظافة الشخصية للأطفال عبر إزالة المنظفات والمعطّرات من قاموسهن، وصولاً إلى الحليب الذي فُقد من أسواق لبنان ويُؤمَّن غالباً من المغتربين خارجه. ويقول أحد الأطباء إن الفحوص الدورية للأطفال تتراجع، ولا تقصد الأمهات العيادة في زيارات روتينية، بل عند الضرورة القصوى وخصوصاً أن تكلفة المعاينة باتت تراوح بين 20 و 40 دولاراً بحسب الطبيب، إذ لا توجد في لبنان تعرفة موحّدة، وما زالت نقابة الأطباء تحدد الكلفة بالليرة اللبنانية لكن الأطباء لا يلتزمون بها. ويقول الطبيب عينه ان عماد الصحة العائلية يبدأ في تعزيز مناعة الأطفال وهذا الأمر لم يعد متاحاً في لبنان بالشكل الذي كان معتمَداً سابقاً، وسنشهد تغيرات في سلوكيات الأطفال وصحتهم، وخصوصاً لمَن يعانون مشاكلَ خاصة سواء منها صحية، أو تعليمية.

بدوره يشير طبيب أسنان إلى أن مواعيده إانخفضت إلى النصف، فأي معاينة لن تقل عن خمسين دولاراً، واللبناني الذي كان يزور عيادة طبيب الأسنان في صورة دورية ويتابع باهتمام صحة أسنانه إنكفأ وبات لا يزور الطبيب إلا عند الوجع، ومن دون عناية مسبقة وهو الأمر الذي كانت تشدد عليه كل حملات التوعية. وتتحدث صاحبة إحدى الصيدليات، عن تراجع مبيع الأدوية والمتممات الغذائية والفيتامينات، وتكشف عن انه مع إنتشار وباء كورونا ونصائح منظمة الصحة العالمية تَهافَتَ اللبنانيون على شراء الفيتامينات، لكن مع إنحسار الوباء تَراجَعَ الطلب عليها، لإرتفاع سعرها بعدما لامس الدولار أربعين الف ليرة.

في إحدى المستشفيات العريقة، يقبع أحد المرضى الذي يعاني كسراً في كتفه، وفيما هو يئنّ من الوجع، يحاول أهله تأمين مبلغ يتخطى عشرين ألف دولار لتغطية كلفة عملية جهاز خاص لكتفه. فهو غير مُسجَّل في أي شركة تأمين، فيما المستشفى يرفض اعتماد تعرفة الضمان الاجتماعي (المؤسسة الحكومية الضامنة للموظفين والعمال) لأنها منخفضة جداً وبالليرة اللبنانية، فيما تحوّل كل قطاع التأمين إلى «فريش دولار». وبدورها تنتظر إحدى المريضات تأمين كلفة علاجها لعملية في القلب بعدما رفضت شركة التأمين إلا دفع نصف المبلغ أي نحو عشرة آلاف دولار، فيما عليها تغطية النصف المتبقي.

وغالباً ما تضجّ صفحات التواصل الإجتماعي بنداءات وطلب مساعدات لتغطية علاج أو عملية بآلاف الدولارات. ورغم إنتشار الجمعيات الإنسانية والمؤسسات الإجتماعية إلا انها تقع بدورها في عجزٍ لتأمين جزء يسير من الخدمات الصحية والأموال اللازمة لتغطية العلاجات والأدوية. ويروي مسؤول إداري في إحدى المستشفيات انه غالباً ما يتلقى إتصالات من نواب أو وزراء أو جهات رسمية للتوسط من أجل تخفيف أكلاف علاجات مرضى، علماً أن هؤلاء هم الذين يفترض أن يؤمنوا المساعدات للبنانيين لا المستشفيات والأطباء ولا سيما ان القطاع الإستشفائي قطاع خاص في غالبيته في حين ان المستشفيات الحكومية تعاني الترهل والإنهيار نفسه الذي تعانيه مؤسسات الدولة. في المقابل فإن ظاهرة هجرة المرضى إلى دول أوروبية أو عربية بحثاً عن علاجات أفضل باتت عالية وخصوصاً للميسورين الذين أحياناً يتتبّعون طبيبهم الذي بات يعمل في دول عربية مجاورة.

كلما انخفض سعر الليرة، تشظى قطاع الاستشفاء مرة تلو أخرى، واللبنانيون الضحايا باتوا يعيشون كما المثَل اللبناني من «قلّة الموت» لا مِن كثرة الاعتناء بصحتهم.

CSS smooth scrolling effect when clicking on the button Top