عندما أشرت لأول مرة إلى عنصريتنا كعرب، في مطلع هذه الألفية في لقاء أكاديمي، قوبلت بالدهشة والاعتراض. ففي ذهن العرب والمسلمين أنهم مثال التسامح وقبول الآخر. خصوصاً أبناء الديانات الأخرى.
لكن نموذج عنصريتنا "الخفية"، يختصر بجملة صدام حسين الشهيرة:" أكراد وعرب، كلنا عرب". أو في بعض خطب الجمعة عندما يحرض رجال الدين على المذاهب والأديان الأخرى. أو الهجوم الذي شنته وكالة أنباء (مهر) الايرانية شبه الرسمية، في العام 2008، على الشيخ القرضاوي الذي يذهب إلى حد القول "أنه لا امكانية للتلاقي بين السنة والشيعة". وردّ عليهم بالمناسبة، أن بعض غلاتهم يسبّون الصحابة على منابرهم.
نقلت كارولين كامل، في رواية "فيكتوريا"، مشاهدات البطلة كطفلة قبطية تعرضت للتمييز في مجتمع مسلم. مع تحذير الكاتبة انها رواية خيالية. والأرجح انها فعلت ذلك تحسباً للرقابة. مما تنقله أنها كانت تسمع من نافذة صفها أحد رجال الدين، ينهي خطبة الجمعة بالدعوات على اليهود والنصارى، أحفاد القردة والخنازير. ويدعو بأن يصيبهم البلاء وتترمل نساؤهن وو..
لا شك أن هذا موقف بعض رجال الدين المتعصبين، خصوصاً بعد اجتياح الإسلام السياسي للساحة. لكن هذا يتطلب تدخل الدولة لمنع هذا النوع من التحريض المرفوض في عصر الذكاء الاصطناعي.
لكن التمييز يطال الأقباط على مستويات أخرى لم تعالجها الدولة بقوانينها المفترض ان تكون منصفة. ففي نفس الرواية تشكو التلميذة من أن عُطَل الاعياد المسيحية تقتصر على يوم واحد، بينما أعياد المسلمين تمتد لعدة أيام. ويطال التمييز الترقية في الوظيفة، التي تتأخر ايضا بالنسبة للمسيحيين.
ونعلم إن الأقباط يشكلون حوالي 15 %من الشعب المصري أي 18 مليوناً، ولا تعكس بنية الدولة والنظام والسلطة والمجتمع هذا الواقع. ونموذج بطرس غالي لا يغني عن جوع.
إن اضطهاد الآخر المختلف في المجتمعات العربية لا يحتاج الى برهان ولقد أثير موضوع اليد العاملة الأجنبية كثيراً بمناسبة المونديال في قطر. ولا زلنا نذكر تفجير الكنائس في مصر ورمي النساء غير المحجبات بماء النار وأسلمة المسيحيات وإعدام الخنازير بحماس عندما أشيع خبر فيروس يصيبهم. أما ممارسات داعش ودولة الخلافة الاسلامية ضد الأقليات من كل نوع وباسم الدين وبذريعة بعض الآيات، فلا تزال تتردد أصداءها حتى الآن.
ربما هذا ما حفّز انعقاد مؤتمرٌ دعت إليه وزارة الأوقاف المغربية ومنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وعنوانه: «حقوق الأقليات الدينية في المجتمعات الإسلامية»، في مدينة مراكش عام 2016 وأصدر اعلان مراكش الشهير، الذي دعا إلى المساواة بين جميع البشر بغض النظر عن الدين، باعتبار "أن الخالق كرّم الإنسان ومنحه حرية الاختيار، وأن كل بني البشر، مع كل الفوارق بينهم، هم إخوة في الإنسانية".
وهذه خطوة جيدة لكنها غير كافية. فمن الانتقادات التي وجهت لها، أنها تعتبر أن "صحيفة المدينة " هي الأساس المرجعي المبدئي لضمان حقوق الأقليات. ما يطرح مشكلتان: الأولى أنها وثيقة منسية تم تغييبها كليا على المستوى التشريعي خلال الأربعة عشر قرنا الماضية، واستبدلت بما سمي ـ"أحكام أهل الذمة" عند فقهاء الشريعة. وهي أحكام تقوم على مفهوم الغلبة والقوة وليس على مفهوم العيش المشترك، أو معنى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات. أما المشكلة الثانية فهي إنها تستعمل مفاهيم وأوصاف لا يمكن اعتمادها اليوم في إطار المواطنة، مثل "المشرك" و"الكافر"..
إن فكرتنا عن انفسنا أننا متسامحون، لأن الدين الاسلامي كان سمِحاً تاريخياً وقَبِل الديانات والاعراق الأخرى وتعايش معها بسهولة، كأهل ذمة ومقابل الجزية، لم تعد كافية. كان هذا التسامح أمر متقدم في الأزمنة القديمة، لكنه لم يعد يناسب المعايير الحديثة.
التسامح يشير إلى وجود موازين قوى غير متعادلة، هناك طرف اقوى من الآخر، يتلطف ويتسامح مع الآخر فيتنازل ويقبله!!
لم يبدأ الكلام عن التسامح إلا لأن الحق بالاختلاف لم يكن معترفاً به تاريخياً، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالدين. فالتسامح يعني التعاطف مع معتقدات او ممارسات يعتقد المرء أنها خاطئة. وفكرة التسامح مع المسيحي تشير مباشرة إلى كونه مقبولاً في المجتمع الاسلامي الواسع "كذّمي". يمنح القبول كهبة في عالم، كان بالتحديد، مهد المسيحية التي سبقت الإسلام زمنياً!
هذا لا يعني القبول بالرأي الشائع الذي يتهم الإسلام بالظلامية والاستبداد وعدم قابليته للتطور. لأن ممارسات التعصب وقمع الآخر المختلف لا تقتصر على المجتمعات العربية أو الاسلامية. وعلى رأي أمين معلوف، علّمنا القرن العشرين عدم وجود آية عقيدة تحررية حكماً في ذاتها. فكل العقائد يمكن أن تنحرف، وكلها ممكن أن تكون مضللة، وكلها تلطخت أيديها بالدماء. من الشيوعية إلى الليبرالية الى القومية والى كل الديانات الكبرى وحتى العلمانية. فلا احد يحتكر التعصب كما لا أحد يحتكر البعد الانساني.
موضوع الأقليات أصبح يتطلب المصارحة والمعالجة الجدية دون مواربة. وموجة إظهار الاختلاف ليست صدفة. لأنها طريقة للاندماج في العالم عن طريق التمايز بدل الانسحاب والانزواء الذي يعبر عن تكيف اقل. يمكننا الآن اعتبار العودة المكثفة الى الرموز والاشارات والطقوس كنوع من الدفاع عن الذات الثقافية عبر "تمييزها". لكن ذلك يطرح في المقابل مشكلة التمييز السلبي، ويطرح مشكلة الآخر وعلاقته ب"الأنا" و"النحن" وال "ما بيننا".
وكي لا تعتبر هذه الرموز دليلاً على شوفينية أو طائفية، يدعمها الخوف من "الآخر" المعتبر كمهَدِّد داخلي للنظام الاجتماعي، علينا بالاعتراف بهذا الآخر \ الآخرين.
وللاعتراف شكلان: الاعتراف كمختلفين عن الاخرين بواسطة التمايز، بين مجموعات متباينة. والاعتراف كشبيهين لهم بواسطة الامتثال، ضمن مجموعة متجانسة. وهما مستويان يمكن تعايشهما دون تنازع عندما نعيش في دولة قانون، نظامها ديموقراطي تعددي، وتحمي حرّية التعبير كمسألة جوهرية. كما نأمل ان ينجح لبنان في بلوغه يوماً.
حرية التعبير هي حرية اختيار طريقة العيش أو الاعتقاد التي تروق لنا. وهي تشمل التعبير عن آراء قد لا تروق للآخرين بل ربما تنطوي على إمكان أن تثير غضبهم وحنقهم كما قد يثير الآخرون غضبنا وحنقنا.
لكن هذا هو جوهرها الحقيقي. حرية التعبير ليست إرضاء او تعزية لأحد، بل تحدياً وتحريضاً. هذا ما يتحتم على جميع الأوساط في دولنا، أن تدركه وتتعلم التكيف معه.
ملاحظة أخيرة:
كما يستفزنا تعامل الأكثرية مع الاقليات بفوقية والتصرف كأنهم غير موجودين، تستفزنا أيضاً تجارب الأقليات التي اضطهدت الأكثرية، كتجربة نظامي البعث في العراق وسوريا. ويستفزنا الثنائي الشيعي في محاولة فرضه لرئيس. كما يستفزنا سلوك ورثة المارونية السياسية بتبنيهم وتكرارهم لمقولة، ان البلد صنع من اجلهم او أنهم أوجدوه!! وما يهمّهم مركز الرئاسة المارونية وليس مصير لبنان الوجودي.
السؤال كيف يمكن التوفيق بين فكرة لبنان الموجود منذ آلاف السنين!! ولبنان الموجود فقط لأبناء مار مارون؟
نريد أوطاناً تتسع لجميع مواطنيها، دون فضل من أحد على أحد. مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات في دولة ديوقراطية تقبل جيع ابنائها دون تمييز.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها