كلفة المعاينة... «عقدة» جديدة : عيادات الطب النفسي في لبنان زحمة و... لوائح الانتظار
حنان حمدان - الراي الكويتية
Thursday, April 21, 2022
«كان موعد زيارتي لعيادة الطبيب النفسي في مطلع نوفمبر الماضي، لكنني لم أذهب، لأن فاتورة زيارة الطبيب باتت مرتفعة بالنسبة إلي»، يقول جاد (39 عاماً) لـ «الراي»، قبل أن يضيف «لديّ التزامات مادية كثيرة. هناك أولويات، فأنا طالب جامعي ومسؤول عن عائلتي».
وجاد، الذي بدأ رحلة العلاج النفسي قبل عام، فضّل حالياً تأخير زيارة طبيبه التي يقوم بها عادة كل ثلاثة أشهر لمتابعة صحته النفسية والعلاج الدوائي.
ويقول: «أعتقد أنني لن أتضرر نفسياً إن لم أقم بزيارة الطبيب، فأنا أتبع تعليماته الدوائية، وحين يتوافر المال لزيارته فلن أتردد في القيام بذلك»، لافتاً الى أن تكلفة زيارة طبيبه النفسي ارتفعت خلال العام المنصرم بعشرات الدولارات، وهو يتخوّف من أن تزداد أكثر.
وفي الشهرين الأخيريْن، توقّف جاد عن زيارة المعالجة النفسية أيضاً، للأسباب نفسها، وهذا ما تَسَبَّبَ بتدهور وضعه النفسي قليلاً.
ويقول: «لم أتعافَ، وأحتاج إلى الكثير من المتابعة، لكن كان عليّ أن أحدّد أولوياتي».
حالات كثيرة
جاد واحد من بين لبنانيين كثر وجدوا أخيراً صعوبةً في زيارة الأطباء والمُعالِجين النفسيين، بسبب ارتفاع تسعيرة زيارتهم، حيث تخطّت تكلفة الزيارة الواحدة للطبيب النفسي الـ100 دولار، وهي مرتفعة جداً بالنسبة إلى كثيرين، كون المريض يحتاج لزيارات ومتابعة دورية قد تكون أسبوعية أو نصف شهرية.
ومبلغ الـ 100 دولار يعادل اليوم نحو خمسة ملايين ونصف المليون ليرة، أيّ ما يوازي راتباً شهرياً لعدد ليس بقليل من اللبنانيين.
ويعيش اللبنانيون في الأعوام الثلاثة الأخيرة تبعاتِ أزمةٍ اقتصادية ونقدية هي الأسوأ في تاريخ لبنان، إذ انهارتْ العملةُ الوطنيةُ أمام الدولار وارتفعتْ أسعار السلع والخدمات، ومنها الخدمات الطبية والاستشفائية، في الوقت الذي فقدت الرواتب قدرتها الشرائية.
هذا الواقع الكارثي تَسَبَّبَ بأزماتٍ معيشية واجتماعية هائلة وغير مسبوقة أفضتْ إلى تَزايُد مَظاهر العنف والاضطراب والخوف، في مجتمعٍ توالت عليه النكباتُ منذ أواسط سبعينات القرن الماضي.
وكان واضحاً تَعاظُم أعداد المرضى الذين يعانون نفسياً ولا سيما بعد انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 الذي دمّر أجزاءً كبيرة من العاصمة، ونتيجة للضغوط اليومية الناجمة عن انقطاع الكهرباء وفقدان الدواء. وتَرافَقَ ذلك مع ارتفاع تكلفة زيارة الأطباء النفسيين.
«لا قدرة لدينا»
تقول مهى (35 عاماً) لـ «الراي»، «لم أقم بزيارة المُعالِجة النفسية منذ شهر يوليو الماضي، ولا أفكّر بالعودة راهناً، الى أن أحصل على وظيفة أتقاضى فيها راتباً بالدولار، لأن راتبي الحالي بالليرة ولا يكفيني لدفع مستلزماتي الأساسية، من تكلفة بدل سكن وغذاء».
مهى التي بدأت رحلة علاجها النفسي بعد انفجار مرفأ بيروت - الذي ساهم في تفجير كل الأزمات المتراكمة في داخلها - هي اليوم في طريقها نحو التعافي، لكنها لم تشفَ تماماً، وهي بحاجة لاستكمال زيارتها للمُعالِجة النفسية كي تضمن عدم تدهور صحتها النفسية مرة أخرى.
وتقول: «أنا اليوم أفضل، لم أعد أفكر بالانتحار ولكنني أحياناً كثيرة أشعر بالحزن والإحباط، وأخاف من أن أعيش انتكاسةً نفسية جديدة أو أن تراودني الأفكار السيئة من جديد. أريد أن أكون بخير ولكن وضعي المادي لا يسمح لي أحياناً بالاهتمام بصحتي النفسية».
وتسأل: «ماذا سنفعل نحن، غير القادرين على دفع تكاليف العلاج؟ أشعر بالقلق مما ستؤول إليه الأمور في المستقبل».
الأطفال أيضاً
تُعَدّ الضغوط النفسية أو الاضطراب النفسي لدى الأطفال الأصعب على الإطلاق، لسببين رئيسيين: أولاً كون الأطفال لا يفقهون عادة معنى ما يشعر به كالكبار، وثانياً كونهم يحتاجون لأطباء متخصصين بعلاجهم، وهم قلّة، وعادةً ما تكون تكلفتهم مرتفعة.
وتقول براء، وهي أم لطفلة في عمر الثالثة «تمّ تشخيص ابنتي باضطراب المعالجة الحسية الشهر الماضي، من قبل طبيب نفسي متخصص بحالات الأطفال في مستشفى الجامعة الأميركية».
وتضيف لـ «الراي»، «كلّفتني زيارة الطبيب المتخصص 90 دولاراً وكانت مدة الجلسة ساعة واحدة.
كانت مفيدة جداً ومُرْضية، وتمكنا من الإفادة منها بقدر الإمكان، ولكن كلفة الزيارة مرتفعة جداً، لا سيما في هذه الأوقات الصعبة علينا في لبنان، كما أن تكلفة المراجعة لديه تبلغ 65 دولاراً أيضاً».
ووفق خطة العلاج التي وُضعت للطفلة، في المرحلة الأولى، تتطلب الحالة متابعة مستمرة وزيارات متكررة للمُعالِجة المتخصصة بالأطفال على مدى هذين الشهرين، تمّ تحديدها بزيارتين كل أسبوع، ومدة كل زيارة 45 دقيقة وكلفتهما 65 دولاراً.
واللافت أن براء وُضعت على لائحة الانتظار لمدة شهر قبل أن يتمّ التواصل معها وتحديد موعد سريع بعدما تم إلغاء أحدى الزيارات صدفة.
وتقول: «مازلنا في بداية العلاج. الزياراتُ المتكررة ستترك آثاراً نفسية سيئة علينا أنا وزوجي، لأننا وُضعنا بين خيارين، إما السير بخطة العلاج الموضوعة وتَكبُّد الأكلاف المادية الكبيرة وإما ترْك ابنتنا تتأذى نفسياً. بالتأكيد أولويتنا الوحيدة راهناً هو مساعدة ابنتنا كي تصبح أفضل، وذلك على حساب كل الأمور الأخرى».
الأعداد إلى تزايد
وتشهد عيادات الأطباء والمُعالِجين النفسيين ازدحاماً وتزداد أعداد المرضى، رغم ارتفاع تكلفة الزيارات، إلا أن لائحة الزوار تطول، حتى إن بعض المرضى ينتظر أشهراً على اللائحة قبل الحصول على موعد للزيارة.
ويشي هذا الحال بأمرين أساسيين: أولاً أن غالبية الناس باتوا يعانون ضغوطاً نفسية، بعضهم اختار البدء برحلة العلاج وبعضهم لم يتمكن من ذلك نتيجة أسباب عدة أهمها تردي الأوضاع الاقتصادية.
والأمر الثاني أنه لا يمكن تبرير ارتفاع تسعيرة الزيارة، ما دام الإقبال كثيفاً.
ورغم أن تكلفة الزيارة تختلف بين طبيب وآخَر، وبعضها يُعتبر مقبولاً، لكنها مرتفعة جداً في العموم مقارنةً مع الدخل الفردي في لبنان.
دلالة أخرى وأساسية وذات أهمية كبرى، نلحظها من خلال ازدياد أعداد المرضى في عيادات الأطباء والمُعالِجين النفسيين، وهي أنه تمّ كسر «التابو» إلى حد ما، على مستوى أفكار الناس وكيفية تعاملهم مع أمراض الصحة النفسية.
إذ حتى وقت ليس ببعيد كانت فئة كبيرة من اللبنانيين تعتبر أن زيارة الطبيب النفسي أمر معيب.
ومَن تجرأ على البوح بأنه زار طبيباً نفسياً أو أنه يعيش اضطرابات نفسية أُسقطت عليه الأحكام المسبقة، وأقلّ ما كان يقال عنه إنه فقد عقله أو بات «مجنوناً» على الدارج اللبناني.
كما تشهد الصيدليات إقبالاً كثيفاً على شراء أدوية الأعصاب والمهدئات والأدوية المُساعِدة على النوم.وفي هذا السياق تقول هنا، وهي صيدلانية تعمل في إحدى صيدليات بيروت إنه «لا يمكن تحديد نسبة الارتفاع، ولكن نلاحظ يومياً زيادة الطلب على أدوية الأمراض النفسية، حتى إننا بتنا نمتنع عن بيع الأدوية من دون وصفة طبية، خوفاً من استخدامها في شكل عشوائي ومن دون استشارة طبيب متخصص».
هل من بديل؟
ماذا يفعل مَن يعانون نفسياً ولا يتمكنون من دفع تلك الأموال، هل يستغنون عن الفكرة أم يبحثون عن بديل؟
تقول براء: «الاستغناء عن الفكرة نهائياً لم يكن وارداً لديّ، حتى لو إن التكلفة مرتفعة.
أصررت على بدء علاج ابنتي عند هذا الطبيب تحديداً بسبب كفاءته العالية».
وتضيف: «هناك خيارات بديلة من حيث تكلفة الزيارة ولكن لا يتمتع جميع الأطباء بالكفاءة نفسها، وهذا ما جعلني أتردد في اختيار أي طبيب آخر».
وتوضح أنه في حال ساءت الأحوال المادية «ربما أسعى إلى طلب إجراء جلسات مكثفة ومتباعدة في وقت لاحق، أو تقليل عدد الجلسات، بما يتناسب مع قدرتي المادية، إذ إن التكلفة مرتفعة وضاغطة على الأُسر وتوجد متطلبات أخرى في الحياة».
على مقلب آخر، توجد بعض الجمعيات التي تقدم الدعم النفسي للجميع مثل جمعية Embrace أو لفئات محدّدة مثل جمعية SIDC التي تُعنى بتقديم المساعدة النفسية للفئات الأكثر تهميشاً في المجتمع وبينهم متعاطو المخدرات وأفراد مجتمع الميم والمصابون بفيروس نقص المناعة (الإيدز).
ورغم أهمية الدور الذي تلعبه هذه الجمعيات، إلا أنها لا يمكن أن تحلّ مكان زيارة عيادات الأطباء النفسيين، كما يقول علي (24 عاماً) وهو أحد الشبان الّذين طلبوا الدعم النفسي المجاني.
ويضيف: «ساعدتْني إحدى الجمعيات في إبعاد فكرة الإقدام على الانتحار من ذهني، ولكنني لم أتعافَ وأحتاج إلى العلاج النفسي، وهذا ما تفتقده غالبية الجمعيات في لبنان والتي تقدم دعماً لحظياً بسبب الإقبال الكبير عليها».
وتعاني الكثير من الجمعيات، بفعل الهجرة، من خسارة أعداد كبيرة من المتطوعين والأطباء والمُعالِجين النفسيين، في وقت تزداد طلبات الدعم النفسي. أما الدولة فإنها غائبة وتعاني جملة أزمات يصعب حلها، فهل يمكن لمَن يستعصي عليه تأمين الدواء لمرضى السرطان رغم خطورة وضعهم الصحي أن يلتفت للمرضى النفسيين؟
«بين 5 و7 في المئة فقط قادرون على ذلك»
نقيبة النفسانيين ديراني لـ «الراي»: 50 في المئة يرغبون باستشارة نفسية
أكدت رئيسة نقابة النفسانيين في لبنان الدكتورة ليلى عاقوري ديراني لـ «الراي»، أن «أعداد الأشخاص الذين يزورون الأطباء النفسيين والنفسانيين ارتفعتْ في شكل ملحوظ، بسبب تَفاقُم صعوبة الحياة في لبنان، كما ازدياد الوعي بالحاجة إلى العناية بالصحة النفسية».
ولفتت إلى أن «الناس باتوا أكثر وعياً ونضوجاً في لجوئهم إلى هذه الخدمات، إذ كسر جزء كبير منهم مفاهيم تقليدية ولم يعد يعتبر أن هناك(عيباً)في الأمر كما كانوا يقولون».
وفي ما يتعلق بمستوى الإقبال على العلاج النفسي ونسبته، قالت ديراني إن «الدراسات تختلف في هذا الخصوص، إذ لا توجد دراسة جامعية على مختلف الأراضي اللبنانية، ولكن هناك أبحاث تتحدث عن أن نسبة اضطراب القلق والكآبة هي في ازدياد ملحوظ».
وأضافت «كما تتحدث هذه الدراسات عن أن الرغبة باستشارة النفسانيين والأطباء النفسيين وصلتْ إلى 50 في المئة، ولكن ليس لدى الجميع القدرة على الوصول إلى الخدمات النفسية إذ تراوح نسبة مَن هم قادرون بين 5 و7 في المئة».
وأكدت «وجود تسعيرات مرتفعة، لكنها هي وكثيرون جداً من النفسانيين يخفّضون التكلفة للسماح للناس بالوصول إلى العلاج، علماً أن النفساني أيضاً لابد من أن يعيش بكرامة، ولا يمكنه العمل(مجاناً)»، على حد تعبيرها.
ولفتت ديراني إلى«المحاولات التي تقوم بها جمعيات خيرية وجمعيات غير حكومية إضافة إلى البرنامج الوطني للصحة النفسية لدى وزارة الصحة لنشر الخدمات والمساندات النفسية في مناطق مختلفة من لبنان، وبأسعار قريبة جداً من المقبول»، مشيرةً إلى«وجود بعض المستوصفات التي تؤمن راهناً خدمات الصحة النفسية بأسعار زهيدة، لكن رغم ذلك، يواجه بعض الأفراد صعوبة في الوصول للخدمة، بسبب وضعهم الاقتصادي المتدني جداً».
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها