بعد توقيع قانون السرية المصرفية ... لبنان لم يعد جنة الصيارفة
بشير مصطفي - اندبندنت عربية
Thursday, April 21, 2022
طوى لبنان حقبة "السرية المصرفية" مع توقيع رئيس الجمهورية المنتهية ولايته ميشال عون على التعديلات التي أقرها مجلس النواب، مستجيباً لأحد مطالب صندوق النقد الدولي التي وصفت بالإصلاحية، لكن هذه الاستجابة قد تكون شكلية مع وجود بعض القيود التي قد تعتبر مدخلاً للتحايل على أحكامه في ميدان التطبيق.
في المبدأ انطلق هذا التعديل من أسباب موجبة تؤكد ضرورة رفع القيود أمام مكافحة جرائم تبييض الأموال، والإثراء غير المشروع، والتهرب من أحكام القانون الجنائي الاقتصادي. وهو في صيغته المستجدة كان نتيجة لرد رئيس الجمهورية القانون بصيغته الأولى بموجب صلاحياته الدستورية التي تتيح له طلب إعادة النظر بالقوانين التي يقرها البرلمان.
وبحسب المادة 57 من الدستور اللبناني فإن "لرئيس الجمهورية، بعد إطلاع مجلس الوزراء، حق طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهل المحددة لإصداره ولا يجوز أن يرفض طلبه. وعندما يستعمل الرئيس حقه هذا يصبح في حل من إصدار القانون إلى أن يوافق عليه المجلس بعد مناقشة أخرى في شأنه وإقراره بالغالبية المطلقة من مجموع الأعضاء الذين يؤلفون المجلس قانوناً. وفي حال انقضاء المهلة من دون إصدار القانون أو إعادته يعتبر القانون نافذاً حكماً ووجب نشره".
ونظراً إلى عدم انعقاد مجلس الوزراء اكتفى الرئيس عون بإعطاء العلم إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.
السرية المصرفية لتاريخ مزدهر
ظهر نظام السرية المصرفية لأول مرة عام 1956 في لبنان، وتوخى المشرع آنذاك من اعتماد النظام اجتذاب رؤوس الأموال والاستثمارات العربية والأجنبية، وكرس الكتمان المصرفي الذي يلتزمه المصرف، وجرم أي خرق للثقة وكشف خصوصية المودع وأسراره المالية.
وتحول البلد لما يزيد على سبعة عقود إلى الملاذ الآمن والمصرف الذي احتضن ودائع العرب، واستمر ذلك إلى حين اهتزاز النظام المصرفي وسقوطه بدءاً من عام 2019. ومع توجه لبنان إلى توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي لبدء برنامجه الإصلاحي برزت جملة شروط كان لا بد من التزامها، وفي مقدمتها إعادة النظر في نظام السرية المصرفية، والكابيتال كنترول، وإعادة هيكلة المصارف، وجملة إصلاحات في القطاعات الحيوية كالكهرباء والاتصالات، وترشيق القطاع العام، وتوحيد سعر الصرف.
في نهاية يوليو (تموز) 2022، أقر مجلس النواب اللبناني تعديل قانون السرية المصرفية في صيغته الأولى، لكن هذا التشريع لم يرض صندوق النقد الدولي بسبب الالتفاف على الرؤية الإصلاحية، كما قام الرئيس ميشال عون برده إلى مجلس النواب بسبب التحفظات على مضمونه.
عون يرد التعديل الأول
قبل توقيعه الصيغة الجديدة للقانون، رد الرئيس ميشال عون التعديل الأول لنظام السرية المصرفية ليعيد الكرة إلى ملعب مجلس النواب لإعادة دراسته وإقرار تعديلات إضافية عليه في الجلسة التشريعية الأخيرة للبرلمان خلال عهده المنتهي عند منتصف ليل 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022.
وعلل الرئيس مرسوم الرد الذي حمل رقم 10016 بتاريخ 31 أغسطس (آب) 2022 بـ"تحصين بعض أحكام هذا القانون وتطويرها"، حيث طالب بتمكين الادعاء العام من الوصول إلى المعلومات التي تسمح له بتكوين الملف قبل إحالته إلى التحقيق بحيث تعطى النيابة العامة صلاحية التقدم من المصارف بطلب المعلومات إلى "القضاء المتخصص في الادعاء والتحقيق". وكذلك منح الصلاحية للجنة الرقابة على المصارف وهيئة ضمان الودائع ومصرف لبنان، كما طالب آنذاك بمزيد من التوضيحات لبعض المواد والبنود تأميناً لتطبيقه بصورة سليمة وتلقائية. وكذلك، في ما يتعلق بموظفي القطاع العام، تغطية التدقيق الفترة التي تتضمن بداية ممارسة مهامهم وتستمر إلى ما بعد استقالتهم أو انتهاء هذه المهام.
الصيغة الثانية جاءت ملتبسة
في تصريح عبر صفحته الخاصة بمواقع التواصل، تطرق النائب ميشال دويهي إلى صدور النص النهائي لتعديل قانون السرية المصرفية، وبحسب دويهي "اتضح أن هناك تلاعباً ببعض المواد، خلافاً لما وصلت إليه نقاشات الجلسة العامة التي أقرت التعديلات في 18 أكتوبر".
أعطى الدويهي بعض الأمثلة من قبيل عدم السماح للنيابات العامة بالاستقصاء عن المعلومات المصرفية إلا في حال وجود دعوى، كما في تقييد طلبات الحصول على معلومات مصرفية من قبل الإدارات المعنية بمكافحة التهرب الضريبي، وترسيخ الالتباس الخاص بضرورة المرور في هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها حاكم المصرف، وتشكل عنق اختناق يحول دون التوسع في حق الجهات القضائية في طلب كشف السرية، بحسب دويهي الذي نبه إلى "عدم ذكر فئات كان قد تم الاتفاق في الجلسة العامة على شمولها بضرورات كشف السرية المصرفية".
كما تعرض القانون الجديد للتشكيك من تحالف عريض من الجهات الحقوقية في لبنان، إذ أعلن تحالف مؤلف من "الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين"، و"كلنا إرادة"، و"المفكرة القانونية"، عن جملة ملاحظات حول القانون الجديد الذي شكل في صيغته الأخيرة المقترح الثالث الذي يقره مجلس النواب.
وقال التحالف إن أهم ما ورد في هذا المشروع هو توسيع فئات الأشخاص الذين لا تطبق عليهم أحكام السرية المصرفية، فبعد أن كانت لجنة المال اقترحت رفع السرية عن الموظفين العامين والقائمين بمسؤوليات وخدمات عامة ورؤساء ومديري الجمعيات السياسية والمرشحين لوكالات عامة، أضافت إليهم رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومديريها التنفيذيين ومدققي الحسابات الحاليين والسابقين ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية، فضلاً عن هيئات المجتمع المدني.
اعتراضات وانتقاد
ونوه التحالف بأنه فيما شمل القانون رفع السرية المصرفية عن عائلات الموظفين ورؤساء الجمعيات ومديريها والأسماء المستعارة عنهم وأصحاب الحق الاقتصادي، فإنه لم يشمل بالمقابل عائلات أصحاب المصارف والمؤسسات الإعلامية ولا الأسماء المستعارة عنهم، كما أن رفع السرية عن شبكات الشركات اقتصر على تلك المتصلة بمديري الجمعيات السياسية وهيئات المجتمع المدني والمرشحين للحصول على وكالة عامة من دون مجمل الفئات.
كما انتقد التحالف الآليات الملتبسة والمعقدة التي يخشى أن تؤدي إلى جعل هيئة التحقيق الخاصة مدخلاً ضرورياً للحصول على المعلومات السرية بفعل الإحالات الحاصلة إلى قوانين تبييض الأموال والإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام، ناهيك بأن النص النهائي حصر صلاحيات القضاء المتخصص في طلب المعلومات المصرفية في مجموعة كبيرة من الجرائم المالية بالحالات التي توجد فيها دعوى قائمة، كما أن القانون أضاف إلى الإدارة الضريبية إمكانية الحصول على المعلومات المصرفية لحاجات التدقيق وضمان الالتزام بالضرائب، وليس فقط لحاجات مكافحة التهرب الضريبي.
وأوضح التحالف أن المشروع عدد الهيئات الناظمة والرقابية للمصارف ضمن المراجع المخولة طلب معلومات مصرفية، لكنه عاد وقيد صلاحياتها لناحية تخويل الحصول على المعلومات العامة فقط من دون أية معلومات عن حساب معين أو عميل معين، وتمكين المتضرر من الاعتراض على الطلب أمام قاضي الأمور المستعجلة، وصولاً إلى تعليق صلاحية هذه الهيئات على صدور مرسوم عن مجلس الوزراء.
وخلص التحالف إلى المطالبة بإلغاء عقوبة الحبس عن الإفشاء بالسرية المصرفية، خشية أن تؤدي العقوبة إلى ردع أو تخويف من هو ملزم بمنح معلومات بناءً على طلب أحد المراجع.
خطوة نحو صندوق النقد
يؤكد المحامي كريم ضاهر (الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين) أن قانون السرية المصرفية هو أحد العناصر الأساسية للوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، لكنه يلحظ في المقابل أن "المفاوضات بين الحكومة اللبنانية والصندوق تراوح مكانها".
ويوضح ضاهر أن "الإصلاحات كان يفترض إنجازها بحلول شهر سبتمبر (أيلول) استناداً إلى الاتفاق الأولي على مستوى الموظفين، لكن لم تنجز حتى الساعة". مذكراً بمطلب القوانين الأربعة: إقرار الموازنة، وتعديل السرية المصرفية، والكابيتال كنترول، وإعادة هيكلة المصارف، إذ أقر القانونان الأولان، فيما تنتظر القوانين الأخيرة. وكذلك الشروط الأخرى المسبقة، كالتدقيق بحسابات مصرف لبنان والمصارف الـ14 التي تنتمي إلى الفئة الأولى، وتوحيد سعر الصرف، وتأمين التمويل المكمل لقرض الثلاثة مليارات التي يؤمنها الصندوق على أربع سنوات، في حين يتبقى على لبنان سبعة مليارات دولار.
ويتخوف ضاهر من "أثر الفراغ الدستوري ريثما ينتخب رئيس جديد للبلاد في إتمام الإصلاحات والوصول إلى اتفاق مع الصندوق، لأننا بتنا أمام جدلية دستورية حول ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية من قبل حكومة تصريف الأعمال". ويخشى أن الأمور ستكون صعبة وتنتظر "السلة المتكاملة للتسوية الرئاسية".
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها