فيروز وعقود من الشدو والطواف حول القصائد والقوافي والمواويل
القدس العربي
Thursday, April 21, 2022
في عام 1934 ولدت الطفلة نهاد وديع حداد، وفي ذات العام تم افتتاح الإذاعة المصرية ليجتمع حدثان كبيران كل منهما له صلة وطيدة بالأغنية العربية ووجودها وتطورها ورواجها. ولم يكن ذلك إلا مؤشراً لصحوة غنائية تم التنبؤ بها مع ميلاد تلك الطفلة التي صارت في ما بعد مُطربة كبيرة يملأ شدوها أرجاء الأوطان الشقيقة قاطبة فيسمع العالم تقاسيم العود ووجع الكمان وشجون الناي في مُقدمات موسيقية تليق بعظمة الصوت الذي أصبح في حيز الوجود.
إنها جارة القمر فيروز، صوت الجبل وقيثارة الغناء العربي وهوية الإبداع اللبناني الذي شهد حي زقاق البلاط ميلاده ونشأته وسطوعه. ففي عام 1947 أعلن الموسيقي والمُلحن الكبير محمد فليفل عن اكتشافه الثمين في إحدى الحفلات المدرسية، وكانت نهاد حداد لا تزال في سن الطفولة فلم يكن عمرها يزيد على 14 عاماً فقط لا غير، لكن موهبتها كانت تتجاوز بكثير خبراتها القليلة وسنها الصغيرة.
لقد تحمس فليفل وهو الخبير بمواطن التألق والعمق والحساسية في الأصوات الغنائية التي تُشبه الآلات الموسيقية فقدم اكتشافه المُبهر للإذاعة اللبنانية تمهيداً لتقديمها لجمهور المُستمعين كحالة فنية استثنائية بالغة الحضور والقوة، فقد استشرف الرجل مُستقبل الفتاة مُبكراً ورأى فيه ما يدل على اختلاف القيمة كالجواهر الثمينة فأراد لمالكة الصوت النادر أن تُعامل باعتبارها إحدى منح الطبيعة للجماهير العربية من هواة الموسيقى والغناء وعشاق الطرب الأصيل.
ولأن الصوت الساحر كان لا يزال حينئذ في طور التكوين والإعداد والنضج، فقد ألحقت صاحبته بفرقة الكورال لتمر بمراحل التدريب المطلوبة لصقل الموهبة وترسيخها، وبالفعل ظلت فيروز تُغني كعضو بارز في كورال الإذاعة الوطنية اللبنانية، ولم يمض وقت طويل حتى لفت تفوقها نظر القائمين على تدريبها فمنحوها فرصة الغناء المُنفرد تمييزاً لقدراتها وإحساسها المُتدفق بالوجد والمشاعر الجياشة.
ولما كانت الدراسة من ضروريات الاستمرار وتطوير الموهبة أخذ الموسيقي والمُلحن الكبير حليم الرومي على عاتقه مسؤولية تعليم فيروز أصول القواعد الموسيقية ونُظم الأداء الغنائي السليم فألحقها بمعهد الموسيقى العربية لتزداد نضجاً ويكتسب صوتها السبرانو القوي مساحات إضافية تؤكد قُدراتها الفائقة على التأثير الجمالي المحسوس حين تُطلق لحنجرتها العنان وتأتي من داخل أعماقها بآهات الشجن والحزن فتُنخلع قلوب المُستمعين طرباً فتكرر فيروز الوصلة تلو الوصلة في وجد وتعايش وانسجام كامل مع الكلمة واللحن كأنها جزء من قصيدة أو قطعة موسيقية.
وقد رأى حليم الرومي المُعلم والأستاذ أن إطلاق اسم فني على نهاد حداد أصبح ضرورة حتمية فاختار لها اسم فيروز الأكثر جاذبية من وجهة نظرة، ومن لحظة الاختيار البعيدة لاسم الشهرة صارت الكنية الجديدة للمُطربة الشابة علامة تجارية وماركة مُسجلة دالة على كل ما هو غالي وثمين من جواهر الألحان والأغاني وإبداعات الموهبة الربانية التي جاد بها الزمان على الشعب اللبناني والشعوب العربية التي اجتمعت بفضل الصوت الجبلي الرقراق على حُب الغناء والموسيقى فألفت في ما بينها ما يشبه الوحدة الفنية والإنسانية ونسيت الخلافات واتحدت على قلب مُستمع واحد.
كانت أغنية يا حمام يا مروح عام 1952 بمثابة اكتشاف آخر لفيروز في مصر، حيث تزامنت الأغنية مع قيام ثورة يوليو 52 واهتمام النظام آن ذاك بتوحيد الصف العربي واستخدام الأغنية كأداة ووسيلة لتقريب الشعوب العربية واتحادها لمواجهة القوى الاستعمارية والدعوة إلى تحرير الشعوب الحرة من قبضة المُستعمرين والغزاة.
وقد واكب ذلك صحوة غنائية وفنية كبرى في القاهرة عاصمة الفنون ومنارة التثقيف، إذ لم يكن هناك من أهل مصر المحروسة من لم يُطرب لصوت أم كلثوم وفيروز ونجاح سلام وعبد الوهاب وعبد الحليم وعبد الغني السيد وكارم محمود وعبد المُطلب وغيرهم من ذوي الحناجر الماسية، وعليه احتلت المطربة اللبنانية الكبيرة فيروز مكانة بارزة في قلوب المصريين الذين صاروا يرددون أغانيها بكل حماس وتأييد وانحياز. فحين غنت أغنيتها الشهيرة القدس مدينة الصلاة تحولت الأغنية إلى عنوان لانتفاضة ثقافية سياسية تطالب بتحرير المدينة المقدسة، وإلى الآن لا تزال هذه الأغنية أيقونة الأيقونات الوطنية في تراث فيروز الغنائي الملحمي.
في فترة الخمسينيات ارتبطت شادية لبنان والعروبة بالرحبانية فعملت مع الأخوين عاصي ومنصور لفترة تزيد على الثلاثين عاماً شهدت خلالها الأغنية اللبنانية أزهى عصورها مع كوكبة من كبار المطربين والملحنين كنصري شمس الدين، ذلك المطرب المهم الذي شاركها العديد من المسرحيات الغنائية والأوبريتات، وإزاء هذا التميز الواضح لحن لها محمد عبد الوهاب مجموعة من الأغنيات، من أهمها جارة الوادي وسكن الليل وخايف أقول إللي في قلبي عامداً إلى وضع بصمته الموسيقية لتأكيد إعجابه الشديد بها.
كما التفتت السينما لموهبة فيروز فكانت أفلامها المهمة، «بياع الخواتم» عام 1964 من إخراج يوسف شاهين، و«فيلم سفر برلك» عام 67 و«بنت الحارس» عام 68 والفيلمان للمخرج هنري بركات، هذا بخلاف خمس عشرة مسرحية غنائية من بينها جسر القمر والليل والقنديل وهالة والملك وجبال الصوان وصحي النوم والمُحاكمة وأيام الحصاد، وكلها أعمال ذات طابع تاريخي يليق ذكرها مع الاحتفال بعيد ميلاد صاحبة السيادة الغنائية مطربة الأمس واليوم والغد.
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها