جاورت العظيمة والصديقة فيروز وأحسست بالإمتلاء والرضا .. أنا نصري شمس الدين صوتي مسجّى فوق سيارة أجرة تبحث عن وطن أو مدفن
حسان الزين - نداء الوطن
Thursday, April 21, 2022
أنا نصري شمس الدين. مَن لا يعرفني؟ حُفِظت أغانيَّ التي تتجاوز الـ500، مثلما حُفِظت وقفاتي وأدواري على المسرح وفي الشاشتين الكبيرة والصغيرة. الجميع يذكر وجهي وطربوشي وشاربيّ. والأهم من ذلك كلّه صوتي. صوتي يذكره الجميع. لكن، مهلاً، ثمّة ما لا تعرفونه. فصوتي لم ينطلق كلّه. بقي كثيرٌ منه عالقاً في حنجرتي وقلبي مثل زيت في خابية لا تنقص بل تفيض. ثمة سقفٌ، بل إطارٌ ضيّق من الجهات كلّها، حدّ منه، منعه من الانطلاق والتحليق، وأسرني مثلما يقيّد جسدٌ روحاً وثّابة تتوق إلى الطيران.
أنا الآن نصر الدين مصطفى شمس الدين (مواليد 27 حزيران 1927)، مسجّى في تابوت على سطح سيّارة أجرة انطلقت من دمشق، وأشعر بأنني عائد إلى وطني لبنان. أشعر بهذا ولا أراه، لا أرى الطريق. فالسماء التي تعبر فوقي، أو أعبر فيها، لا أدري، كأنّها بلا جغرافيا وبلا حدود، وتجعل الشخصَ لا يعرف مكانه ووجهته. على رغم ذلك، أشعر بأنني عائدٌ إلى ربّي وإلى أحضان بلدتي جون. متأكّدٌ من هذا لكوني مسجّى، ولكون الإنسان، في عاداتنا، يُعاد إلى مكان ولادته إذا ما توفّى بعيداً منه. وأنا كنت قبل وقت قصير، في 18 آذار 1983، على مسرح نادي الشرق في دمشق. كنت واقفاً، ثابتاً، شامخاً، أفعل ما ولدت لأجله: أغنّي. وفجأة، ترنّحتُ وعاندتُ السقوطَ أرضاً. كان ثمة صوتٌ في فمي يهم بالانطلاق مثل عصفور من عشّ أو قفصٍ، لكنّه عجز عن الخروج كأن أمّه وإخوته خافوا مغادرته وأمسكوا بأصابع قدمه الطريّة، فسقط بينهم، بقي معهم صاغراً، وانطفأ المشهد.
لستُ حزيناً وإن متُّ باكراً قبل أن يخرج الصوت كلّه من أعماقي، وقبل أن أطمئن على مستقبل أبنائي الستة. لست حزيناً على نفسي، فهذا قدر الله الذي آمنت به بلا شك منذ نظرت في عيني أمّي وسمعت صلاة أبي. إنّما وأنا عائدٌ على هذا النحو إلى وطني آلمتني حاله لا حالي. هو ليس في وضعٍ أفضل من وضعي. الحربُ التي اندلعت قبل ثماني سنوات أفقدته عقله وقلبه. بات لا ينتبه إلى أبنائه ولا يُحسن دفن موتاه. وحين يكون وطن في هذه الحال التي لا يُحسد عليها لا يُلام. وأنا ما تعوّدت الحسدَ ولا اللومَ. منذ ولدتُ لم أحبّ النكد والغمّ والمنغّصات. لم أكترث لصراخي الأوّل. وقد نسيته إذ سَمِعت أمي فيه لحناً. سَمِعت اللحن وحَدت لي كي أنام هانئاً وأحلم. وكانت حياتي حلماً. طفل يغنّي. العصفور يغرّد والطفل يغنّي. هكذا ببساطة. أنا طفلٌ يغنّي. أنا عصفورٌ يغرّد. الطفلُ عصفورٌ، يغنّي، يغرّد. لم أدرك فارقاً بينهما، بين الطفل والعصفور، بين الغناء والتغريد. وهل من فارق بينهما؟
هذا ما كان يحصل معي دائماً
وأنا أبقاني الغناءُ، أبقاني التغريدُ، طفلاً. بقيت طفلاً في الضيعة، في جون التي أعود إليها عبر السماء. أعود إليها طائراً لأنّي عصفور، لأني صوتٌ. ألم أقل لكم ذلك؟ صدّقوني. فأنا لا أكذب، ولم أكذب. لماذا أكذب؟ وكيف أكذب وأنا أغنّي، وأنا أغرّد. أتكلّم أحياناً، أتكلّم كثيراً، مع زوجتي وأبنائي، وأبناء قريتي، وفي المدينة، في صيدا وصور وبيروت، في القاهرة، وفي كل مكان زرته حين كان لي جسدٌ وقدمان. أتكلّم. تكلّمت في الأماكن وعلى المسرح وأمام الكاميرا، وفي الكواليس. تكلّمت والكلام يمكن أن يحمل كذباً، ويمكن أن يُؤخذ على محمل الكذب، لكنّني كنت أغنّي، كنت أغرّد، أو كنت وأنا أتكلّم مشدوداً إلى الغناء وإلى التغريد لا إلى الكلام. لهذا، كانت كلماتي تخرج كأنّها غناء أو تغريد. هذا ما كان يحصل معي دائماً. هذا ما حصل معي حين كنت ألعب مع أترابي في الضيعة، وحين كنت أرافق الغنم والماعز في الحقول، وحين كنت أعاون أبي في معصرة الزيتون، وحين كنت أحضر حفلاً أو عرساً. كنت في كل زمان، وفي كل مكان، أغنّي، أغرّد، حتّى صرت مطرب الضيعة، أو عصفورها. وكنت كذلك في المدرسة. أغنّي الدروسَ، أغرّد الأشعار. كنت عصفوراً في الصفِّ. لم تقل أمّي وحدها هذا، وقد طربت لي، وفرحت بي، وجمعت مالاً واشترت لي عوداً. المعلّمون، في جون ثم في صيدا، قالوا أيضاً إنني عصفور. والعصفور شاطر ويُتم واجباته ولا يُزعج. كنت أغنّي وأغرّد. وهذا شغلي الوحيد. وقالت وزارة التربية، على رغم أنّها كانت آنذاك وزارة المعارف، إنّني ناجح وخرّجتني، أو حكمت عليّ هي والحياة بأن أكون معلّماً. ورمتني الوزارة إلى "آخر ما عمّر الله". أوفدتني إلى شبعا البعيدة من جون، وربّما من العالم. لكن، لا مشكلة عندي ولا فرق بين هنا وهناك ما دامت الأرض خضراء والسماء زرقاء وقريبة. وطاب لي المقام، إلا أن الطيران مغرٍ. رحلتُ نحو الشاطئ والأمواج. وما أجملك يا صور، حنجرة البحر وصدفة التاريخ العذبة. وإذ رحت أغنّي وأغرّد للتلاميذ في المدرسة الجعفرية، توجّس المديرُ منّي وعلى النشء. خيّرني بين الطرب والتدريس، وأنا لم أكن أميّز بينهما، فيما هو يرى بوناً شاسعاً بينهما، يراهما متناقضين وخطّين لا نقطة التقاء تجمعهما. فكان موسم الرحيل إلى الشمال. والرحيلُ مشدود بحبال صوتي، نحو قدر مجهول.
مفاجأة من المجهول
وتقول حكاية لبنان إن بيروت ميناء. والميناء شط أمان تسكن إليه الأرواح العاتية القلقة الباحثة عن فنجان قهوة وبصّارة تقرأ الطالع. حطّ بي الطيران لا الإبحار في بيروت. سرت في الشوارع، ارتدت المقاهي والمطاعم والأسواق وصالات السينما ودار الأوبرا، ولم أملك مرآةً أرى فيها قامتى أو وجهي. ولم يكن ذلك مهمّاً، فأنا أسمع صوتي يخرج مني ويتردّد في أعماقي. أنا كائن صوتي، والعالم الذي أراه من حولي غاباتٌ وواحاتٌ ومدنٌ أحياناً وقفص أحياناً. وفي هذه الحال وتلك، صوتي ينبض بي، يخفق، يناديني ويُدخلني المتاهة. صوتي وجعي أحياناً وفرحي غالباً. صوتي قدري، وقد بحثت عنه، وقد تراءى لي طرف خيط. والخيطُ الذي يُستَعمل في صيد العصافير أمسك بي. قادني في طريق تتقاطع مع شركة "نحّاس فيلم" التي تعمل في مجال الفنون بين بيروت والقاهرة. وبين ليلة وضحاها طرت خلالهما إلى القاهرة صرت في فرقة الممثل الكوميدي إسماعيل ياسين، أغنّي من تراث مصر.
لم يخيّرني إسماعيل ياسين بين متناقضين كما فعل مدير المدرسة في صور. كنت أضحك معه وأنشرح، لكنّ أداء الأغاني وظيفة لا يحبّها طبعي، كانت محطّة على غصن وبدلاً من ضائع، وكانت تُبعدني عن نفسي، ولا ينقصني ذلك في الغربة. جمعت بعضي وما ادخرته وسافرت إلى بلجيكا لدراسة الموسيقى. انشغلت عن القلق قليلاً بالتحصيل العلمي قبل أن تفترسني الغربة مجدداً. وعاد بي القدر إلى بيروت، إلى وظيفة أخرى في البريد والبرق والهاتف حيث بتّ عرضةً لعناوين العالم كلّها. بتّ مع كل رسالة بين عنوانين معروفين فيما أنا في المجهول. والمجهول أحياناً نظرة أولى تُوقعك في الحب، وأحياناً هو مجرم شاء شرطي متقاعس أو متواطئ أن يسجّل جريمة ضده، وأحياناً يكتب في الجريدة. وقد قرأت له إعلاناً عن مسابقة غناء في إذاعة الشرق الأدنى (اللبنانية لاحقاً). قرأت تلك الحروف (1952) كما لو أنني أقرأ رسالة موجّهة إلي شخصيّاً. لم أتوهّم النجاح، لكن أسارير صوتي انفرجت. عادت روحي إليّ وخفق قلبي وارتفعت قليلاً عن الأرض. استعددت للطيران.
وقفت أمام لجنة الاستماع. لم أرتجف خوفاً من حليم الرومي وعبد الغني شعبان وعاصي ومنصور رحباني. كنت "عايز ومستغني". وعلى رغم قيمة الفرصة هذه التي لا تتكرّر، لم أتصنّع. بقيت كما أنا، صوتاً قويّاً قادراً على الغناء. وهدرت ذاكرتي بنهر الأغاني الشعبية والمواويل. ولم أتوقف ولم يطلبوا منّي ذلك، حتّى نهضوا واحداً تلو الآخر محتفين بما سمعوه، وعانقوني.
أنا ووديع الصافي والجميلات
بعد ذلك انضممت مغنّياً إلى أسرة الإذاعة. وجمعتني الصداقة مع الأخوين عاصي ومنصور رحباني. وربطتني الأيّام بطيّب المعشر فيلمون وهبة، الذي ما زلت أؤمن بأنه سيد الأغنية الشعبية في لبنان، والملحّن المناسب لجميع المطربين والمطربات. وقبل أن يشتهر اسمي انتشرت أغنيتي "بحلّفك يا طير بالفرقة"، تلحين فيلمون. واستسغت ذلك وإن كنت ميالاً بلا جدال لأغنية "ليلى دخل عيونها". وفي الأجواء تلك لحّنت أغنية. وإذ فوجئ فيلمون برفضها من الإذاعة مازحني بالقول إن سبب رفضها هو أنها جميلة. ولم أغضب أو أُحبط. تركت هذا "الكار" لأهله. فأنا لست من المغرورين بموهبتهم، ولا أحسب أن الله خلقني وكسر القالب. وأذكر أن صحافياً ممن يهوون الخبطات الإعلامية والصيد في الماء العكر سألني مرة عمّن هو أحسن مطرب بلدي في لبنان، فأجبت بلا تردد بأنه وديع الصافي. وهذا رأيي ولم أقل ذلك لدرء الفتنة كما يقولون. ولو كنت أنانيّاً مأخوذاً بحسابات الشهرة وألاعيبها لما أجبت بتلك الصراحة. وفي المقابل، قال وديع الصافي، الذي وضعت نفسي ثانياً بعده، إنني مطربه اللبناني المفضّل، ووصف صوتي بالحنون. وهذا يكفي، فأنا أعرف خامة صوتي والمساحات التي يلعب فيها، والنجاح هو في أن أكون كما أنا. ولكلِّ إنسانٍ نصيب، ولكلٍّ منّا لونه. ثمّ إن المنافسة لم تكن بيني وبين الصافي. فأنا وهو في الهواء سواء، إذ إن أصحاب الصالات يبحثون بالسراج والفتيلة عن العيون الناعسة التي تجتذب الزبائن حتى ولو حرمتها مقدراتها من الصوت الجميل والفن الأصيل.
وعلى رغم أنني لست مثل أصحاب الصالات أولئك ألهث وراء النساء، إلا أنني خفت على نفسي. ففيما تحوّل ليلي نهاراً ونهاري ليلاً، قلق ابن الضيعة الذي بيّ عليّ وهالته فكرة أن تأخذني المدينة والدنيا، على رغم أنني كنت، والله، عاقلاً ومهذّباً. لقد ارتعبت من البوهيمية التي شدّت شخصيّتي في تلك الأيّام. وتحت وطأة الشعور بالذنب غير المقترف، قلت إن عليّ أن أجد امرأة "تضبّني". فتزوّجت في 1956 من يسرى الداعوق. وصرت عندما أشعر بأن أعراض البوهيمية تظهر عليّ أسرع إلى بيتي وأدفن رأسي في السرير. ولم أجد صعوبة في ذلك، فطبعي الريفي قوي ومتأصّل. ولا أحب قريتي جون وأهلها فحسب، بل أعشق الحياة الضيعوية. وطالما أنا في لبنان لم أفوّت موسم قطاف الزيتون. وإذا كنت في بيروت، أحمل نفسي وأجمع أسرتي وننطلق بسيارتي الـ"أولدزموبيل" الضخمة إلى جون. هناك أعمل في المعصرة، وألتقي الناس، وأغنّي، ولا أدبك فأنا أحب التفرّج على حلقات الدبكة فلا تدعونني إليها. وفي أوقات الفراغ ألعب الداما والزهر في ساحة الضيعة مع أصحابي كباراً وصغاراً.
إضافة إلى هذا، لا مزاح مع الغناء حتّى لو كان مرحاً، وأشعر تجاهه بمسؤوليّات جسام. فبالتزامن مع زواجي وبناء أسرتي شاركت في "أيام الحصاد" في مهرجانات بعلبك (1957). وفي عام 1958 انتظرت في الضيعة توقف الحرب التي انتهت كما قالوا بـ"لا غالب ولا مغلوب". وبعد انتهاء "المحاكمة" في بعلبك، بدأت العمل مع الأخوين رحباني وفيروز، استعداداً لـ"موسم العز" في بعلبك أيضاً (1960).
القيادة للأخوين رحباني
وكرّت السبحة. كانت رحلة جميلة وممتعة ومفيدة. سلّمنا القيادة فيها لعاصي ومنصور (هما اللذان اقترحا اعتماد اسم نصري بدلاً من نصر الدين). تركنا لهما مهمّة الإبداع المسرحي والغنائي والموسيقي، ولم أعارض رؤيتهما السياسية للبنان والصراعات والتاريخ. ولم أجد في دعوتهما إلى التعايش من أجل الازدهار ما ينفّرني. وكنت مرتاحاً لتمجيدهما رجالاً ونساءً تاريخيين خدموا أوطانهم، ولنقدهما أهل السلطة والسياسة الفاسدين والمستبدّين. ولا أنسى انسجامنا في ما يخص قضية فلسطين وشعبها والصراع العربي- الإسرائيلي. لقد غنيت "حورب ت نحورب يا بطل" (1967)، وهي من كلمات وألحان الأخوين رحباني اللذين ألفا كثيراً لفلسطين والعرب. وتحضرني الآن "راجعون" للسيدة فيروز، وأغنيتي "يا طير الطاير على فلسطين".
وفي مقابل ارتياحي، كان الأخوان رحباني يتعاملان معي باحترام وثقة. وفيما كنت أخرج عن النص و"ألطش" السياسيين كانا يضحكان، وأحياناً يدعوانني إلى أن "أعلّي الدوز". وفي ما يخصّ أدواري وأغانيّ ومواويلي، وما إلى ذلك، كانا يفصّلانها بحبٍّ لي وعلى مقاس الشخصيّات التي يرونها مناسبة لي. والحقيقة أن ذلك كان يحصل وفق ميزان دقيق يُبقي فيروز متقدمة بين متساوين. فأنا كنت أعلم أن أعمال الأخوين رحباني تتمحور حول "الست"، ولم يزعجني ذلك أو يؤجج فيّ مشاعر الغيرة. وإذ جاورت الفنانة العظيمة والصديقة الصدوقة فيروز، أحسست بالامتلاء والرضا. فلفيروز، صاحبة "الصوت الذي يُطرب ويُقنع، الصوت الذي يجمع ويعلو فوق الصراعات، الصوت الذي يحرّض ويقاوم، الصوت الذي يُخيف الطغاة، صوت الحريّة، الطفولة والبطولة، الفرح والألم والوجع، صوت الوعد والحنين" (فواز طرابلسي، "فيروز والرحابنة")، لهذه "البنت القروية" مكانة في عقلي وقلبي. وألفت الانتباه إلى أنها لم تقف على المسرح الرحباني منذ اشتركنا في "بترا" (1977).
أصدقوني القول إنني كنت سعيداً ومطمئنّاً في تلك الصداقة وتلك التجربة. وأحببت المسرحيّات والأفلام التي عملت فيها، وكذلك الشخصيّات، ولم أطلب لنفسي شيئاً في خضم منافسة أو بدافع منها. أصارحكم أنني كنت أطلب توسيع مساحة الغناء في مدرسة أسست للمسرح الغنائي في لبنان. طلبت ذلك، بهدوء وخلال مناقشات فنية لا شخصيّة، لكوني مطرباً أوّلاً. ولم أتخيّل نفسي يوماً، قبل التعاون مع الأخوين رحباني، ممثّلاً. التمثيل عندي لزوم الطرب والمسرح الغنائي. وقد أحببته وبذلت جهوداً كي أتعلّمه وأتقنه وأنجح فيه. لم أكترث يوماً لمكانة الشخصية وحجم الدور. وشاركت في أعمال لم أغنِ فيها، منها على سبيل المثال لا الحصر: مسرحية "هالة والملك" (1967)، وفيلما "سفر برلك" (1966) و"بنت الحارس" (1968)، وهما للأخوين رحباني وإخراج هنري بركات. وأتذكر في هذا المجال ما كتبه الشاعر أنسي الحاج عن بعدي التمثيل والغناء لدي: «وقد مثّل نصري شمس الدين دور الأمير (فخر الدين) بارتياح وقوّة. ومثّله بصوت مضيء ممتاز».
الخلاصة أن هناك وجهتي نظر في شأن دوري ومشاركتي في الأعمال الرحبانية. فأنا كنت أرى نفسي مطرباً أولاً وقبل أي شيء آخر، وأتوق لأعمال غنائية. أما عاصي ومنصور اللذان يقدّمان فيروز ليس في الغناء فحسب بل في الحبكة الدرامية أيضاً، فكانا يريان بي صوتاً دراميّاً وكاريزما تملأ الأدوار التي يرسمونها. وفيما قِيل إن هناك خلافاً بيني وبينهما، والحقيقة أن الأمر أقل من ذلك، إلتقيت مرات عدة بمنصور في أجواء حميمة. وقال لي إنه وعاصي يعدّان عملاً تلفزيونيّاً من خمس حلقات، عارضاً عليّ الدور الرئيس في الجزء الأول، وهو شخصيّة صلاح الدين الأيوبي. وكرّر منصور: "مكتوب هالدور إلك، ولا أحد غيرك يمكن أن يؤدّيه". واتفقنا على انتظار إنجازهما إعداد السلسلة، على رغم أنني لا أتحمّس للسينما والتلفزيون، وأحبّ المسرح الذي يشبه ساحة الضيعة ويضعني بين الناس فأرى تفاعلهم.
نسيت شاربي في البيت
لم أحب الشوارب. شخصيّاً، كنت دائماً حليق الشارب. ويوماً، غادرت البيت في اتجاه المطار للسفر في رحلة عمل. وفجأة، انتبهت زوجتي إلى أنني نسيت شاربي الذي لا يمكن أن أقف على المسرح من دونه، فالجمهور لن يعرفني والدور يقتضيه. صرخَت زوجتي لإبننا مصطفى وطلبت منه أن يلحق بي. وهرع مذعوراً كي يصل قبل أن تقلع الطائرة. وعند مدخل المطار أوقفه شرطي، فراح مصطفى يستجديه أن يسمح له بالوصول على عجل إلى قاعة المغادرة، ويكرّر: "أبي نسي شاربه!". فما كان من الشرطي الذي لم يستوعب الموقف إلا الطلب من مصطفى الابتعاد: "جاي تمزح وتضحك علي؟!".
وكرّر مصطفي: "أبي نسي شاربه!".
كاد الشرطي يضحك، وكاد مصطفى يبكي.
عندها قال مصطفى: "أبي نصري شمس الديـن نسي شاربه!".
سكت الشرطي. تحرّك وكأنه يعيد سمـــــاع ما قاله مصطفى.
ارتفع توتر الشرطي. سأل نفسه: كيف لنصري شمس الدين أن ينسى شاربه؟
لم يصدّق أن شارب نصري شمس الدين ليس حقيقيّاً. جدّد طلبه إلى مصطفى بالابتعاد. ومصطفى يبسط يده وفي كفّه الشارب. ويقول: "أبي نصري شمس الدين نسيه".
تردد الشرطي في إمساك الشارب وكأنه خاف من نصري شمس الدين الذي يهدّ ويرعد على الخشبة. لكنّه فكّر قليلاً وأنقذ الموقف.
رصيدي
وقفت على مسارح كثيرة، ودخلت استديوات الإذاعات والتلفزيونات العربية كلّها تقريباً، أديت فيها أغاني التي يفوق عددها الـ500. وشاركت في مهرجانات:
بيت الدين: وادي الغزار (1966)، جهلة بو فارس (1968)، وادي الزعرور (1969)، جوار الغيم (1971)، مدينة الفرح (1972)، أيام صيف (1974).
بعلبك: أيام الحصاد (1975)، المحاكمة (1959)، موسم العز (1960)، البعلبكية (1961)، جسر القمر (1962)، دواليب الهوى (1965)، أيام فخر الدين (1966)، جبال الصوان (1969)، ناطورة المفاتيح (1972)، قصيدة حب (1973).
ملاحظة : نحن ننشر المقالات و التحقيقات من وسائل الإعلام المفتوحة فقط و التي تسمح بذلك مع الحفاظ على حقوقها ووضع المصدر و الرابط الأصلي له تحت كل مقال و لا نتبنى مضمونها