كلما سمعنا عن تدخل فرنسي في موضوع ما في لبنان انتابنا شعور فوري من الحذر و اللاثقة بفعل التراكم الطويل للتجارب المخيبة مع السياسة اليسارية المتطرفة لحكام تلك الدولة في السنوات الأخيرة .
ربما لم نقتنع بعد نحن الموارنة الذين ربطتنا طويلاً علاقات عاطفية مع من اعتبرناها أما و حامية يوما أن فرنسا التي نعرف تغيرت كثيراً و أن تلك الدولة سلّمت أمرها ليساريين متطرفين لا يملكون أي قيم انسانية و جلّ ما يهمهم هو الصفقات و مراكمة الأرباح .
في زمن ما سمي بالسنية السياسية و الذي لم يكن زمنا سنيا بالفعل الا بحدود الملف الإقتصادي لأن لبنان كان خاضعاً وقتها للإحتلال السوري … في ذلك الزمن شهدنا تقوية العلاقة بشكل غير مسبوق بين الدولة الفرنسية و رأس تلك السنية السياسية الرئيس الشهيد رفيق الحريري و شهدنا أيضاً تغاضياً غير مبرر و غير مفهوم عن ضرب الموارنة في لبنان و التعدي عليهم من قبل حافظ الأسد وصولاً الى شطبهم نهائياً من المعادلة السياسية أولئك الموارنة الذي وثقوا بفرنسا طويلاً و أقاموا مع حكامها علاقات امتدت على مدى قرون طويلة من الزمن و تشاركوا معها جزءاً من ثقافتها فأمنوا من خلال إرسالياتهم و ما زالوا حضوراً مميزاً للثقافة الفرنسية في هذه البقعة من العالم لم يكن ليحصل لولاهم .
لم يفهم الموارنة ذلك التبدل في الأولويات الفرنسية وقتها أو ربما لم يريدوا تصديق أن أمهم الحنون تغيرت كثيراً و صارت بمثابة خصم لهم بدل أن تكون حامية من خلال تحالفها و حمايتها لكل من حجَّموا دورهم و حضورهم في الوطن الذي أنشأوه .
على مسيحيي لبنان أن يفهموا أن حكام فرنسا من اليسار المتطرف هم حكام من نوع آخر … هم سياسيون تحركهم المصالح و المصالح فقط و لا مكان للعواطف في سياساتهم لذا هم طبعاً لا يقيمون وزنا لأي بعد تاريخي أو ثقافي لعلاقاتهم مع الدول و المجموعات حول العالم و بالتالي لم يعد يهمهم مصير الموارنة في لبنان الا بقدر ما تتأمن مصالح شركاتهم و مستثمريهم من خلالهم و هذا ما نلمسه كل لحظة في سياستهم اللبنانية .
بعد انتهاء الإحتلال السوري إثر قيام ثورة الارز مع ما رافقها من دعم اميركي غير مسبوق للسياديين اللبنانيين أدرك الفرنسيون أنهم أصبحوا خارج اللعبة اللبنانية عملياً بعد أن تعاطى معهم الجميع كتابع موضوعي للولايات المتحدة ينفذ سياستها و أجندتها في كل شيء و ربما أدركوا وقتها خسارتهم لحيثيتهم المستقلة في موطئ قدمهم الأخير في الشرق الأوسط فبدأوا يعدون العدة و بنتظرون الفرصة السانحة للعودة الى لعب دور إقليمي ما من خلال لبنان.
بعد انفجار المرفأ استغل الرئيس الفرنسي انشغال العرب و العالم عن لبنان ذلك الانشغال الذي وصل لدرجة إهمال الوطن الصغير و تركه لمصيره فتسلل الى الداخل اللبناني بشعارات براقة محاولا إعادة بعض من نفوذ مفقود و العودة من خلاله للتأثير في السياسة الإقليمية .
عودة الفرنسيين هذه المرة للبنان كانت حصراً من خلال رؤيتهم العامة المسايِرة لطهران و المتماهية كليّاً معها أملاً بإقامة شراكة اقتصادية بينهم و بين طهران يستفيد منها اقتصادهم و شركاتهم و من هذا المنطلق بنيت كل السياسات الفرنسية المستجدة على الساحة اللبنانية .
من لم يستطع حتى الآن فهم كيف يمكن لفرنسا التسويق ارئيس غير سيادي تابع لمحور الممانعة عليه أن يدرك هذه الحقيقة المرة ليجد كل الأجوبة … فالحقيقة أن فرنسا لا يهمها أي شيء آخر في لبنان الا بمقدار ما يخدم مصالحها التجارية مع إيران أولاً و في موضوع الاستثمارات النفطية ثانياً من هنا هي تتماهى مع حزب الله و تسوِّق أفكاره و سياساته داخلياً و خارجياً و تعمل على دعمه في سيطرته المطلقة على كل شيء في لبنان .
ريما يعتقد العقل اليساري الفرنسي أنه ما زال يملك أوراقا معينة في وطن منهك كلبنان و بإمكانه تقديمها لإيران لقاء بعض المكاسب الإقتصادية لكنه عاجلا أم آجلا سيدرك أن لا أحد يهتم لأمره لا في الداخل اللبناني و لا خارجه و لن يسير في خياراته سوى قلّة قليلة يتيمة عندنا و هو سيدرك أن السياسيين اللبنانيين لا تهمهم بالعمق فرنسا و لا يأخذونها على محمل الجد لأن أنظارهم مصوبة نحو المثلث العربي- الأميركي- الإيراني الذي يشكل بالنسبة لهم المدخل الحقيقي الوحيد و الفاعل لأي حلّ و ليست فرنسا بنظرهم سوى أداة من أدوات تنفيذ الأجندة الأميركية التي لا يمكنها معارضتها بنهاية المطاف حتى لو حاولت تمييز نفسها أحياناً كما تفعل هذه الأيام .
فرنسا لم تعد دولة عظمى بإمكانها مدّ نفوذها حول العالم كالسابق و هي حتماً ليست لاعباً في صراع العمالقة الذي يدور راهناً بين الصين و اميركا و روسيا و غيرهم … هي مجرد ملحق بالسياسة الأميركية و تنفذ تعليماتها .. كل ما عدا ذلك وهم و سراب و من يراهن عليها في لبنان أو في أي مكان آخر سيدرك هذه الحقيقة عاجلاً أم آجلاً و سيصطدم بالواقع الذي حاول تجاهله .
فرنسا اليوم ستحاول إيصال رئيس إيراني آخر الى بعبدا بغض النظر عن العواقب و التداعيات المدمرة على اللبنانيبن الذين سيدفعون الثمن وحدهم فهل سيجاريها العرب و خاصة المملكة العربية السعودية في سياساتها ؟؟ و هل سيقبل ما تبقى من سياديين في لبنان بالسير في هكذا خيارات مدمرة و هم المدركون بعمق لمصالح و ارتباطات الإدارة الفرنسية مع إيران و محورها ؟؟
نعم فرنسا تغيرت كثيراً … نعم البابا يوحنا بولس الثاني كان على حق عندما سألها ( فرنسا يا فرنسا ماذا فعلت بمعموديتك ؟) نعم علينا التأقلم مع هذه الحقيقة المرة و التعامل معها كدولة غريبة لا كحليف و علينا البحث عن أصدقاء آخرين في هذا العالم يساعدوننا على تأمين استمرارية وجودنا الحر في هذا الشرق المعذب .