كما في كل دول العالم الثالث التي حصلت فيها ثورات و انتفاضات شعبية كذلك عندنا … شعب ثائر منتفض ضد ظلم معين و وصوليون متسلقون يسرقون تلك الثورات و ينسبوها لأنفسهم و قوى مختبئة داخل الثورات أو متربصة بها تستغل تشرذمهم و تنقضّ عليهم فتلغيهم مع ثوراتهم .
تتنوع المجموعات و التنظيمات سارقة الثورات أو المنقضّة عليها حسب البلدان و ظروفها و الطبيعة المجتمعية فيها .
التجارب الثورية في المحيط :
لنقهم ما يحصل علينا العودة قليلاً الى الوراء و إلقاء نظرة سريعة على الثورات التي حصلت في بلدان محيطة بنا و التي نتشارك مع شعوبها بعض الطبائع و التقاليد .
سنبدأ من الثورة الإيرانية التي حصلت ضد الشاه في أواخر العقد السابع من القرن المنصرم … تلك الثورة و بعكس ما رأيناه لاحقاً قامت على أكتاف مجموعات كثيرة من اليساريبن و الليبراليين و طبعاً شارك بها محافظون منهم المتدينون جداً و منهم الأقل تديناً فماذا حصل لتنتهي بجمهورية إسلامية متطرفة على الشكل الذي نراه اليوم ؟؟
الذي جرى هناك وقتها أن القوة الأكثر تتظيماً و جهوزية و التي اعتمدت العنف أسلوباً في انتفاضتها كانت القوة الدينية المتطرفة لذا و بسبب تشرذم باقي القوى و عدم توحدها حول مشروع حكم واحد تمكَّن تنظيم الأئمة المتطرف من إقصائهم و بالتالي تجيير انتصار الثورة لنفسه ما ساعده على فرض نظام آحادي قاسٍ الغى من خلاله بمساعدة الميليشيات التابعة له كل القوى الثورية الأخرى و أقصاها عن المشهد السياسي لاحقاً بالترهيب و القمع و ما زال مستمراً بنفس السياسة حتى يومنا هذا و بذلك انتقلت إيران من أمة منتفضة على ديكتاتور ظالم للذهاب نحو نظام حر منفتح و متطور الى نظام سياسي أشد قمعاً من سابقه مضافاً اليه التعصب الديني .
لننتقل الى نموذج آخر و هو نموذج ثورات الربيع العربي تلك الثورات التي حصلت في لحظة سياسية دولية مؤاتية و التي انبثقت أساساً من جيل شاب لم يعد قادراً على القبول بما سكت عنه اهله على مضض أي الديكتاتوريات القمعية التي نكّلت بشعوبها تحت ستار القضايا القومية حيناً و محاربة الإرهاب أحياناً و باسم ذلك تخلصت من كل اخصامها فامتلأت سجونها بمعتقلي الرأي و الأحرار حتى فاضت و انطلقت شرارة التحرر .
فما الذي جرى لتنتهي تلك الثورات بإيصال أنظمة متشددة الى الحكم لتعود الشعوب لاحقا و تقع في مفاضلة سلبية بين السيئ و الأسوأ أي الأنظمة القمعية أو الأنظمة المتشددة فتختار الأولى على مضض لأنها الأقل سوءاً و ضرراً .
مجموعة عوامل تراكمت في بلدان الربيع العربي أدت الى تلك النهاية سنعددها تالياً :
أولاً : سقوط النظريات القومية و الأحلام المستحيلة التي سادت طويلاً بين تلك الشعوب و اندثار النوستالجيا اليسارية القديمة التي سيطرت على عقول مثقفي تلك البلدان لفترات طويلة من الزمن فالجيل الشاب هو جيل ليبيرالي متحرر نسبياً من الموروثات و العقد أو أقله هكذا بدا لنا عند انطلاق تلك الثورات .
هو جيل ثورة الإتصالات و العولمة و حرية الإنسان المطلقة و لم تعد تقنعه تلك النظريات الوهمية الغوغائية التي أوصلت بلدانه الى ذلك الدرك من الأنحدار و السقوط في الجهل و التخلف عن ركوب موجة السباق العالمي نحو الأفضل .
ثانياً : استبدال جزء من تلك الشعوب الأفكار القومية و اليسارية البائدة بالتشدد الديني الذي رأوا فيه بديلاً يتميزون من خلاله عن سائر شعوب العالم و يتماهى مع هويتهم التاريخية .
لكنهم تناسوا أن هذا الفكر جُرِّب سابقاً و اثبت عقمه على مدى سنوات و سنوات و باسم محاربته أصلاً بقيت الأنظمة القمعية و استمرت و هو بالتالي ليس صالحاً للتطبيق و سيعيدهم الى عصور مظلمة لا تتناسب إطلاقاً مع زمن العولمة و التحرر الإنساني من القيود القديمة و هو بالتالي يشكّل نموذجاً أسوأ بكثير من الأفكار القومية "ذات الطابع العلماني في مكان ما " .
لن نتوسع كثيراً في شرح هذا الموضوع لأنه شائك جداً و لا مجال لتفصيله في هذا المقال .
السبب الثالث :و الأهم لفشل ثورات الربيع العربي و هو المشترك بين كل تلك الثورات هو ظهور القوى المنظمة الجاهزة لتسلم السلطة في ظل تشرذم و تضعضع المجموعات الأخرى .
هذا ما شهدناه في مصر على سبيل المثال عندما فاز الإخوان المسلمون بأقل من نصف بالمئة من الأصوات نتيجة اصطدام القوى التغييرية الأخرى ببعضها و عدم توحدها حول المشروع و الأهداف لمصالح خاصة و شخصية في أغلب الأحيان فأوصلت "بعبثيتها و سلبيتها الدائمة " القوى المتشددة الى السلطة و التي عادت و عملت على إقصاء كل الآخرين بما فيها القوى الثورية .
علينا أن نعترف بواقع أن القوى المتشددة لا تستطيع فعل شيء سوى الإلغاء و الإقصاء مهما حاولت تجميل الصورة لأنها و بصلب أيديولوجيتها لا تعترف بالآخر المختلف و هي قامت أصلاً على محاولة فرض أفكارها على الآخرين بالقوّة دون مراعاة لأي اختلاف في دين أو عقيدة أو مذهب فكري .
هذا ما حصل في تونس أيضاً و كاد أن يحصل في المغرب و الجزائر و غيرهما … أما في البلدان التي اصطدمت بها القوى المتشددة بمقاومة عنيفة فقد اندلعت حرب أهلية ضروس كليبيا مثلاً التي انقسمت عملياً الى جزئين متناحرين واحد متشدد و آخر متحرر و هو أيضاً ما حصل نسبياً في العراق خلال العقد أو العقدين المنصرمين .
لبنان "ثورة" و "انتفاضة" :
سنعود الى لبنان الذي حصلت فيه "ثورة" و "انتفاضة" في السنوات الأخيرة :
الثورة الوحيدة التي حصلت في لبنان كانت ثورة الأرز و كان عصبها الأساسي طرد الإحتلال السوري بعد كل ما ارتكبه في لبنان من موبقات خلال ثلاثة عقود من سيطرته على البلد فلماذا فشلت ؟
أحد أهم أسباب فشل ثورة الأرز هو أن ما جمع القوى التي قامت بها كان الإنتقام من النظام السوري فقط كلٌّ لأسبابه التاريخية و لم يجمعهم أي شيء آخر لذا و بغياب المشروع الواضح المعالم لحكم لبنان رأينا انتهاء حركة الرابع عشر من آذار رويداً رويداً حتى سقطت فعلياً بعد سنوات قليلة من انطلاقها … هم لم يتفقوا على شيء سوى تصفية حساباتهم مع خصم مشترك ففشلوا بنهاية المطاف .
السبب الثاني و هو أيضاً المشترك مع باقي الثورات و هو الأهم وجود قوى راديكالية منظمة مسلحة و قوية في وجههم و هذه القوة كانت جاهزة للإنقضاض عليهم في اللحظة المناسبة و السيطرة على كل شيء في البلد .
حصل ذلك بسبب ضعف أغلب قيادات ثورة الأرز و تراجعهم الدائم أمام تلك القوة و عدم مواجهتها تحت حجج واهية و الحقيقة أن أغلبهم خاف منها و حاول تجنبها .
حصلت في لبنان أيضاً انتفاضة شعبية ذات طابع إجتماعي بشكل أساسي و هي لم تصل أبداً الى مرحلة الثورة المنظمة .
إنها انتفاضة ١٧ تشرين و التي تشابهت كثيراً مع ثورات الربيع العربي لا بل حاولت استنساخ تلك الثورات أحياناً ما أدى الى فشلها بالنهاية فما أوجه الشبه بينها و بين تلك الثورات ؟؟
لقد تشبّهت انتفاضة ١٧ تشرين بثورات الربيع العربي بالكثير الكثير من الأمور التي تبدأ باستنساخ الشعارات و محاولة إسقاطها بغباء و سطحية قاتلة على مجتمع مختلف كالمجتمع اللبناني و لا تنتهي بسرقتها من المتسلقين الوصوليين و الذين عادوا و تشرذموا لاحقاً بسبب مصالحهم الشخصية ما أدى الى سيطرة القوة الجاهزة المتربصة الدائمة في كل الثورات و هي التنظيمات الدينية المتطرفة .
الفرق بين لبنان و باقي البلدان أن تلك القوة المتشددة عندنا لم تنبثق من انتفاضة ما ضد النظام فالطبيعة المجتمعية و السياسية و الدولتية اللبنانية مختلفة غن النماذج الأخرى .
لذا وجدنا قوة تشبه المتشددين الآخرين بنمطية العمل و الأهداف و النتيجة لكن الإختلاف الوحيد في لبنان أن التنظيم الديني كان دائما قوة مستقلة عن الثوار و النظام و لم ينبثق من أحداهما بسبب طبيعة التركيبة الإجتماعية اللبنانية و هو بالتالي انقضّ على الإثنين معا في و قضمهما بنهاية المطاف . .
عامل مسترك واحد وحيد أدى الى تدمير ثورات الشعوب في المتطقة هو التنظيمات الراديكالية الدينية الجاهزة دوماً للإنقضاض على الثورات إما من داخلها لسرقة مكاسبها أو من خارجها لضربها و الحلول مكانها كما حصل في لبنان .
بالنهاية إن لم تتوحد القوى المنتفضة حول مشروع و هدف لن يكون لثوراتها أي معنى و لن تصل الى أي مكان في منطقة صعبة كمنطقتنا و دون ذلك عبثاً يحاولون و عبثاً يسقط ضحايا و شهداء .