لطالما اشتهرت القوى المسماة وطنية في لبنان باستسهال اتهام معارضيها بالعمالة و الصهينة و كل الكلام المعروف من اللبنانيين جميعاً .
و لطالما عيّرت تلك القوى معارضيها باتفاق ١٧ أيار و ببعض العلاقات المحدودة التي أقاموها مضطرين زمن الحرب مع الكيان العبري .
ضمن مفهوم العمالة الشامل هنالك تعريفات واضحة أحد أهمها هو تنازل العميل عن سيادة و مصالح وطنه للآخرين لقاء مكاسب خاصة يحصل عليها نتيجة ذلك التنازل من هذا المنطلق على المتعامل أن يمتلك الأوراق التي يحتاج اليها مشغله ليتنازل له عنها لاحقاً و من لا يملك تلك الأوراق لا ينفع أصلاً ليكون متعامل و بالتالي لا ينطبق عليه وصف العميل .
لنبسّط ما نقول سنعود قليلاً الى زمن الحرب المشؤومة لنكتشف إن قدمت قوى اليمين المسيحي شيئاً للكيان العبري أم لا و لنجري مقارنة بينها و بين الآخرين الذين تعاملوا مع قوى و دول مختلفة و ما قدموه لهم .
في زمن الحرب المشؤومة و كما هو معروف و نتيجة الضغط العسكري و انهيار الجبهات تباعاً و تخلي كل العالم عن مسيحي لبنان وُضِعَ هؤلاء أمام خيارين لا ثالث لهما إما الاستسلام و الموت أو الحصول على السلاح من أيٍّ كان للاستمرار في المقاومة و البقاء في أرضهم فرَجَحَت كفّة الخيار الثاني .
رجحت كفة ذلك الخيار لسبب أساسي و هو سبب نفسي بالدرجة الأولى فمسيحيي لبنان هم أبناء مجتمع استمر في هذه الارض دون انقطاع لحوالي ١٥٠٠ عام و من الصعب عليهم بالتالي التسليم بالهزيمة و الزوال الذان لا يشكلان خياراً عندهم أصلاً لأنهم يعتبرون هذه الأرض أمانة أورثتهم إياها الأجيال السابقة و عليهم الحفاظ عليها و تسليمها للأجيال اللاحقة.
الكل يدرك و هذه حقيقة انهم فتحوا قنوات الإتصال مع الكيان العبري و أخذوا السلاح منه و هو ما لا ينكرونه هم أبداً فاستطاعو الصموثم عادوا و انتصروا مع بشير الجميل علم ١٩٨٢ .
بمفهوم العمالة السطحي يمكن لمن يرى علاقة كهذه أن يستسهل اتهام هؤلاء بها و لكن و بالعمق هم جيَّروا تلك العلاقة المحدودة التي أقاموها مضطرين مع العدو لمصلحة بقائهم هذا البقاء الذي ارتبطت به حصراً استمرارية الكيان اللبناني المعروف لألف سبب و سبب لا مجال لذكرهم الآن و من هنا لا ينطبق عليهم وصف العملاء .
السبب الثاني و هو الأهم و الذي سنقارنه لاحقاً مع الآخرين و هو الذي ينفي عن مسيحيي لبنان نفياً قاطعاً تلك التهمة هو حول ما قدموه للكيان العبري .
هل يستطيع أحد في لبنان أن يدلّنا على تتازل رسمي واحد قدّمه مسيحيي لبنان للكيان العبري ؟
هل أقاموا اتفاقيات رسمية معه ؟؟ هل تنازلوا له عن شبر واحد من الأرض ؟ ماذا أعطوه ؟؟ ليدلّنا على ذلك من يتهمونهم بالعمالة كي نعتذر منهم الآن … حتى عندما انتخب بشير رئيساً للجمهورية رفض توقيع معاهدة سلام مع الدولة العبرية دون موافقة المكونات الأخرى … و بعد بشير الرئيس الماروني هو من الغى اتفاق ١٧ أيار بعد أن وقعه رئيسي المجلس و الحكومة الشيعي و السني .
هذا موجز مختصر عن علاقة احزاب اليمين السابقة مع الكيان العبري تلك العلاقة التي لم يتسفد منها الإسرائيليون بشيء و باعترافهم هم فالمسيحيين لم يتنازلوا عن شيء لهم أو لغيرهم و لأنهم أرادوا و ببساطة الشراكة الحقيقية لا الصورية مع مسلمي لبنان .
في المقابل ماذا فعل الآخرون من زمن جمال عبد الناصر وصولاً الى اتفاق الترسيم اليوم ؟؟
في زمن عبد الناصر و الأحلام القومية سلّم جزء من اللبنانيين قرارهم كليَاً له و جاهروا بمطالبتهم بالانضمام الى الجمهورية العربية المتحدة ما يعني عملياً إلغاء الكيان اللبناني ما ااضطر القادة أحزاي اليمين انذاك لمفاوضة عبد الناصر مباشرة بدل مفاوضة شركائهم في الوطن فماذا يمسى ذلك ؟؟ عمالة ام لا ؟؟ سنترك الحكم للتاريخ .
زمن منظمة التحرير فعلوا نفس الشيء و سلموها الأرض و المؤسسات و كل شيء و ساهموا في ضرب الجيش و شرذمته ما أوصل الى الحرب الأهلية و بعدها رضخوا للأسد و هيمنته المطلقة على لبنان الذي وزع عليهم المكاسب في السلطة و الإدارات … اليست هذه عمالة ؟؟؟ سنترك الحكم أيضاً للتاريخ .
في زمن حزب الله و هو حزب لبناني يمثل واحدة من أكبر الطوائف المكونة للبنان ماذا حصل ؟؟
لن نتكلم عن اتباطه العضوي و الأيديولوجي بإيران فهذا معروف و يعلنه أمينه العام دائماً و يجاهر بتلقيه التعليمات من الولي الفقيه نتيجة التزامه الديني و العقائدي به و هذا يمكن نقاشه لاحقاً سننتقل فوراً الى اتفاق الترسيم الذي حصل مع اسرائيل برعاية و موافقة مباشرين من الحزب .
ما لفت في هذا الاتفاق هو قول أحد أعضاء الوفد اللبناني المفاوض أن اتفاق ١٧ أيار أعطى لبنان أكثر مما أعطاه هذا الاتفاق كما نُشر عن لسانه في وسائل الاعلام و ما لفت أيضا هو اجماع كل المراقبين المحايدين تقريباً على أن لبنان تنازل عن حقوق له لم يتم التنازل عنها سابقاً و هي كانت من المحرمات .
لنكون منطقيين وواقعيين طبعاً لن نتهم حزب الله بالعمالة و هو الذي قدم الاف الشهداء في مواجهة العدو الإسرائيلي و الذي في صلب عقيدته لا يعترف بوجوده أصلاً .
جلّ ما نقوله أن هذا الحزب غطى تنازلاً للكيان العبري لم يتجرأ أحد على تغطيته سابقاً … ربما واقعيته و براغماتيته و هو الضليع بالسياسات الإقليمية جعلاه يتنازل تكتياً عن بعض الحقوق ليحصل على مكاسب مستقبلية أكثر و ربما ارضاء لحلفائه المأزومين لا ندري لكن الواقع أن هناك بعض التنازلات التي قدمت في سبيل حصول هكذا اتفاق و علينا جميعاً الاعتراف بها .
ذلك الاعتراف يستتبع حكماً التخلي عن سياسة تخوين الآخرين خاصة في موضوع العلاقة مع الكيان العبري فانتم فعلتم ما لم يفعلوه و قدمتم (عن حسن أو سوء نية لا ندري) ما لم يقدموه هم له.
اتفاق الترسيم الجيد بالمجمل يفرض على الجميع التواضع خاصة حزب الله فكما أدّت واقعيته الى تقديم بعض التنازلات للعدو للحصول على مكاسب أكبر لاحقاً عليه التعامل بواقعية و تواضع أيضاً مع القوى اللبنانية الموجودة خاصة قوى اليمين المسيحي و عدم تخوينها ذلك التخوين الذي يولد الكره الكبير لهذا الحزب في بيئتها خاصة أن هؤلاء يعتبرون أنفسهم بناة الكيان اللبناني و حراسه .
عسى هذا الترسيم يفتح صفحة جديدة بين اللبنانيين بعيداً عن الكره و الضغينة و لغة التخوين المقيتة فيجتمعوا من جديد على بناء وطن متحضر و محترم لهم جميعاً لتستريح مجتمعاتهم و تنظر الى المستقبل بثقة و أمان .