منذ اندلاع الحرب الأهلية في لبنان و التي كانت الخطوة العملية الأولى نحو تغيير الهوية التاريخية للكيان اللبناني كان هناك مقاومون و كانت أحصنة طروادة كثيرة أيضاً …
تلك الأحصنة التي حاولت من خلالها القوى الخارجية إختراق جبهات المقاومين السياسية و العسكرية لضربهم من الداخل تمهيداً لإزالتهم عن طريق تنفيذ مشاريعها التي تنوعت حسب الظروف و القوى و الأهداف .
دائما و في كل المجتمعات و البلدان وُجدت مجموعات و أشخاص انحرفوا عن المصلحة العامة و خرجوا عن المبادئ التاريخية التي قامت عليها تلك المجتمعات و الدول و تعاملوا مع خارجٍ ما عن حسن أو سوء نية لا فرق فشكلوا لذلك الخارج اوراقاً رابحة و أحصنة ثمينة استعملها لتحقيق أهدافه و نحن في لبنان لم نشذ عن تلك القاعدة .
مخطئ كثيراً من يعتقد أن الحرب الأهلية اللبنانية بدأت سنة ٧٥ … بوادر الحرب الفعلية بدأت منذ العام ١٩٥٨ فمنذ ذلك التاريخ و الأحداث التي جرت خلاله و التي تلته بدأت تتحضر أجواء الحرب و الإنقسام و الصدام و لم يكن ١٣ نيسان ٧٥ سوى لحظة الإنفجار الكبير لكل تلك التراكمات بوجه الجميع .
من اليوم الأول للإنفجار الكبير و ربما قبله انقسم الكيان اللبناني بشكل عامودي بين معسكرين أساسيين … معسكر القوى الكيانية التي حاولت الحفاظ على حدٍّ أدنى من وجود الدولة أملاً بإعادة إطلاقها عند استتباب الأوضاع و معسكر القوى الأيديولوجية الراديكالية صاحبة الجذور و الإمتدادات الخارجية التي جعلتها (بإدراك منها أم بقلة وعي لا نعرف) جعلتها أداة طيعة بيد المشاريع التي حاولت قضم الكيان اللبناني مرة لجعله وطنا بديلا للفلسطينيين و أخرى لإلحاقه بدولة البعث السورية و تحويله الى محافظة داخلها وصولاً الى يومنا هذا حيث أصبحنا رأس حربة المحور الإيراني الفارسي و مشاريعه بتصدير الثورة نحو المنطقة و العالم .
في كل مرحلة من تلك المراحل وجدنا بيننا حصان طروادةٍ ما استعملته القوى الخارجية لتدخل خلسة من خلاله و تحاول فرض إيقاعها على اللعبة السياسية الداخلية تمهيداً لتغيير صيغة أو دستور أو شكلٍ عام للدولة و الكبان .
هذا الحصان و للأسف كان في البدايات ما سمي وقتها بالحركة الوطنية التي و باسم الغبن و سيطرة الموارنة على الدولة تحالفت مع مشروع تفتيت لبنان و تحويله الى وطن بديل للفلسطينيين تلك الحركة التي تشكلت من قوى تشاركت كلها ضمنياً شيئاً واحداً .. الغضب المكبوت على المارونية السياسية و الذي لم نعرف أسبابه الحقيقية حتى يومنا هذا .
تلك المارونية السياسية التي بنت لها و لهم وطناً حراً متحضراً ناجحاً متميزاً بين الدول باعتراف الجميع و التي بضربها انهار كل شيء في لبنان و سقط معها الكيان الذي بنته سواعد أجيالها عبر الزمن .
لا نعرف إن كانوا يدركون أنهم تحولوا الى حصان طروادة عند ياسر عرفات و من وراءه و لا نريد الحكم على النوايا أو محاسبة أحد فهذا متروك للتاريخ و حكمه …
ما يعرفه الجميع جيداً أنه و بعد فترة قصيرة فهمت بعض قيادات الجبهة الوطنية خطورة المشروع الفلسطيني و حقيقة استعمالها كأداة لتحقيقة و بدأت بالتململ و التذمر و ارسال الرسائل السرية للقادة الموارنة و هناك أدلة كثيرة على ذلك لا تعد و لا تحصى لكن وقتها كان السيف قد سبق العزل و فُرض أمر واقع أمني على الأرض يصعب على تلك القيادات تخطيه و بالنتيجة شكلوا بإرادتهم أم لا الحصان الذي دخلت من خلاله المنظمة الى لبنان و أوصل الى ما أوصل من حروب و عنف .
مرحلة أخرى و بأحصنة كثيرة و هي المرحلة الأخطر و الأطول .. إنها مرحلة السيطرة الأسدية على لبنان و التي بدأت بوادرها بالظهور منذ العام ١٩٧٨ لكن المشروع لم يوضع فعلياً على سكة التنفيذ الا بعد اغتيال الرئيس الشهيد بشير الجميل عام ١٩٨٢ .
اعتباراً من هذه اللحظة بدأ الأسد بمحاولة ابتلاع لبنان و تحويله الى محافظة سورية أو أقله استتباعه كليا إن لم تسمح الظروف الدولية بإلغائه ككيان مستقل رسميا …
و هذا ما عاد و حصل بعد اغتيال الرئيس الشهيد رينيه معوض حين بدأ تنفيذ الطائف بنسخته السورية و في الطريق الى ذلك استعمل الأسد أحصنة كثيرة لاختراق المناطق الحرة التائهة و المتخبطة بعد استشهاد قائدها و مهلمها بشير الجميل .
لن نتكلم عن ١٧ أيار الذي هو موضوع جدلي بين اللبنانيين و الذي حسناً فعل الرئس أمين الجميل بإلغائه فذلك كان أمراً جيداً بالنسبة للحالة الداخلية اللبنانية وقتها إذ لا يمكن إقامة سلام مع كيان معادٍ مع رفض أكثر من نصف اللبنانيين لهذا السلام و بلد مقسّم و منهار .
بدأت الأحصنة بالظهور فعلياً منذ الإتفاق الثلاثي و الذي حقق من خلاله الأسد اختراقاً نوعياً داخل المناطق الحرة كادت أن تودي بها لولا تكتل القوى الرافضة و إعادة الأمور بالقوة الى مسارها الطبيعي .
استكمل المسار بعدها بظهور الأحصنة الصغيرة التي لم تكن مؤثرة كمن ظهروا في الحوارات الجانبية مع الجبهة اللبنانية في المؤتمرات التي عقدت في الداخل و الخارج (لوزان و جنيف و غيرها ) لفرض السلام السوري و التي لم ينجح أي منها في تحقيق أي شيء .
اللحظة الحاسمة حلّت عند انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل و عدم انتخاب بديل له بعد تخيير الأسد المسيحيين بين مخايل الضاهر أو الفوضى و كان وقتها قد امتلك كل مفاتيح اللعبة تقريباً و بعد رفض القوى المسيحية لعرض الأسد شكل الرئيس الجميل حكومة عسكرية لاستلام سلطة مؤقتة تمهد لانتخاب رئيس جديد كما قال هو بنفسه في أكثر من مناسبة و لقاء و بدل ذلك دخلت تلك الحكومة في اللعبة السياسية و اعتبرت نفسها الحاكم المطلق للبنان فشنّت الحروب المتتالية دون دراسة أو حسابات دقيقة كما اثبتت الأحداث لاحقا و التي انتهت بتدمير المنطقة الحرة و إضعافها من الداخل .
من استلموا السلطة وقتها بمسؤوليتهم وحدهم أم بالإشتراك مع الآخرين لا نعلم فهذا أيضاً متروك لحكم التاريخ … شكلوا و لو بطريقة غير مباشرة و دون أن يقصدوا ربما الحصان الأكبر الذي انتظره النظام السوري طويلاً لإسقاط كل شيء و استتباب سيطرته النهائية على كل لبنان و هذا ما حصل فعلاً بعد اجتياح ١٣ تشرين و دخول الجيش السوري للمرة الأولى الى المناطق الحرة منذ انسحابه منها عقب حرب المئة يوم فبدأت مرحلة الطائف السوري بأحصنتها القديمة المتجدد دورها .
مع الطائف سكت المدفع و بدأت حرب من نوع آخر هي حرب الغالب و المغلوب … فقد اعتبر البعض في لبنان انتصار الأسد على المسيحيين انتصاراً لهم و استفادوا من ضرب النظام السوري لقياداتهم و التنكيل بها و شطبها من المعادلة و باركوا هذا الأمر فكان الثمن توزيع الإمتيازات المسيحية السابقة عليهم جميعا .
من هنا نرى استشراسهم الدائم في محاربة أي قانون انتخاب يسمح للمسيحيبن بانتخاب نوابهم جميعا فهم يعتبرون أن المكسب الأهم الذي حققوه مع الأسد كان تكريس مفهوم المناصفة الصورية على الورق مع شركائهم دون السماح بتطبيقها فعلياً على أرض الواقع أي عكس ما كان حاصل قبل الحرب و عانوا هم أنفسهم منه ( اللاعدالة في توزيع السلطة كما سماه البعض وقتها ).
هؤلاء كانوا حصان طروادة الأخير قبل انتهاء مرحلة الوصاية السورية الذي ساعد الأسد في تغيير التركيبة الداخلية اللبنانية الدقيقة من خلال الديمغرافيا أولاً بمرسوم التجنيس الذي مكّن و ما زال كثراً من تغيير نتائج الانتخابات في مناطق مسيحية صافية من خلال زرع المجنسين فيها بشكل مدروس و تحويلهم الى بيضة القبان الأساسية التي تميّل الدفة لصالح فئة دون أخرى و ثانياً من خلال قوانين الانتخاب التي أتت بطبقة سياسية تابعة كليا للأسد و الغت أي أمل بأي حضور و لو صوري للدور المسيحي التاريخي في لبنان .
في تلك المرحلة كان التأسيس الهادئ للفترة اللاحقة و التي نعيش تداعياتها اليوم … في زمن الوصاية المطلقة بدأت الذراع العسكرية الكبرى للمحور بالنمو و التطور بأمان و دون أي عوائق هذه الذراع التي عادت و ابتلعت لبنان بعد انتهاء الوصاية السورية .
في عهد وصاية الأسد شهدنا توازنا دقيقا بين سيطرته على لبنان و تفهمه لنفوذٍ عربي ما داخله … فدهاء الأسد و خبرته الطويلة جعلاه يدرك أن التعويض عن القوة الإقتصادية المارونية التي انتهت في لبنان مع هزيمة المسيحيبن في الحرب كان من خلال ابقاء علاقاته التاريخية مع العرب الذين أمدوه بالمال اللازم للاستمرار على وضعه المعروف فلبنان المنهار و الضعيف يشكل عبئاً على سوريا المنهكة اقتصادياً بسبب تخلف نظامها عن مجارات التطور العالمي وقتها و العكس صحيح .
هذا ما لم يفعله حزب الله الذي تسيّره الأيديولوجيا لا التكتيك بعكس ما يتصوره الجميع و الذي دفعه لمعادات العرب علناً و محاربتهم فخرجوا من لبنان ما أدى الى انهيار كل شيء .
في هذه المرحلة كانت اللعبة كلها داخلية بعكس المراحل السابقة و المحرك الرئيسي للأحداث تنظيم داخلي و لكن بارتباط عضوي مع دولة خارجية .
هذا التنظيم استعمل الكثير من الأحصنة الداخلية لاختراق ساحات أخصامه السياسيين من تحالفه مع التيار العوني الذي أمن له غطاءً مسيحيا كبيرا كان بأمس الحاجة اليه الى محاولاته المستمرة لاختراق الساحتين السنية و الدرزية من خلال شخصيات و مجموعات لم تكن مؤثرة حتى حصول أمرين مهمين :
الأول الخلاف الذي حصل بين الرئيس سعد الحريري و المملكة العربية السعودية ذلك الخلاف الذي لا يعرف أحد أسبابه الحقيقية و الذي ربما أدى بنهاية المطاف الى تحكم حزب الله بالتنظيم السني الأقوى تيار المستقبل و لو بطريقة غير مباشرة نتيجة اختناق هذا التيار بعد قطع المساعدات السعودية عنه و ارتمائه مرغما في أحضان أخصامه من خلال التشارك معهم في السلطة ما أدى الى استياء سعودي أكبر أوصل الى اعتزال الرئيس سعد الحريري الحياة السياسية و تعليق عمل تياره ما ترك فراغاً كبيراً جداً داخل الساحة السنية لم يستطع أحد تعريضه حتى الآن انما استفاد منه كثز .
أكبر المستفيدين كان تلك الحالة الغوغائية المتحجرة التي نصّبت نفسها ناطقة حصرية باسم انتفاضة ١٧ تشرين و التي يحلو للبعض تسميتها قوى التغيير و التي تشكلت بمعظمها من أشخاص خارجين من أحزاب الثامن من آذار و بالتالي خلفياتهم معروفة .
هذه الحالة فازت بعدد لا بأس به من المقاعد النيابية لم تكن لتحلم به لولا حصول حدثين مهمين و أساسيين :
أولاً حالة الفراغ و الضياع داخل الطائفة السنية و بحث ابناء تلك الطائفة عن بديل مقبول لتيار المستقبل فصبَّ عدد غير قليل منهم داخل و خارج لبنان أصواته لصالح تلك القوى الغامضة التي بدأت ارتباطاتها الفعلية تظهر تباعا و نراها جلية أمامنا عند كل استحقاق أساسي .
ثانياً انشغال حزب الله بمحاولة تأمين حجم وازن لغطائه المسيحي (جبران باسيل) الذي تراجع شعبيا بشكل كبير هذا الانشغال أدى بشكلٍ ما الى إسقاط رموز اساسية في محورهم أغلبها تابع للنظام السوري فبدل أن يعطي حزب الله التيار نوابا من حصته المباشرة أعطاه من حصة النظام السوري الضعيف من هنا شهدنا سقوط أغلب رموز ذلك النظام و ربما هناك أسباب خفية أخرى لما حصل لا أحد يدركها سوا الحزب نفسه .
هنا أيضاً استفاد من يسمون أنفسهم تغييريون و حققوا بعض المكاسب في المناطق التي عجز التيار عن الحلول فيها مكان رموز سوريا و لهذا السبب يطلق الكثير من الناس على هؤلاء الأشخاص تسمية "نواب الصدفة" .
هؤلاء "التغييريون" يشكلون اليوم بعنادهم و تضعضهم و غوغائيتهم و تحجرهم الحصان الأكبر و الأثمن لحزب الله و الذي سيمكنه من الاستمرار بقبضته الحديدية على لبنان مع تجديد انتخاب رئيس موال ٍ له بسببهم و بالتالي تجديد الأزمة و الإنهيار ست سنوات أخرى لن يستطيع لبنان تحملها ما سيؤدي حتما الى انتهاء الكيان اللبناني المعروف .
وحدهم من يسمون أنفسهم قوى التغيير مسؤولون عن تشرذم الأطراف المعارضة لأنهم يغردون خارج السرب و سيتسببون بكارثة أخرى للبنان بتصرفاتهم هذه و هم الورقة غير المباشرة الرابحة التي يحتاجها المحور اليوم لاستكمال مشروع تغيير الهوية اللبنانية و استكمال مراحله الأخيرة …
لن نكون سيئي النية و سنعتبر غوغائيتهم هي المسؤولة عن ذلك مع شكوكنا العميقة منذ ١٧ تشرين حتى اليوم و التي تقول لنا عكس ذلك .
هكذا و ببساطة و من خلال تلك الأحصنة تمكن و يتمكن أخصام الهوية التاريخية للبنان من تحقيق أهدافهم بتغييرها رويداً رويداً حتى قضمه كلياً و ازالته عن خارطة الأوطان الحرة في العالم .