تثبت الساحة السياسية اللبنانية بالوقائع والأحداث كم أن السلم الأهلي هش وعرضة للتفكك عند أول مفترق طريق، ويمكن تعداد كثير من تلك الأحداث التي هي بمثابة فتيل صاعق، كاد يفجر الوطن لبنان وإدخاله في أتون حرب أهلية، لم تلتئم جراحها بعد وربما لا تفعل.
ويمر لبنان حالياً بواحدة من تلك الأزمات منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، بدء اندلاع ما عرف بـ”طوفان الأقصى” في غزة، على خلفية إعلان “حزب الله” أن الجبهة الجنوبية هي جبهة إسناد للحرب الدائرة هناك، من دون أن يستشير السلطات اللبنانية أو أي من الفرقاء والشركاء في الوطن.
يأتي ذلك في وقت تضيق فيه فسحة العيش بعد الأزمات الاقتصادية وفقدان الأمن الاجتماعي، فيما تتهم شريحة واسعة من اللبنانيين الحزب باختطاف البلد، مستغلاً ترهل المؤسسات والفراغات المتتالية من رئاسة الجمهورية إلى مواقع حكومية وعسكرية وغيرها.
فكيف يمكن قراءة أحداث السابع من مايو بين الأمس واليوم؟ وأي أثر تركته على الساحة السياسية الداخلية في لبنان؟ بخاصة وأن الأمين العام للحزب حسن نصرالله أعلنه “يوماً مجيداً من أيام المقاومة في لبنان”، مطالباً اللبنانيين ألا ينسوا ذلك اليوم من مايو “كي لا يكرر أحد حماقة الخامس من أيار”.
جماعات مسلحة متشحة بالسواد
وتعدّ تلك الأحداث الدموية التي وقعت في العاصمة اللبنانية بيروت وبعض مناطق الجبل، وامتدت على مدى أسبوع تقريباً، الأحداث الأكثر عنفاً منذ انتهاء الحرب الأهلية، بل اعتبر بعضهم أنها “حرب أهلية مصغرة”، ففي ذلك اليوم استيقظت بيروت على جماعات مسلحة وملثمة وترتدي قمصاناً سوداء (ما سيعرف لاحقاً بحادثة القمصان السود)، إذ قام مهاجمون ينتمون إلى “حزب الله” وحركة “أمل” والحزب “السوري القومي الاجتماعي” وبعض الفصائل المسلحة التي تنضوي تحت مظلة الثامن من مارس (آذار) بعمليات خطف وقتل، ومارسوا التهديد والوعيد والتعنيف على سكان بيروت الغربية وبعض مناطق الجبل.
كما أقفل “الحزب” مطار رفيق الحريري الدولي عبر نشر مسلحيه على طريق المطار وقطع الطريق المؤدية إليه بالأطر المشتعلة، واستولت مجموعات مسلحة على كل مراكز “تيار المستقبل” (أي التيار الذي يتبع رئيس الوزراء السابق سعد الحريري) في العاصمة بيروت وقامت بإحراقها.
تلك الأحداث أعادت رسم خطوط تماس جديدة وفيها قتل نحو 71 شخصاً، ذلك أن المهاجمين لم يميزوا بين أنصار الأحزاب الموالية للسلطة آنذاك (تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وغيرها)، وخلّفت كرهاً وعدائية وضغينة بين أبناء الوطن الواحد، وما زال الناس يستذكرونها لأن “الحزب” لا يجد مانعاً من التلويح بـ”القمصان السود” عند أي اعتراض على قراراته، ومن تلك المرات عندما تسللت مجموعة من أنصاره مرتدية قمصاناً سوداء إلى موقع الاعتصام في وسط بيروت خلال أكتوبر 2019، مستفزة المعتصمين حينها بالهتافات المؤيدة لنصرالله.
خلفيات الواقعة
في الـ30 من أبريل (نيسان) 2008 أرسل رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الوطني إلياس المر حينها إلى قيادة الجيش – مديرية الاستخبارات مستفسراً عن “تركيز كاميرات مراقبة لا سلكية في محيط مطار بيروت الدولي”، إثر اكتشاف الوحدة الألمانية المشاركة في قوات “يونيفيل” كاميرا المراقبة على المدرج 17 في مطار رفيق الحريري الدولي.
وقرر المر إبلاغ مجلس الوزراء بالأمر، ووفقاً لتقارير إعلامية، فإنه أطلع منسق الأمانة العامة لقوى “14 آذار” في ذلك الوقت فارس سعيد على الأمر وسلمه نسخة عن المراسلة، فما كان من سعيد إلا أن توجه إلى المختارة للقاء النائب وليد جنبلاط وأطلعه على المراسلة، فعمد حنبلاط إلى الكشف عن الأمر في مؤتمر صحافي وعرض فيه خرائط الشبكة، كاشفاً النقاب عن كل التفاصيل، وشن هجوماً على “حزب الله” وأمينه العام معتبراً أن جهاز أمن المطار مخترق وتابع لـ”حزب الله” وطالب بإقالة رئيسه.
ودعا كذلك إلى وقف رحلات الخطوط الجوية الإيرانية إلى بيروت وطرد السفير الإيراني من لبنان، متهماً من يقف وراء هذه الأعمال بالتخطيط لقتله ربما، أو لقتل سعد الحريري أو فؤاد السنيورة.
إزاء هذا الأمر عقد مجلس الوزراء جلسة في الخامس من مايو (أيار)، واستمرت المناقشات حتى الساعة الخامسة فجراً، قبل أن يصدر قرارات اعتبر خلالها أن شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة في “حزب الله” “غير شرعية وغير قانونية وتشكل اعتداء على سيادة الدولة والمال العام وإطلاق الملاحقات الجزائية بحق كل من يثبت ضلوعه في العملية أفراداً كانوا أو أحزاباً أو هيئات أو شركات”، إضافة إلى رفض الادعاء بأن حماية “حزب الله” تستوجب إقامة مثل هذه الشبكة واعتبارها سلاحاً مكملاً لسلاح الحزب، وتزويد الجامعة العربية والمنظمات الدولية بتفاصيل هذا الاعتداء الجديد على سيادة القانون في لبنان وفضح الدور الذي قامت به وتقوم به هيئات إيرانية في هذا المجال.
واتخذ مجلس الوزراء أيضاً قراراً بإقالة قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير وتأكيد حق الدولة وواجبها وإصرارها على استكمال متابعة قضية الكاميرات لمراقبة المدرج الرئيس في المطار التي تم تركيبها من جانب “حزب الله”، بما يهدد أمن المطار وسلامته ويشكل انتهاكاً أيضاً لسيادة الدولة.
لم يتأخر رد “الحزب”، إذ قال مسؤول العلاقات الدولية نواف الموسوي إن “الفريق الآخر يلعب بالنار ومن يلعب بالنار يحرق يديه”، معتبراً أن إقالة العميد شقير “تجاوز للخطوط الحمر”.
أيضاً وصف نائب الأمين العام في الحزب نعيم قاسم موضوع المطار وكاميرا المطار بالأمور التافهة “لأنه يكفي لأي مواطن أن يشرب فنجاة القهوة على سطح منزله في الأوزاعي أو عرمون أو الشويفات أو في منطقة برج البراجنة القريبة من جدار المطار ليرى كل شيء في المطار، والكاميرا لا تقدم ولا تؤخر إذا افترضنا أنه يخاف من أن تصور، مع العلم أنها كاميرا مخصصة لأمور أمنية تتعلق بمؤسسة جهاد البناء وشؤونها”، وقال “من يوجه سهامه إلى الاتصالات يعني أنه يوجه سهامه للسلاح ويريد أن يقول لا تقاتلوا إسرائيل”.
ومع حلول تلك الذكرى المأسوية بتاريخ لبنان الحديث، لا بد من طرح أسئلة واستفسارات حول ماذا شكلت حادثة السابع من مايو في الوعي السياسي اللبناني الحديث؟ وكيف أعطت المنتمين لـ”الثنائي” زخماً واستعلاء على غيرهم من اللبنانيين، ومنها عبارة “قبل السحسوح وبعد السحسوح”، وهل أحدثت شرخاً بينهم وأقرب الحلفاء من السنة والدروز؟.
انقلاب سياسي وأمني
يصف الكاتب والصحافي علي حمادة في حديث إلى “اندبندنت عربية” ما حدث بـ “غزوتي بيروت والمناطق الدرزية في الجبل في السابع والـ11 من مايو يقول إنها شكلتا محاولة من ’حزب الله‘ لإحداث انقلاب سياسي وأمني في لبنان بهدف تغيير مسار أمور عدة، من بينها إقفال باب أي محاسبة بالنسبة إلى جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري التي كان قد بدا واضحاً أن هناك يداً لـ’الحزب‘ فيها، إضافة إلى أن الحزب كان تنطّح بعد اغتيال الحريري في محاولة لوراثة الدور الأمني والسياسي السوري الذي كان انتهى في الـ26 من أبريل (نيسان) 2005”.
“قرار خارجي” واستفزاز حكومي
ووفقاً للإعلامي والكاتب فادي أبو دية، فإن “السؤال يبدأ هل كان الثنائي يسعى إلى أحداث السابع من مايو، أم أنها فرضت عليه بفعل استفزازات حكومة الرئيس فؤاد السنيورة من خلال القرارين الأسودين لحكومته؟”.
ويتابع أنه “بطبيعة الحال لم يسعَ الثنائي في أي يوم من الأيام إلى أي اقتتال داخلي، بدليل أن ’حزب الله‘ وحركة ’أمل‘ حاولا كثيراً وبكل الطرق أن يمنعا صدور مثل هذين القرارين، حتى أن رئيس مجلس النواب نبيه بري تدخل شخصياً مع السنيورة، ولكن يبدو أن قراراً خارجياً كان قد اتخذ إما لتفجير الساحة داخلياً، أو لتمرير هذا القرار الذي يعتبر ضربة أو طعنة استراتيجية للمقاومة في أعمق وأدق سلاح لديها وهو سلاح الإشارة”.
السلاح لحماية السلاح
بدوره يرى الباحث والأستاذ الجامعي خالد العزي أنه “لا يزال السابع من مايو يوماً مشؤوماً في ذاكرة اللبنانيين، وذكراه خالدة في ذاكرة كل فرد حين رفع سلاح الحزب بوجه الشعب اللبناني واحتل عاصمته. لقد سقط السلاح في شوارع بيروت الغربية وقرى الجبل، وكان قميصاً متسخاً لبسه الثنائي الشيعي بعدما رفع شعاره المقدس ’السلاح لحماية السلاح‘”.
ويتابع أن “أهالي بيروت وكل لبنان كانوا ينظرون إلى هذا السلاح، وبحسب أقوال حامليه على أنه للدفاع عن الوطن من الاحتلال الإسرائيلي، لكن بعد حرب يوليو (تموز) لم يكُن هذا السلاح سوى لتحقيق المكاسب الفعلية لمصلحة الدويلة على حساب الدولة، إذ حاولت الدويلة أن تشرعن سلاحها داخلياً بواسطة القوة المسلحة، وفرض أمر واقع لمصلحة أجندات خارجية، وهذا ما عبرت عنه غزوة بيروت من خلال ثنائية السلاح وفائض القوة”.
وغالباً ما يتهم “حزب الله” بفرض سلطته عبر الاستقواء بسلاحه وترهيبه لخصومه، بخاصة من هم ضمن بيئته الشيعية، فيبرز مفهوم “ما قبل السحسوح وما بعده”، وهو تعبير يستعمله أنصاره تكريساً لمنطق فائض القوة الذي ناله “الحزب” بفضل سلاحه، ويعتبر كثر أن ذلك المفهوم “كرسته غزوة بيروت”.
تغليب السلاح على النظام والمؤسسات
يقول الكاتب علي حمادة إنه “نتج من الغزوتين أي اجتياح العاصمة بيروت واحتلالها بقوة سلاح ’حزب الله‘ وبعض الميليشيات المتحالفة معه، مقتل وجرح العشرات ومحاصرة رئيس تيار المستقبل سعد الحريري في منزله، إضافة إلى محاولة محاصرة رئيس الحزب التقدمي الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في منزله في بيروت، كما جرت محاولة اقتحام بعض القرى الدرزية وباءت كلها بالفشل. وأدت تلك العملية إلى صدمة سلبية عميقة على الصعيدين الأمني والسياسي، وكسرت العلاقات الداخلية اللبنانية- اللبنانية بين كثير من الطوائف وأظهرت أن ’الثنائي الشيعي‘ هو ثنائي توسعي ويعتمد على وهج السلاح ويستخدمه رافعة في العمل السياسي وفي محاولة لقلب المؤسسات”.
ويردف حمادة أنه “سبقت الغزوتين محاصرة من قبل فريق الثامن من مارس، تحديداً ’حزب الله‘ للسراي الحكومي لأشهر عدة، وتوازياً قام الرئيس بري بتعطيل المجلس وإقفاله، رافضاً رغبة الأكثرية النيابية في الاجتماع أو تغطية الحكومة، أو انتخاب رئيس للجمهورية بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في ذلك الوقت”.
ويضيف أن “تلك الحادثة هي التي أرست قواعد تغليب السلاح على النظام والمؤسسات والقانون في لبنان، ومنذ ذلك الحين بدأ العمل الممنهج لتفريغ الدستور اللبناني من محتواه وللانقلاب على اتفاق الطائف وحصل الانقلاب على الأرض ثم استتبع باتفاق الدوحة الذي أوقف الانهيار الأمني مقابل تفريغ معظم البنود الدستورية المتعلقة بانتخاب رئيس للجمهورية وبإدارة المؤسسات، لا سيما السلطة التنفيذية، وبتغليب منصب رئاسة مجلس النواب على كل الرئاسات الأخرى واستتباع مجلس النواب بأكمله لشخص رئيسه، ودفع لبنان ثمن ذلك على مدى أعوام عدة، فبدأت مسيرة انهيار المؤسسات الرسمية وتحللها بصورة منهجية إلى أن انهارت على نحو شبه تام عام 2019 وفي ما بعد تحول لبنان الدولة إلى هيكل مفرغ من الداخل”.
استغلال الحادثة في بزار الاستثمار السياسي
في المقابل، يشير أبو دية إلى أنه “بالطبع بدأت ماكينة استغلال هذه الحادثة في بزار الاستثمار السياسي، استعلاء وهيمنة واستقواء بقوة السلاح، ويسأل “لماذا يحتاج جمهور الثنائي إلى الاستعلاء وهم يدركون أن لبنان محكوم بالتعايش مع كل القوى والطوائف والمذاهب، ولكن الأكيد للتاريخ والحاضر والمستقبل لا يمكن للمقاومة أن تتجاوز أي قرار أو إجراء أو تفاوض يمس سلاحها وقدراتها تحت أي ظرف كان على قاعدة قوة لبنان بمقاومته”، وفق تعبيره.
من وجهة نظر أبو دية، فإن تلك الأحداث لم تسبب شرخاً مع النائب وليد جنبلاط “الذي كان على تواصل مع حزب الله ومع حركة أمل في حمأة الأحداث، وكذلك الرئيس سعد الحريري كان على تواصل مع الرئيس بري، والواضح أن قراراً خارجياً كان قد اتخذ وعلى السنيورة تنفيذه”.
بدوره يرى الأستاذ الجامعي خالد العزي أن “حادثة السابع من مايو التي سميت غزوة ’حزب الله‘، أعطت الزخم للحزب، مما أدى إلى نيله الثلث المعطل وضرب المؤسسات العامة وإنهاء الحواجز الطبيعية بين الدول تحت شعار مقاتلة الإرهاب والتدخل في الشؤون العربية وحماية الفوضى، مما شجع عصابات التهريب والخطف والسرقة وضرب الاقتصاد وتجارة المخدرات والكبتاغون، وكل ذلك تحت شعار مزيف وهو أنه يحمي لبنان واللبنانيين، ومن ثم ضرب الحركات المناهضة للفساد والطبقة الحاكمة الذي تجسد في إجهاض ثورة 17 أكتوبر”.
ويتابع أن “اليوم الذي رفع فيه ’حزب الله‘ سلاحه على الناس ولم يقدر على إخضاعهم أفقده الشرعية”.