في أعقاب العملية الفدائية الفلسطينية بقيادة دلال المغربي يوم 11 آذار 1978 على حافلتين إسرائيليتين قرب تل ابيب، ومقتل 37 إسرائيلياً وجرح 76، دخلت القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان بحجّة إزالة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية ومناطق انطلاقها جنوب نهر الليطاني، في عملية عسكرية سمّتها «عملية الليطاني». لوقف هذه الحرب بدأ البحث عن صيغة لإرسال قوة حفظ سلام تابعة للامم المتحدة إلى الحدود الجنوبية، لتأمين انسحاب الجيش الإسرائيلي وإقامة منطقة عازلة خالية من الفدائيين في جنوب لبنان. ونتيجة لذلك، اجتمع مجلس الامن الدولي وأصدر القرار 425 الذي دعا إسرائيل إلى الانسحاب، وإلى إقامة قوة مؤقتة تابعة للامم المتحدة في لبنان (يونيفيل).
دعا القرار إلى الاحترام التام لسلامة لبنان الإقليمية وسيادته واستقلاله السياسي ضمن حدوده المعترف بها دولياً، وناشد إسرائيل أن توقف فوراً عملها العسكري، وأن تسحب على الفور قواتها من جميع الأراضي اللبنانية، وقرّر، في ضوء طلب الحكومة اللبنانية، تشكيل قوة مؤقتة تابعة للأمم المتحدة في الحال، تخضع لسيطرتها، لتعمل في جنوب لبنان بقصد التحقق من انسحاب القوات الإسرائيلية، وإعادة السلام والأمن الدوليين، ومساعدة حكومة لبنان على تأمين عودة سلطتها الفاعلة إلى المنطقة، على أن يتم تشكيل القوة الدولية من أفراد من دول أعضاء في الأمم المتحدة. ولكن إسرائيل لم تسحب جيشها بشكل كامل وأقامت منطقة أمنية عازلة على طول الحدود، وعلى رغم تشكيل القوات الدولية وإرسالها إلى الجنوب بقي الوضع العسكري قابلاً للإشتعال في ظلّ بقاء مسلحي المنظمات الفسطينية في المناطق المتاخمة للحدود وقدرتهم على استهداف الداخل الإسرائيلي. كما أن هذه القوات تعرّضت أكثر من مرّة لمضايقات وسقط بين صفوفها عدد من القتلى في مواجهات مع المسلحين الفلسطينيين.
قبل 45 عاماً كان الإمام موسى الصدر هو قائد الشيعة. اليوم يقود الطائفة الأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله بمشاركة غير متوازية مع رئيس حركة «أمل»، التي أسسها الصدر، رئيس مجلس النواب نبيه بري.
قبل 45 عاماً كان القرار 425 هو الأساس. اليوم القرارات الدولية 1559 و1680 و1701 هي الأساس. خلال 45 عاماً شهدت الجبهة الجنوبية تطوّرات كثيرة وشهدت الطائفة الشيعية انقلابات داخلية وانفلاشاً واسعاً في الدور وفي التسلّح تحوّل معها «حزب الله» إلى قاطرة تمشي وراءها الطائفة وهو يستخدم قوّته ليقطر معه سائر المكوِّنات الأخرى. بين قيادة موسى الصدر وقيادة حسن نصرالله انتقلت الطائفة من موقع إلى آخر ومن حالة إلى أخرى. لعلّ السؤال الذي يطرح اليوم بعد 45 عاماً على إخفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا يتعلق بمسألة اساسية وهو: لو بقي الإمام يتولّى القيادة، ولو لم يتم إخفاؤه، هل كان ولد «حزب الله»؟ وهل كان السيّد حسن نصرالله تولّى القيادة محلّ الصدر وهل كانت الطائفة الشيعية وصلت إلى الموقع الذي وصلت إليه؟ قبل 45 عاماً كان السلاح الفلسطيني هو المشكلة. اليوم يعتبر معارضو «الحزب» أنّ سلاحه هو المشكلة بينما يعتبر «الحزب» أنّ هذا السلاح هو مصدر التوازن والإستقرار لأنّه يؤمن الردع الإستراتيجي مع إسرائيل، وهو مصدر قوة لبنان، وأنّ هذه القوة بدأت مع «الحزب» ومقاومته، وقبلها كان لبنان دولة بلا كرامة وبلا تاريخ، وأن تاريخ هذا «اللبنان» بدأ مع تاريخ «الحزب».
قبل 45 عاماً عمل السيّد موسى الصدر على أن يكون الجيش اللبناني وحده مسؤولاً عن أمن الجنوب تفادياً للفوضى المسلحة وتداركاً لخطر ردود فعل إسرائيل على العمليات الأمنية والعسكرية التي تستهدفها وتكون عادة بلا هدف عسكري أو استراتيجي باستثناء التذكير بوجود هذه المنظمات المسلحة وبأنّ الصراع مستمر حتى تحرير كامل فلسطين. اليوم يتمسك «الحزب» بسلاحه أيضاً حتى تحرير كامل فلسطين ويريد أن يبقي على الجبهة قابلة للإشتعال. قبل 45 عاماً كان تركيز الإمام موسى الصدر على استكمال تطبيق القرار 425 وإرسال الجيش اللبناني إلى الجنوب لمساعدة القوات الدولية على تأمين الهدوء على الحدود. اليوم بعد 45 عاماً تنصبّ الجهود في مجلس الأمن الدولي على التجديد للقوّات الدولية مع منحها حرية الحركة في مناطق عملها، بينما تسعى السلطة اللبنانية نزولاً عند ضغط «حزب الله» الى منع هذه القوات من أن تعمل منفردة، ويهدّد السيّد نصرالله بأن «الناس»، أو»الأهالي»، سيمنعونها من التحرك بحيث يمكن أن تتحوّل عندها إلى أهداف مشروعة، وإن كان قال إنّ المنع لا يعني استخدام السلاح.
قبل 45 عاماً ما كان حصل الإجتياح الإسرائليلي الكبير عام 1982، وما كان حصل الإنحساب الإسرائيلي الكبير عام 2000، ولا كانت حصلت حرب تموز 2006، التي نتج عنها صدور القرار 1701 الذي يسعى «حزب الله» اليوم لتحديد طريقة تنفيذه من خلال تحديد وجهة سير القوات الدولية وفرض شروطه الخاصة لتطبيقه، على رغم نشر الجيش اللبناني في الجنوب نحو عشرة آلاف جندي تطبيقاً لهذا القرار لمؤازرة القوات الدولية في عملها. وهو سعى إلى الحدّ من سلطة القوات الدولية والجيش من خلال الإحتفاظ بسلاحه ومنع انتشار هذه القوات على المعابر المؤدية إلى لبنان. كان الإمام موسى الصدر هو الذي أسس حركة «أمل». وكان يخشى من السلاح الفلسطيني المتفلّت الذي لم يكن يخضع لقرار واحد. وبالتالي كان يعرّض القرى والبلدات والأهالي في الجنوب لردّات الفعل بحيث كانوا يدفعون ثمن هذه الفوضى. ولذلك كان يعتبر أنّ أبناء الأرض، مع الجيش اللبناني، هم الأولى بحراسة الحدود ومنع الإعتداءات الإسرائيلية.
ولكن دون هذا الخيار كانت هناك عقبات كثيرة. وقد يكون الإمام اعتبر أنه قادر على اختراق المستحيل من أجل تحقيق هذا الهدف ولكنّه قد يكون ذهب ضحية ما أراد أن يحقّقه. وهو كان يعكس صورة الواقع على الأرض نتيجة الإستياء الشعبي، والشيعي خصوصاً، من فوضى السلاح والخطر الذي يمكن أن يشكّله على أبناء الجنوب الذين كان الإمام يحمل قضيتهم وهمومهم. وكانت الأرض تعكس هذا الواقع نتيجة حصول أكثر من اشتباك بين حركة «أمل» وبين المسلحين الفلسطينيين في أكثر من منطقة من الجنوب إلى بيروت. قبل 45 عاماً ارتكبت جريمة إخفاء الإمام موسى الصدر في ليبيا. فشلت محاولة لبننة الأمن في الجنوب واستمرت العمليات الفلسطينية العشوائية وإطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل التي انتظرت الحجّة لبدء اجتياح جديد بعد محاولة اغتيال سفيرها في لندن في عملية بقيت ظروف تنفيذها ملتبسة، ارتكبها تابعون لجماعة أبو نضال، الذي كان ينقل ولاءه وبندقيته من نظام إلى آخر، وتولّى تنظيمه تنفيذ عمليات كثيرة ضد قيادات من منظمة التحرير نفسها، ومن حركة «فتح»، لعلّ أبرزها اغتيال أبو إياد، الرجل الثاني في «فتح» في تونس.
اجتياح 1982 أدى عملياً إلى خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عسكرياً، وإلى ولادة «حزب الله» بعد إرسال الدفعة الأولى من الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع. فهل كان كل ذلك مجرد مصادفات صنعتها الأحداث؟
من ثورة الصدر إلى ثورة الخميني
في 31 آب 1978 اختفت آثار الإمام موسى الصدر في ليبيا. في 4 تشرين الأول 1978 غادر الإمام آية الله الخميني النجف الأشرف متوجهاً إلى الكويت التي امتنعت عن استقباله بإيعازٍ من النظام الإيراني. وطرحت فكرة انتقاله إلى سوريا أو لبنان، ولكن الإمام قرّر السفر إلى باريس التي وصلها في 6 تشرين الأول، وانتقل للإقامة في «نوفل لوشاتو» في ضواحي باريس. في 16 كانون الأول 1978 غادر الشاه محمد رضا بهلوي طهران. وبدأ التحضير لعودة الإمام الخميني بعد 14 عاماً أمضاها في المنفى متنقلاً بين تركيا والعراق وباريس. حاولت حكومة شاهبور بختيار التي تشكلت قبل مغادرة الشاه الضغط لمنع مجيئه من خلال إقفال مدارج المطار، ولكن ملايين الإيرانيين تظاهروا في طهران مطالبين بفتح المطار، فرضخت الحكومة. أول شباط 1979، وصل الإمام الخميني إلى مطار مهرباد في طهران على متن طائرة فرنسية يرافقه عدد من مساعديه، وبينهم لبنانيون كانوا إلى جانب الإمام موسى الصدر. ذلك أن قيادات كثيرة دعمت ثورة الخميني للإطاحة بحكم الشاه، تدرّبت في لبنان، وكانت إلى جانب الإمام الصدر الذي كان الغائب الأكبر المغيّب قسراً عن هذا المشهد. بعد انتصار الخميني ستحصل عمليات تطهير للثورة أبعدت معظم هؤلاء وأدّت إلى سيطرة التيار الديني المتشدّد على مقدّرات الثورة وإيران، من دون أن تعمل هذه الثورة على تحقيق اي إنجاز في الكشف عن مصير الإمام الذي كان وراء إنشاء أول كيان ديني مستقل للشيعة في العالم الإسلامي بعد تأسيس «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» ورئاسته له عام 1969 في لبنان.
قبل 45 عاماً كان الخلاف حول تطبيق القرار 425 والسلاح الفلسطيني. اليوم يدور الخلاف حول تطبيق القرار 1701 وسلاح «حزب الله». قبل 45 عاماً كان يستطيع إمام الشيعة في لبنان وأحد قياداتهم في العالم، الإمام موسى الصدر أن يدخل إلى الجزائر ويلتقي رئيسها هواري بومدين. اليوم يُعتبر الشيعة تنظيماً ممنوعاً وملاحقاً في الجزائر، ودول عربية أخرى، بحيث يتمّ اعتقالهم وسجنهم ومصادرة كتبهم وشعاراتهم. واللافت أنّ الشيعة الذين ساروا بأكثريتهم، وراء السيّد موسى هم الذين يسيرون اليوم وراء السيّد حسن.