مشكلة متشعبة
يعيش لبنان على صفيح عقاري ساخن، ويمكن إجمال بعض النقاط الحساسة التي تشهد مشكلات متكررة بسبب ضعف سلطة الدولة وغياب الجهد الإنمائي المشترك. في عكار، يستمر الخلاف التاريخي بين أهالي فنيدق، وعكار العتيقة على ملكية القموعة التي تعتبر كنزاً طبيعياً وسياحياً، ومليئة بالغابات المعمرة. ويتمسك كل طرف بحقه، استناداً لمجموعة من الحجج العثمانية، والخرائط، وصكوك ملكية. ومنذ ستينيات القرن الماضي تاريخ بدء أعمال المساحة، وحتى يومنا هذا، سقط العشرات من الضحايا، في انتظار إنجاز أعمال التحديد والتحرير بسبب الاعتراضات المتبادلة. وتؤكد أوساط التنظيم المدني أن “هناك جهوداً تبذل بمشاركة أعيان، وخبراء من أجل إنهاء الخلاف بين فنيدق وعكار العتيقة على القموعة، إلا أنها تصطدم بتصلب المواقف بين الفريقين”.
لا يختلف المشهد في منطقة القرنة السوداء الواقعة في جبل المكمل التي تعيش توتراً دائماً بسبب النزاع المزمن بين أهالي قضائي الضنية وبشري، حيث يعلن كل طرف من الطرفين وقوع أعلى قمة جبلية لبنانية ضمن حدوده الإدارية والجغرافية التابعة له. وتكتسب المنطقة أهميتها نظراً لغناها بخزانات الثلج والمياه التي تعتبر حاجة أساسية المزارعين في فصل الصيف من أجل ري الأراضي، والماشية.
في هذه المنطقة، يحاول الجيش اللبناني بالتعاون مع أعيان المنطقتين إلى محاصرة الإشكالات من خلال تثبيت بعض النقاط، وإعلانه منطقة تدريبات، في انتظار الحل النهائي للنزاع.
أما في جرود جبيل، فيستمر النزاع على أراضي لاسا بين البطريركية المارونية التي تؤكد ملكيتها المثبتة للأراضي وفق أعمال التحديد والتحرير الرسمية، وعائلات من الطائفة الشيعية التي تتمسك بامتلاكها وثائق يعود بعضها إلى القرن الـ19. في هذا السياق يؤكد الأب شمعون عون المكلف متابعة القضية أن “الملف ما زال على حاله بانتظار قيام الدولة بواجباتها”، مطالباً القضاة بالبت بأعمال المسح وإصدار قراراتهم، وتنفيذ وزارة المالية للمعاملات العقارية.
المسح المؤجل
يؤكد جورج معراوي مدير الشؤون العقارية في لبنان أن “نحو 35 في المئة لم ’تمسح’ بعد لأسباب مختلفة، علماً أن أعمال التحديد والتحرير بدأت في ظل الانتداب الفرنسي، وأنجز نصفها في خمسينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم أنجز نحو 15 في المئة إضافية”، متطرقاً إلى بعض الأسباب التي أدت لتأخر الأعمال “بشكل كبير جداً”، و”يتصل بعضها بالخلافات بين الأهالي والنزاعات على الملكية العقارية التي تحول دون إنجاز المهام، مما يمنع القاضي من ختم أعمال التحديد والتحرير كما يحصل بين فنيدق وعكار العتيقة، وفي القرنة السوداء”.
كما ينوه معراوي إلى وجود أعداد كبيرة من المغتربين مما يؤثر في حضور المالكين لأعمال التحديد والتحرير، وكذلك عدم توافر الأموال الكافية لإجراء معاملات التحديد والتحرير، والمسح، ناهيك بعدم وجود أعداد كافية من المساحين. ففي الدائرة المركزية المولجة بأعمال المساحة هناك نحو 60 موظفاً، لكنهم ليسوا جميعاً متفرغين لمسح الأراضي بسبب قيامهم بالأعمال اليومية الروتينية في دوائر المساحة، كما أن قلة أعداد القضاة العقاريين يؤدي إلى ضغط كبير عليهم، ويؤخر إنجاز الأعمال”، ولكن في المقابل، يستبشر جورج معراوي بإمكانية حلحلة بعض العراقيل، كاشفاً أن موازنة 2022، وكذلك موازنة 2023 التي هي قيد الإعداد، تتضمن بنداً يجعل الأعباء المالية لأعمال التحديد والتحرير على عاتق المالك، وبرسوم مقبولة، بالتالي لن ينتظر تأمين الدولة اعتمادات لها، كما يشير إلى أنه سمح لوزارة المالية الاستعانة بمساحين أفراد، ومكاتب خاصة لإجراء أعمال المساحة، مطالباً بزيادة أعداد القضاة العقاريين لإنجاز أعمال التحديد والتحرير في كافة المناطق المتبقية.
كما يشير معراوي إلى أن “صلاحية أعمال التحديد والتحرير للمناطق غير المحددة مناطة بالقضاة العقاريين، أما دور المديرية العامة للشؤون العقارية، فيرتبط بتأمين المساحين، والتعاقد في بعض الفترات لإجراء التحديد والتحرير تحت إشراف القاضي العقاري”، لافتاً إلى أن “بعض المناطق خضعت لأعمال التحديد والتحرير، ولم يتم أي تحديد مساحتها، في ما هناك أراض أخرى خاضعة للعمليتين، وفئة ثالثة لم تخضع لأي من تلك الأعمال”.
يؤكد المعراوي ضرورة إنجاز أعمال التحديد والتحرير في القرنة السوداء، لتحديد المالك، هل هو الدولة أم تعود لأفراد طبيعيين. ورداً على سؤال حول إعطاء الأولوية في الأعمال لتلك المناطق الحساسة كالقرنة السوداء، والقموعة، ولاسا. يقول معراوي، إن أعمال التحديد والتحرير قائمة في تلك المناطق، وهناك قضاة عقاريون، ومساحون يقومون بالمهام، ولكن أحياناً المشكلات بين الأهالي تمنع إتمام الأعمال كما هي الحال في لاسا. وكذلك حدود القرنة السوداء بين أقضية الضنية، وبشري، وزغرتا التي تشهد مشكلات قديمة على الحدود، والماء، حيث يجب تكاتف أجهزة الدولة كافة والوزارات والإنماء والإعمار للوصول إلى حل علمي مستدام، بالتعاون مع الأهالي بحسب الأستاذ جورج معراوي.
القضاء غير مقصر
من جهته أصدر مجلس القضاء الأعلى في لبنان بياناً في معرض جريمة مقتل الشابين هيثم ومالك طوق، نافياً وجود أي تلكؤ قضائي. أكد فيه صدور قرارات قضائية عدة عن قاضي الأمور المستعجلة في بشري، والقاضي العقاري في لبنان الشمالي، تتعلق بالمنطقة المتنازع عليها جرى إبلاغها، وإنفاذها على أرض الواقع، كما أنه وإثر وقوع الجريمة، بادرت قاضي التحقيق الأول في الشمال سمرندا نصار بالانتقال إلى مكان وقوع الجريمة، وذلك بهدف إجراء التحقيقات اللازمة التي هي قيد المتابعة، توصلاً إلى معرفة الجناة وتحديد المسؤوليات وترتيبها.
وفي سياق متصل، كشف مرجع قضائي مطلع على ملف الخلافات العقارية لـ”اندبندنت عربية” أن “السبب الأول للمشكلات يعود إلى وجوب إقفال المناطق العقارية بين القرى والبلدات، حيث ما زالت الخرائط مفتوحة ولم تنجز”، مؤكداً ضرورة وضع الحدود العقارية لتعلم كل بلدة نطاقها وما يخرج عنها، وهذا ما يتكرر في القرنة السوداء، والقموعة، والجنوب.
يعلق المرجع القضائي على تسليم الجيش سلطة حل المشكلات العقارية، بقوله “على من تقرأ مزاميرك يا داوود”، لأن “هذه الحلول ليست مستدامة، وعند خلاف زوجين لن يكون مجدياً وضع رجل أمن في المنزل”، “كما يفترض بالحل ضمان الوظيفة المهيأة لها المنطقة العقارية”، جازماً أن “الصلاحية الأصيلة هي للقضاة العقاريين، كل بحسب النطاق المكاني، لأننا أمام عمل فني من قبل فرق المساحة بإشراف القاضي”، و”الدور الوحيد للجيش هو قيام مديرية الشؤون الجغرافية بتزويد القضاة بالخرائط الجوية الملتقطة للمناطق، وحدودها الجغرافية والتضاريسية”.
ينطلق المرجع القضائي من الأنواع الشرعية للأراضي، وهي خمسة: الملك، الأميرية، الأراضي المتروكة المرفقة، الأراضي المتروكة المحمية، والأراضي الموات التي نقلها المشترع في عهد الانتداب الفرنسي عن الشرع الإسلامي. ويؤكد أنه ضمن المناطق المتنازع عليها هناك أراضي الملك الخاص، وهناك الأملاك العامة، أو حتى المشاعات، معولاً على “الحاجة إلى وعي لدى المواطنين إلى ضرورة الحل، ووجوب اتباع المعايير العلمية، والقسمة وفق التضاريس والمعالم الطبيعية كوجود شير صخري أو جبل، بالتالي فإن امتلاك أحد أبناء المنطقة ألف عقار في المنطقة باء، لا يعني أن حدود منطقته يجب أن تمتد إلى المنطقة الأخرى، وهذا ما يرفض بعض أبناء المناطق الاعتراف به”، و”مسح الأرض ضمن بلدة أخرى لا يعني ضياع ملكية الأفراد من أبناء البلدات الأخرى”.
يعتقد أن “الطمع في تلك المناطق وثرواتها هو السبب الرئيس لاستمرار الخلافات”، مطالباً بخضوع جميع الأطراف لأحكام القانون التي تحفظ الاستقرار والحل المستدام.
الحل بالأراضي المحمية؟
أمام تصاعد الخلافات على الأراضي، أصدر تحالف من الجمعيات البيئية بيان لمطالبة مجلس النواب اللبناني إصدار قانون لحماية منطقة القرنة السوداء بصورة دائمة ونهائية كونها منطقة حساسة، بالتالي انتهاء أي مشكلات عليها كما حصل أخيراً. ويشير دكتور يوسف طوق (هيئة الحفاظ على البيئة- بشري) إلى جهد بدأ في تسعينيات القرن الماضي من أجل لفت النظر إلى ضرورة حماية الجبال التي تعلو على 2400 متر نظراً لحساسيتها، وعدم القيام بأي نشاطات ضارة بالبيئة، بسبب تراكم الثلوج الذائبة، ومن تغذية سائر الينابيع اللبنانية، ناهيك بوجود ثروة نباتية فريدة من نوعها، وإمكانية ممارسة عديد من الرياضات الشتوية والصيفية ضمنها.
يضيف طوق “كل لبنان معني بالحفاظ على القرنة السوداء، وليست القرى والمناطق التي تتنازع على ملكيتها، كما أنها تعتبر ثروة عالمية بسبب وجود عديد من الأزهار والنباتات النادرة جداً، وغير الموجودة في أي منطقة أخرى من العالم”.