تصاعدت حدة الغارات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية خلال الأيام القليلة الماضية، لكن اللافت فيها أنها تركزت في مدن صور والنبطية والخيام جنوباً وبعض البلدات والقرى البقاعية، إضافة إلى أكثر من قرية عاملية، نسبة إلى جبل عامل، والتي غالبية سكان بعضها من الشيعة، لكن هناك قرى سنيّة بالكامل، مثل بلدة يارين ومروحين والضهيرة، أضف إلى أن بعض البلدات سكانها هم من المسيحيين الموارنة، مثل عين إبل ورميش ودبل والقوزح.
وكانت الغارات العنيفة اعتمدت سياسة التدمير المنهجي في غالبية المدن والبلدات، ولكن الصور والمشاهد الآتية من مدينة صور، المدينة الفينيقية الساحلية التي يعود تاريخ تأسيسها لعام 2750 قبل الميلاد، والتي تعد أشهر حواضر العالم عبر التاريخ ومدرجة على لائحة التراث العالمي، أثارت الغضب والاستفزاز والتساؤل عن أهداف تل أبيب من ذلك، بخاصة أن استهداف صور لم يحصل خلال العام الأول من الحرب، بل استجد خلال الأيام القليلة الماضية.
معقل “حركة أمل” الجنوبي
استهدفت غارات إسرائيلية فجر اليوم الثلاثاء حي عائلة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في بلدة تبنين الجنوبية، مما أسفر عن تضرر منزل عبدالله بري، نجل الرئيس بري، وقبلها بساعات خرج المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي بتحذير جديد لسكان جزء من مدينة صور، وتحديداً شوارع علي الخليل وحيرام ومحمد الزيات ونبيه بري، بضرورة الإخلاء الفوري.
ذلك الإصرار على استهداف مدينة صور دفع بعض المحللين السياسيين إلى ربطه بما تناولته أقنية قريبة من “محور الممانعة” بأن الرئيس بري أصبح معرضاً للاغتيال، كما أن الأميركيين قد يرفعون الغطاء عنه بعد رفضه الشروط الإسرائيلية التي حملها الموفد الأميركي آموس هوكشتاين قبل أيام إلى بيروت، فمدينة صور، عدا عن كونها إحدى المدن المركزية في الجنوب، تعد واحدة من أكبر معاقل “حركة أمل” منذ نصف قرن، وتحديداً منذ أن استقر فيها الإمام موسى الصدر الذي أسس الحركة في سبعينيات القرن الماضي، وهي اليوم تعتبر من المناطق الشيعية المحسوبة على خريطة التوزيع اللبناني السياسي مباشرة لرئيس مجلس النواب نبيه بري.
كما أن الخلفية التاريخية لهذه المدينة تحمل في طياتها ما يرسخ علاقة “أمل” بـ “حزب الله”، إذ حمل سكانها جنباً إلى جنب مع الأطراف الأخرى السلاح لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية خلال الثمانينيات، وكانت المدينة إحدى الجبهات التي رفع فيها السلاح ضد الإسرائيليين، مما عزز صورتها ورمزيتها في محاربة إسرائيل.
نبيه بري هدف جديد
لم يعد الحديث عن استهداف صور خلال الأيام الماضية يقتصر على التحليل الميداني والعسكري، بل ذهب بعض المحللين إلى ما هو أبعد من ذلك وإلى كلام اعتبر قبل أسابيع غير منطقي، إذ يضع محللون الغارات الإسرائيلية على مدينة صور في خانة الرسائل السياسية المباشرة باتجاه نبيه بري، بعد التفويض الذي منحه إياه الأمين الحالي لـ “حزب الله” نعيم قاسم بمهمة التفاوض مع إسرائيل، وقاسم كان قال “نؤيد الحراك السياسي الذي يقوم به الرئيس نبيه بري”، واصفاً إياه بـ “الأخ الأكبر”.
وفي الكواليس اُعتبر هذا التكليف من قبل قاسم للرئيس بري بالتفاوض باسم الحزب عبئاً كبيراً وُضع على عاتق رئيس مجلس النواب، وكذلك لا يخفي مقربون من بري رأيهم في شأن ما أثارته إسرائيل قبل أيام عن وجود مخازن للأموال والذهب أسفل مستشفى الساحلي في بيروت، وهم يقولون صراحة إن كل هذا الكلام ما هو إلا رسالة لبري نفسه، فهذا المستشفى يديره النائب فادي علامة، وهو عضو في كتلة بري النيابية.
وليس بعيداً من هذه الأجواء ما انتشر من أخبار قبل أسبوع تفيد بأن العاملين في مبنى قناة NBN التلفزيونية التابعة لـ “حركة أمل” أخلوه بالكامل بعد ورود اتصال تهديد، وكانت منشورات وتصريحات إسرائيلية صريحة سمّت بري بالاسم، فقد نشر عضو اللجنة المركزية لحزب العمل الإسرائيلي مائير مصري عبر حسابه على منصة “إكس” تهديداً صريحاً لرئيس المجلس، وقال إن “نبيه بري هدف مشروع تماماً”.
وفي المقابل نقل زوار بري عنه قوله “أنا واحد من اللبنانيين الذين يواجهون خطر العدوان، ويسواني ما يسواهم، فأنا لا أفرق عنهم في شيء، وشأني شأن أي لبناني آخر”، فهل التهديد جدّي باغتيال ابن الـ 86 سنة، وأحد أكبر رؤساء البرلمانات في العالم عمراً، وأطول ولاية في رئاسة مجلس النواب، والذي يشغل هذا المنصب منذ عام 1992 وأعيد انتخابه عام 2022؟ وهل يتخذ مهندس التوافقات السياسية احتياطات معينة درءاً لاستهدافه؟ ولماذا وضعته إسرائيل في قائمة استهدافاتها؟ وما هو الموقف الذي صدر عن الرئيس بري وأزعجها؟
لا رادع أمام إسرائيل
يقول الكاتب والمحلل السياسي حسن الدر في حديث إلى “اندبندنت عربية” إن “كل من يقرأ المشهد من بعيد يربط بين أحداث معينة ويقرأ رسائل ضغط على بري منذ استهداف منطقة الجناح غرب بيروت، وصولاً إلى مستشفى الساحل ومدينة صور، فلهذه الأماكن رمزية معينة لقربها من رئيس مجلس النواب، علماً أنه كل اللبنانيين والجنوبيين بالنسبة إليه سواسية، كما أنه لا يوجد اليوم منطقة محسوبة على فريق معين”.
ويكمل الدر ويقول إن “السؤال الكبير هل فعلاً هناك خطر على حياة بري؟ وهل من الممكن أن ترتكب إسرائيل حماقة من هذا النوع وتخرق هذا السقف؟ نعم ذلك ممكن، فلا شيء يردع إسرائيل وقد كسرت كل القوانين والأعراف والمعاهدات”.
بري الشريك والحليف
ومن وجهة نظر أخرى يشير الأستاذ الجامعي المتخصص في العلاقات الدولية والسياسات الخارجية خالد العزي خلال حديثه لـ “اندبندنت عربية” إلى أن “غياب دور الدولة عن تنفيذ مهماتها وترك الأمور دون السيطرة عليها هو ما أوصل لبنان إلى هذه الحال الصعبة، إذ بات الاعتماد على إعادة تفعيل دور مؤسسات الدولة لإنهاء التصعيد الحاصل، ولذلك فإن دور بري لايزال مهماً في لبنان، بخاصة بعد تعرض ‘حزب الله’ لضربة قوية من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وضرب قياداته العسكرية والأمنية وأمينه العام، وضرب مقاره العامة، مما وضعه تحت المراقبة وشل حركته السياسية وبات تحت المجهر، وأدى تطور الحرب إلى تفويض حزب شريكه وحليفه الرئيس نبيه بري بالتفاوض السياسي لجهة تطبيق القرار (1701) وإيقاف الحرب، لكنه أبقى ورقة الميدان تحت تصرفه، إذ بات بري في حاجة ماسة إلى الجميع لتجسيد موقف الدولة الرسمي وللسير في التفاوض السياسي والدبلوماسي، كونه جزءاً أساساً من الدولة التي تشكل غطاء للحزب، ومن ناحية ثانية بات الخارج بحاجة إلى مفاوض لبناني رسمي بمثل وزن مثل الرئيس بري، لذا باتت شخصيته ضرورية للظهور الرسمي والقيام بتنفيذ الشؤون المؤسساتية المطلوبة حالياً، وفي هذه الظروف الخطرة”.
ويضيف العزي “أن مساعي وقف إطلاق النار يجب أن تخرج على لسان الرئيس نبيه بري وليس الرئيس ميقاتي كي لا تتكرر تجربة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة عام 2006 والذي خُون في ما بعد”.
ويتابع أنه “انطلاقاً من هذا بات الرئيس بري شخصية مفصلية، وبات يخرج إلى الإعلام للتعبير عن وجهة نظره القائمة على تطبيق القرار رقم (1701)، والوصول إلى تسوية لاحقة لتطبيق القرارات الدولية والسير بالتهدئة، مما دفع الوسيط الأميركي آموس هوكشتيان إلى الاجتماع به للوصول إلى تسوية فعلية لحل الأزمة الحالية في لبنان”.
سيناريو الفوضى
ولكن ماذا تبتغي إسرائيل من وراء رسائلها المتكررة؟ يتابع الكاتب حسن الدر أن “الهدف هو تطبيق سيناريو الفوضى في لبنان بعد تعثر الجبهة البرية حيث تتكبد خسائر كبيرة، وعند هذه النقطة فإذا أرادت إسرائيل أن تذهب إلى الأقصى فقد تستدعي سيناريو الفوضى عبر استهداف بري الذي يجتمع عنده كل الفرقاء اللبنانيين، ويفاوض باسم الحزب وباسم الدولة في الوقت عينه، ومن أجل ذلك كله فقد يكون بري هدفاً لإسرائيل”.
ويزيد الدر أنه سأل يوماً الرئيس بري عن هذا الموضوع فأجابه “أنه منذ الثمانينيات يعتبر هدفاً إسرائيلياً، والإجراءات الاحتياطية الأمنية التي يتخذها عادية، إذ إن لديه موقعاً وحضوراً ودواماً رسمياً، وإذا أرادت إسرائيل أن تقوم باغتياله فإن كل الإجراءات لن تنفع، لما تتمتع به من تطور وتكنولوجيا”.
اغتيال معنوي وسياسي
ويعتبر العزي “أنه لا يمكن القول إن مصير بري أو ميقاتي في خطر، فالكلام الذي أطلقه الصحافي قاسم قصير بأن الرئيس بري معرض للاغتيال، كما ميقاتي، ربما كان الهدف من ورائه القول إن الاغتيال معنوي وسياسي، في حال لم يستجب المفاوض الدولي للتهدئة”.
ويستبعد العزي الاغتيال الجسدي لأن بري وميقاتي يتفقان مع المجتمع الدولي من أجل إيجاد صيغة لتهدئة الحرب، ويتابع أنه “إذا ذهبت إسرائيل إلى هذه الخطوة الخطرة والجنونية فسيكون رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو بذلك يعمل على تصعيد غير قابل للتهدئة بأي شكل من الأشكال، وذلك من خلال الاشتباك مع المجتمع الدولي واستباحة السيادة القانونية اللبنانية، والدخول في اشتباك مفتوح مع الداخل اللبناني والمحيط الإقليمي، وبهذه الخطوة الخيالية قد يكون نتنياهو سمح لنفسه بإنهاء الكيان اللبناني.
صور وسلاح “حزب الله”
في سياق آخر يعتبر الجيش الإسرائيلي، وفق بياناته، أن في مدينة صور عدداً من المقار والبنى التحتية العسكرية التي يستخدمها “حزب الله”، وتشمل هذه البنى مخازن أسلحة ومراكز اتصالات ونقاط تنسيق، مما يجعلها هدفاً رئيساً لإسرائيل التي ترى أن إضعاف هذه البنى سيقلل من قدرات الحزب، كما أن القيادات الإسرائيلية تعتبر المدينة من الحواضن الشعبية القوية لـ “حزب الله”، ولهذا ترى أن استهدافها يشكل ضغطاً غير مباشر على الحزب من خلال تأليب البيئة الشعبية عليه وتقليل الدعم المحلي له.، كما تهدف تلك الغارات إلى زيادة الضغط السياسي على الحكومة اللبنانية لإثارة قضايا داخلية في لبنان، في ظل التركيبة السياسية المعقدة التي يتمتع بها البلد، وضرب بنى تحتية أو مناطق حيوية في صور قد يكون بمثابة ضغط سياسي على الحكومة أو إشارة إلى عجزها عن السيطرة على الجنوب، وتحديداً الجنوب البعيد عن الشريط الحدودي مع إسرائيل.
وفي سياق متصل تنظر تل أبيب إلى مرفأ صور الحيوي كنقطة محتملة لأنشطة بحرية يستخدمها الحزب، سواء لأغراض تهريب الأسلحة أو التنسيق العسكري، وبالتالي فإن استهداف المدينة، برأيها، يهدف إلى منع أية أنشطة بحرية تهدد أمن إسرائيل أو تدعم بنى “حزب الله” العسكرية.
وكان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي قال في منشور سابق إن “الجيش هاجم مستودعات أسلحة وصواريخ مضادة للدروع ومبان عسكرية ومواقع استطلاع لوحدات عسكرية مختلفة في صور، فضلاً عن ‘وحدة عزيز’ المسؤولة عن عمليات الإطلاق من منطقة جنوب غربي لبنان نحو الأراضي الإسرائيلية”.