بعد أقل من أسبوعين من مشهد هوليوودي أشبه بأفلام نهاية العالم، نفذت فيه إسرائيل عملية تفجير متزامنة لآلاف أجهزة النداء (بيجر) التي يحملها عناصر “حزب الله” في لبنان، مما أدى إلى مقتل عشرات الأشخاص وإصابة مئات، أعلنت تل أبيب الجمعة الماضي تمكنها من قتل زعيم الجماعة حسن نصرالله في هجوم جوي استهدف مبنى في الضاحية الجنوبية في بيروت بما يقدر بـ80 طناً من القنابل.
نجاح الاستخبارات الإسرائيلية في تحديد موقع نصر الله وتدمير الرتب العليا والمتوسطة في “حزب الله”، دفع بعدد من التحليلات والنظريات في شأن قدرة إسرائيل على اختراق الدائرة الداخلية للجماعة الشيعية اللبنانية المسلحة التي نشأت من رحم حرب لبنان عام 1982، وخاضت حرباً واسعة في مواجهة إسرائيل عام 2006 حاولت خلالها الأخيرة قتل نصرالله ثلاث مرات وفشلت.
وفق تقارير الصحافة الغربية فإن إسرائيل قامت بعملية إعادة توجيه واسعة النطاق لجهودها في جمع المعلومات الاستخبارية حول “حزب الله” بعد الفشل المفاجئ لجيشها في توجيه ضربة قاضية ضد الجماعة المسلحة في عام 2006، أو حتى في القضاء على قيادتها العليا، بما في ذلك نصر الله. إذ أمضت إسرائيل سنوات عديدة منذ ذلك الحين في تعزيز ما كان يعتبر بالفعل واحدة من أفضل عمليات جمع المعلومات الاستخبارية في العالم، واستثمر كثير من الجهد في الموساد والاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.
مقتل سليماني والوحدة 8200
قامت الوحدة 8200 لدى الاستخبارات الإسرائيلية ببناء أدوات سيبرانية متطورة لاعتراض الهواتف المحمولة لـ”حزب الله” وغيرها من الاتصالات بشكل أفضل، وأنشأت فرقاً جديدة داخل صفوف القتال لضمان نقل المعلومات القيمة بسرعة إلى الجنود والقوات الجوية. كما بدأت إسرائيل في إرسال مزيد من المسيرات وأقمارها الاصطناعية الأكثر تقدماً فوق لبنان لتصوير معاقل “حزب الله” بشكل مستمر وتوثيق حتى أصغر التغييرات في المباني التي قد تكشف، على سبيل المثال، عن مستودع للأسلحة – وهو العمل الذي أطلق عليه أحد مسؤولي الاستخبارات الإسرائيليين السابقين “السيزيفيان”.
وكشفت مسؤولون أميركيون وإسرائيليون لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن الوحدة 8200كانت وراء المعلومات التي أسفرت عن اغتيال قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في يناير (كانون الثاني) 2020. إذ علمت الاستخبارات الإسرائيلية أن سليماني يستعد للطيران إلى دمشق، ثم قيادة قافلة إلى بيروت للقاء نصر الله، لكن في حين قررت تل أبيب عدم محاولة قتل نصر الله في ذلك الوقت خوفاً من بدء حرب، فإنها نقلت المعلومات إلى الولايات المتحدة، التي سارعت لقتل سليماني في غارة بمسيرة على مطار بغداد الدولي.
ويقول مسؤولون أميركيون وإسرائيليون إن استثمار إسرائيل في جمع المعلومات الاستخبارية بشكل أكبر بعد الفشل في لبنان أتى بثماره للمرة الأولى في عام 2008، إذ عمل الموساد مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية لقتل عماد مغنية أحد كبار القادة العسكريين لـ”حزب الله”، أثناء وجوده في سوريا.
ووفق مسؤولين إسرائيليين حاليين وسابقين تحدثوا لصحيفة “فايننشيال تايمز” البريطانية، فإنه على مدى العقدين الماضيين، قامت وحدة الاستخبارات الإسرائيلية المتطورة 8200، ومديرية الاستخبارات العسكرية التابعة لها، التي تسمى أمان، بالتنقيب في كميات هائلة من البيانات لرسم خريطة للميليشيات سريعة النمو في “الساحة الشمالية” لإسرائيل.
وقالت ميري آيسين، وهي ضابطة رفيعة سابقة لدى الاستخبارات الإسرائيلية، إن إسرائيل وسعت نطاق رؤيتها لـ”حزب الله” بأكمله، متطلعة إلى ما هو أبعد من جناحه العسكري إلى طموحاته السياسية وعلاقاته المتنامية مع الحرس الثوري الإيراني وعلاقة نصر الله بالرئيس السوري بشار الأسد. وأضافت أن الاستخبارات الإسرائيلية ظلت منذ ما يقرب من عقد من الزمن تشير إلى “حزب الله” على أنه “جيش إرهابي” وليس جماعة إرهابية، “لقد كان تحولاً مفهوماً هو الذي أجبر إسرائيل على دراسة حزب الله عن كثب وعلى نطاق واسع كما فعلت مع الجيش السوري، على سبيل المثال”.
سوريا نقطة الاختراق
تزايد قوة “حزب الله” بما في ذلك الانتشار في سوريا عام 2012 لمساعدة الأسد في قمع الانتفاضة المسلحة ضد حكمه، منح إسرائيل الفرصة لاتخاذ إجراءاتها. فما ظهر من الجماعة وفر “صورة استخبارية” واسعة، من كان مسؤولاً عن عمليات “حزب الله” ومن كان يحصل على ترقية ومن كان فاسداً ومن عاد لتوه من رحلة غير مبررة. وبينما كان مقاتلو “حزب الله” أكثر صلابة في الحرب الدموية في سوريا، نمت قوات الجماعة المسلحة لمواكبة الصراع الذي طال أمده، في الوقت نفسه جعلهم هذا أكثر عرضة للجواسيس الإسرائيليين الذين يقومون بتعيين عملاء أو البحث عن منشقين محتملين.
وقالت مديرة البرامج لدى معهد الشرق الأوسط في واشنطن راندا سليم: “كانت سوريا بداية توسع حزب الله، وأضعف ذلك آليات الرقابة الداخلية لديهم وفتح الباب للتسلل على مستوى كبير”.
خلقت الحرب في سوريا ينبوعاً من البيانات، وكثير منها متاح علناً لجواسيس إسرائيل وخوارزمياتهم لفهمها. وكان نعي الشهداء مثل “ملصقات الشهداء” التي يستخدمها “حزب الله” بانتظام، واحدة منها، وهي مليئة بمعلومات قليلة، بما في ذلك البلدة التي ينتمي إليها المقاتل والمكان الذي قتل فيه ودائرة أصدقائه الذين ينشرون الأخبار على وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت الجنائز أكثر دلالة، إذ كانت في بعض الأحيان تخرج كبار القادة من الظل، حتى ولو لفترة وجيزة.
ووفق سياسي لبناني سابق رفيع المستوى تحدث لـ”فايننشيال تايمز”، فإن اختراق الاستخبارات الإسرائيلية أو الأميركية لـ”حزب الله” كان ثمناً لدعمه الأسد، إذ أصبحت الجماعة السرية فجأة على تواصل دائم وتتشارك المعلومات الاستخبارية مع جهات الاستخبارات السورية والروسية.
الوحدة 9900
كان تركيز إسرائيل الموسع على “حزب الله” في المنطقة مصحوباً بميزة تقنية متنامية، تتعلق بأقمار التجسس الاصطناعية والمسيرات المتطورة وقدرات القرصنة الإلكترونية التي تحول الهواتف المحمولة إلى أجهزة تنصت. وعملت الوحدة 9900 على جمع أدق البيانات حتى أنها كانت تكتب خوارزميات تفحص “تيرابايتات” من الصور المرئية للعثور على أدنى التغييرات، على أمل تحديد جهاز متفجر على جانب الطريق أو فتحة تهوية فوق نفق أو التعرف على إضافة مفاجئة لتعزيزات خرسانية، مما يشير إلى وجود مخبأ.
ووفق مسؤولين إسرائيليين فإنه بمجرد تحديد هوية أحد عناصر “حزب الله”، يتم إدخال أنماط تحركاته اليومية في قاعدة بيانات ضخمة من المعلومات، التي يتم سحبها من أجهزة يمكن أن تشمل الهاتف المحمول لزوجته أو عداد المسافات في سيارته الذكية أو موقعه. كما يمكن التعرف على هذه من مصادر متباينة مثل مسيرات تحلق في السماء أو من كاميرا مراقبة مخترقة يمر بها، وحتى من صوته الملتقط عبر ميكروفون جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون.
وتقول “نيويورك تايمز” إن إسرائيل تمكنت من اختراق هواتف “حزب الله” الخلوية، إلى الحد الذي دفع الجماعة إلى اتخاذ قرار بالتحول إلى أجهزة النداء (البيجر) وأجهزة اللاسلكي (ويكي توكي). ورداً على ذلك بدأ الموساد في وضع خطة لتحويل أجهزة النداء وأجهزة الراديو إلى قنابل مصغرة، ويبدو أن الموساد أنشأ شركة وهمية في بودابست وصنع أجهزة البيجر بموجب ترخيص من شركة في تايوان. وقبل وصول الأجهزة إلى لبنان قام عملاء إسرائيليون بتركيب متفجرات داخلها، وتم توسيع نطاق العملية لإنتاج الآلاف من الأجهزة، مما تطلب تصنيعاً متطوراً.