لا يُخفى على أحد أنّه يتعيّن على لبنان أن يتعامل مع معدّلات البطالة المرتفعة أيضًا، فهي ليست مشكلة مُجتزأة عن الواقع الاقتصاديّ، لا بل قد تكون المفتاح الأساسيّ لحلّ الأزمة المحليّة اقتصاديًّا. فما زال الوضع الاقتصاديّ يزداد سوءًا، وتفاقَم بعد الانفجار المدمِّر الذي ضرب مرفأ بيروت، وعدم وجود استقرار سياسيّ يولِّد جوّاً من الثقة.
كما يكافح ٩٠ ٪ من المواطنين لإعالة أُسَرهِم، وهم من ذوي الدخل المنخفض، وأشارت آخر الإحصائيّات التي قامت بها الأمم المتّحدة في أوائل أيّار، أنّ أكثر من ٦٠ ٪ من اللبنانيّين يرغبون في مغادرة البلاد إذا استطاعوا. وتُعزى هذه الرغبة إلى ارتفاع معدّل البطالة من ١١,٤ ٪ في العام ٢٠١٩ إلى أكثر من ٣٥ ٪ حتّى هذه اللحظة.
في السياق الاقتصاديّ عينه، نجد أنّ التضخّم يصل إلى مستويات قياسيّة، مقارنة بـ ٣,١ ٪ قبل العام ٢٠١٩. ونعلم أنّ المسبِب الرئيسيّ لهذا الوضع إنّما هو عقود من سوء الإدارة والفساد التي تناوَبَت على استمراريّتها معظم الطبقة الحاكمة.
من ناحية أخرى، ليست البطالة قضية مجتمعيّة بحدّ ذاتها، لكنّها تؤثر على المجتمع بأسره. ففي الحقيقة، قد تؤدّي إلى تفكّك المجتمع، والبلد لم يعُد منتجًا، ونسَب البطالة أقلّ مما هو متوقّع، لأنّ الهجرة بين الشبّان باتت مرتفعة للغاية. وفي حال استمرار هذا الفشل الاقتصاديّ، قد نعيش فوضى اجتماعيّة قد تصبّ في مصالح طبقة معيّنة. كما أنّ إحساس الاستغلال لدى العمال والموظّفين من قبل بعض أرباب العمل، سواء بساعات العمل أو الضمان الاجتماعيّ أو بدل المواصلات، قد يقود إلى شعور بإحباطٍ تامّ، بعدما كان لبنان يصدِّر التفاؤل شرقًا وغربًا.
في العديد من البلدان، يتابع المراقبون مُنحنى البطالة ويسجّلون أدنى التغيّرات فيه. وفي بعض الأحيان، يكفي الأمر أن تسجّل الولايات المتّحدة الأميركيّة عددًا مريحًا من الوظائف الجديدة المُتاحة التي تم توفيرها على مدار شهر، لتظهر نوعاً من الانتعاش العالميّ في جميع الأسواق الماليّة في العالم. ففي فرنسا مثلًا، يُراقب هذا المنحنى بقلقٍ في نهاية كلّ شهر، ويبتهج الفرنسيّون بمجرد انخفاضه بنسب قد تقارب ٠,٣ ٪. لكن في لبنان، نجد أنّ كلّ هذه النسب المئويّة غير مدعومة بأيّ إحصائيّات، فهي تتراوح بين ٢٠ ٪ إلى ٣٧ ٪، وهذه نسب متفاوتة بشكلٍ كبير، ولا يمكن أن تكون حقيقيّة وملموسة.
وبالتوازي مع الأرقام والإحصائيّات التي نراقبها، لا بدّ من تعريف واضح ومحدّد لمفهوم البطالة أو الشخص العاطل عن العمل. فقد يختلف التصنيف من هيئة إلى أخرى: فمَن هم وماذا يفعلون؟ هل هم باحثون عن عمل، وبالتالي عاطلون عن العمل بشكلٍ جزئيّ؟ في لبنان، نجد أنّ غالبيّة الأشخاص الذين يعانون البطالة لا يبحثون عن عمل بجدّيّة فلا وظائف جذّابة ولا أجور «حرزانة»، فكثيرون يكسبون رزقهم ضمن مهَن محفوفة بالمخاطر، بدوامٍ جزئي أو يعملون بالساعة. وكذلك، قد نجدهم يشتغلون في وظائف غير مُعلن عنها، أو وظائف موسميّة كما هي الحال في الأعمال الزراعيّة أو تلك المرتبطة بالسياحة، ونادرًا ما يحصل بعض المحظوظين على بعض المزايا والعوائد الماليّة المستقرّة مع انتهاء تلك المواسم.
في نظرةٍ سريعة على هذه الأعمال، يتبيّن أنّ الوظائف غير المستقرّة أو بدوام جزئيّ وَفيرة، ونكتشف وظائف جديدة كلّ يوم، من خدمة صفّ السيارات، إلى حرّاس الأمن في المباني السكنيّة والمتاجر والمستشفيات، كذلك الحرّاس الشخصيّين لرجال الأعمال والسياسيّين والفنانين. القائمة طويلة إذا أضفنا العاملين في خدمة «التوصيل»، وكذلك بالنسبة الى مهنة سائقي الشاحنات. ومن ناحية أخرى نجد مهناً مقنّعة ولا يمكن ذكرها علنًا، مثل أعضاء الميليشيات، والمهرّبين على اختلاف أنواعهم.
علاوة على ما ذُكِر، ثمّة شريحة آخذة في ازدياد تَندَرِج تحت مَن يتلقّون الإعانات الماليّة، هم أولئك الذين لديهم أحد أفراد أسرتهم العامِل في الخارج، ويعتمدون على إرسال الإعانات الماليّة إليهم بانتظام. يُضاف إلى مشهد البطالة في لبنان، جحافل العاطلين من اللاجئين السوريّين والفلسطينيين وغيرهم، الذين يبحثون أيضًا عن وظائف، ولا يمكنهم العثور عليها إلّا على حساب العاطلين عن العمل في لبنان.
يساعدنا إلقاء نظرة على التاريخ لفهم الحركة الحالية لظاهرة البطالة – الهجرة بشكل أفضل. ففي الواقع، نرى أنّ الانفتاح على العالم واكتشاف الثقافات الأخرى والتبادلات الدوليّة هي قِيَم تشكل جزءًا من الحمض النوويّ للشعب اللبنانّي. تاريخيًّا، بدأت هجرة الشباب حتّى قبل الحربَين العالميّتَين، بعدها توجّه اللبنانيّون إلى بلدان أميركا اللاتينيّة. واليوم، تعرف هذه القارّة أكبر عدد للشتات اللبنانيّ، وهم يفوقون في تعدادهم أولئك الذين ما زالوا في وطنهم. في الستينات، فتحت أستراليا أبوابها على مصراعيها أمام الشباب اللبنانيّ في بحثٍ مُكثّف عن العمالة الأجنبيّة. ومنذ السبعينات ازدادت موجات الهجرة هربًا من الحرب الأهليّة حينها، وتشتّت اللبنانيّون إلى جميع أنحاء العالم، باحثين عن فرص عمل أفضل. وهكذا، يمكننا أن نقول انّ الهجرة في الوقت الحاليّ هي إيجابيّة ووسيلة للحدّ من الفاقة الاقتصاديّة-المعيشيّة ولمعدّلات البطالة الكبيرة.
بالنسبة الى ما يخصّ هجرة العقول، كانت فرنسا وألمانيا والولايات المتّحدة الأميركيّة من الوجهات المُحَبّبة للبحث عن مجالات دراسيّة أوسع، خصوصًا بعد التحصيل العلميّ الجامعيّ الأوّل في لبنان. كما كانت فرص العمل وفيرة هناك، ما أدّى إلى بقاء كثيرين في بلاد الاغتراب. وللأسف، تدرَّب وتكوَّن اللبنانيّون في جامعاتهم المحلّيّة الخاصّة والحكوميّة المعروفة بتمتّعها بأعلى المعايير الأكاديميّة في الشرق الأوسط حينها، وتميّز حديثو التخرّج، بإتقانهم لثلاث لغات، لكنّهم لم يستثمروا «وزناتهم» في بلدهم. فكانت دول الخليج سريعة النموّ الوجهة الأكثر شدًّا واستقطابًا، حيث قدّمت رواتب عالية وقربًا جغرافيًّا من لبنان. واستمرّت موجات الهجرة، وتوسّعت إلى بلاد شملت دول إفريقيّة. هكذا، أصبح من البديهيّ ألّا توجد عائلة واحدة في لبنان ليس لديها أفراد يعيشون في المهجر.
منذ العام ٢٠١٩، وبداية الأزمة الاقتصادية، تسارَعت ظاهرة الهجرة بشكل خطير وانتشَرت، لا في أوساط الطلّاب والخريجين الشباب وحسب، بل بين اليد العاملة الشابّة، ومِمّن كَوّن عائلة واستقرّ في لبنان. إذ يغادر أكثر الأطباء والمحامين، والمهندسين، وأساتذة الجامعات تأهيلًا وكفاءةً بحثًا عن مستقبل لائق، بعد أن لامست أجورهم «العَدَم» مقارنةً مع الحدّ الأدنى في بلدان أخرى. فوفقًا لتقديرات نقلتها مديريّة الأمن العامّ اللبنانيّ، فقد غادر لبنان أكثر من ١٠٠,٠٠٠ شخص نهائيًّا في العام ٢٠٢١، وهو رقم قياسيّ منذ الحرب الأهليّة.
وعلى الرغم من أنّ معظم البلدان المذكورة أعلاه فقدَت بعضًا من جاذبيتها بسبب الأزمات الأخيرة (جائحة كوفيد-١٩ والأزمة العالميّة الاقتصاديّة)، يبقى الأمر الأساسيّ والمُحرِّك للمغادرة: تجنّب البطالة التامّة، ونقص الدعم النفسيّ والماديّ، والإذلال اليوميّ الذي يتعرّض له اللبنانيّ لكي يبقى «على قيد الحياة». فمهما كانت الوجهة، نرى أنّ بعض الشباب اللبنانيّ يغادر موطنه للعمل مقابل مبالغ زهيدة. إذ قَدّر البنك الدوليّ حجم تحويلات المغتربين بحوالى ٦,٨ مليارات دولار أميركيّ، ما وضعَ لبنان في المركز الثالث إقليميًّا بحجم التحويلات، والمركز الثاني عالميًّا لنسبة مساهمة تحويلات المغتربين للناتج المحلّي الإجماليّ بنسبة ٣٧,٨ ٪، بغضّ النظر عن كمّيّة النقد الذي يأتي من المهجر «بالشنط» لعدم ثقة المواطن بالنظام المصرفيّ حاليًّا.
إلى يومنا هذا، يعاني اللبنانيّ في سحب مدّخَراته من المصارف المحلّيّة بسبب الأزمة الاقتصاديّة التي لم تجد أيّ بصيص أمل بعد. وهذا الوضع الاقتصاديّ المرير يعني أنّ الأُسَر لم تعُد قادرة على دفع تكاليف الجامعات الخاصّة، لا بسبب نقص الموارد الماليّة وحسب، بل بسبب نقص السيولة «الفريش». نتيجة لذلك، وبحسب شريحة كبيرة من الشبيبة، أصبحت الدراسة في الولايات المتّحدة الأميركيّة، أو أستراليا رفاهيّة لا يمكن تحقيقها.
من ناحية أخرى، نجد فرنسا، الوجهة المفضّلة للشباب اللبنانيّ، بين الناطقين بالفرنسيّة بالطبع، وحتّى أيضًا المتحدّثين باللغة الإنكليزيّة، الذين يراجعون لغتهم الفرنسيّة التي اكتسبوها في مدارسهم، لاجتياز الاختبارات اللازمة للحصول على تأشيرات الخروج. فوفقًا للإحصاءات التي قدمها Campus France، ارتفع عدد الطلاب اللبنانيّين الوافدين للدراسة في فرنسا من ٥٥٠٠ في العام الأكاديميّ ٢٠١٧-٢٠١٨، أي قبل الأزمة الاقتصاديّة إلى أكثر من ٨٠٠٠ طالب في العام الأكاديميّ ٢٠٢٠-٢٠٢١
في المُغترب، يميل الشباب اللبنانيّ إلى اعتناق عادات وتقاليد البلدان المستضيفة، خصوصًا الأوروبيّة منها بأشكال ودرجات مختلفة، مع حفاظهم على ارتباطهم الشديد بجذورهم الوطنيّة. فهم يدركون جيّدًا الفرصة التي تتيحها لهم تلك البلاد المتقدّمة للوصول إلى دراسات مهنيّة رفيعة المستوى، ولا تجد البطالة مكانًا لها في قواميسهم، بأيّ حال من الأحوال.
كما يظهر حرصهم على الاندماج الكامل في المجتمع الجديد كهدفٍ أساسيّ، ويُترجم ذلك في إظهار المرونة في جميع الظروف، والوصول إلى أفضل المناصب في الشركات الكبرى، والمساهمة في الحفاظ على العلاقات الوديّة بين البلدين، بالنظر إلى الدور الجيوسياسيّ والتجاريّ الذي يؤدّيه لبنان في المنطقة. إنّ الطموح الوحيد عند غالبيّة الشباب اللبنانيّ أن يصبحوا مصدر فخر ودعم لأسَرهم في الوطن، سواء أكان ماديّاً أو معنويّاً. ففي الواقع، في بلد تُقاس فيه المكانة الاجتماعيّة للأسرة إلى حدّ كبير بالنجاح الأكاديميّ والمهنيّ لأفرادها، فإنّ الشباب اللبنانيّ يميل إلى بذل جهوده في الحقول التعليميّة إلى أقصى حدّ. لذلك، نجد اهتمامًا زائدًا في الحصول على الدرجات العُليا الجامعيّة، وأصبحت شهادة الماجستير غير كافية لدى كثيرين، ويرغبون في الحصول على الدكتوراه، ما يُعزّز من وضعهم في سوق العمل خارجيًّا وحتّى في لبنان مستقبليًّا.
إنّ هذا الاتجاه المتناميّ لحركة الهجرة، وارتفاع البطالة بعيد كلّ البعد عن أن يكون الوضع الأمثل للبنان. وسيؤخِّر حتمًا تعافي البلاد من أزماتها الاقتصاديّة وحتّى الوجوديّة، وسيجعلها محرومة بقسوة من رأس مالها البشريّ الذي تتعب كثيرًا في تنميته، لكنّها لا تستطيع الاستفادة من حصاد ثماره.
في الوقت الحالّي، يجب أن نكون واقعيين، ونعتبر أنّه بفضل المساعدات الماليّة التي يُرسلها الشتات اللبنانيّ، تتمكّن العديد من العائلات اللبنانيّة من تغطية نفقاتها اليوميّة، وتغلّبها على واقع الجوع والقهر. وفيما يتعلق بالإنفاق العام، فإنّ الجهود التي يَتعيّن القيام بها تشمل: استرداد الأموال العامّة المسروقة، وإعادة هيكلة المؤسسات العامّة وظيفيًّا، بما في ذلك دمج أو إلغاء المؤسسات الزائدة عن الحاجة. كذلك، على الحكومة ووزارة التربية والتعليم خصوصًا أن تعمل على إعادة تقييم أنظمتها التعليميّة، بحيث تلبّي تغيير طبيعة سوق العمل اللبنانيّ، وكذلك دعم التدريب المهنيّ، حتّى تصل إلى نوع من التناغم بين مهارات الطلاب المكتسبة والوظائف المتاحة والمستجدّة.
واقعيًّا، لا شيء يمكن أن يوقِف هجرة أدمغة أولادنا وأيديهم العاملة، فنحن نَهبهم أجنحة تطير بهم إلى العالميّة، وجذورًا تربطهم في وطنهم الأمّ. لكن، فقط الإصلاحات الجادّة ومناخ الثقة المتجدّد سيُمكّنان الأجيال القادمة من تخيّل إمكانيّة البقاء والتطوّر بشكل كامل في لبنان كَونه أحد الاحتمالات الإيجابيّة الممكنة. كما علينا الرفع من كرامة العمل، لأنّنا إذا وَفّرنا لأفراد وطننا دخلًا كريمًا ومنتظمًا، ساعدناه على التقدّم والتطوّر الشخصيّ، وعززنا من شعور اللبنانيّ بالانتماء إلى الوطن، ودعمنا ثقته بالمستقبل، وذهبنا بأحلامه إلى أبعَد من مجرّد «محاربة الجوع» في لبنان الخير والبركة.