كعبق البتراء وسحرها، كانت تلك الليلة التي قدمتها الفنانة هبة طوجي، رفقة الموسيقار أسامة الرحباني، ضمن مهرجان ليالي البتراء، الذي تنظمه جمعية أصدقاء مهرجانات الأردن. ولا يمكن وصف ذلك الحفل، الذي قدم في الصحراء الضاربة في القدم، سوى بأنه تماهى تماماً مع التاريخ والأصالة، واستطاع جذب تفاعل غير مسبوق من الجمهور الذي شق على نفسه، وقطع مئات الكيلومترات؛ للاستمتاع بالفن والموسيقى الحقيقيين.
نصنع إرثاً فنياً:
في حديث خصت به «زهرة الخليج»، أصرت المطربة اللبنانية صاحبة الصوت الفريد، هبة طوجي، على أنها رفقة الموسيقار الكبير أسامة الرحباني، يسعيان إلى أن يقدما للمستمع العربي شيئاً من الأرشيف، الذي يفتخران به، ويريدان أن يسجلا من خلاله أجمل ما لديهما بطريقة مختلفة.
وتقول النجمة اللبنانية إنهما يعملان على المضمون في كل حفلٍ يقيمانه، ويسعيان فيه لتقديم شيء جديد يميزه عن غيره. وهو الأمر الذي يؤكده الموسيقار أسامة الرحباني نفسه، مشدداً على أنهما كريمان في عملهما؛ ليظهر بأكمل وجه، بهدف ترسيخه بذاكرة الجمهور وبناء صورة جميلة لفنهما، الأمر الذي يدفعهما دائماً للوجود في الأماكن العريقة، مثل: البتراء وجرش وقرطاج ومسارح لبنان التاريخية، مثل بعلبك وغيره، وكذلك المسارح العالمية التي تحظى بثقل واهتمام كبيرين؛ لأن ما يقدمانه يشبه هذه الأماكن من حيث الأهمية والعراقة.
ابنة مدرسة الرحابنة.. وأمتلك خصوصيتي الفنية:
تقر هبة طوجي بأن «ثلاثية فيروز ومنصور وعاصي الرحباني» لن تتكرر، فهم العمالقة الثلاثة، لكنها تصر على كونها ابنة هذه المدرسة، مثلها مثل أي فنان تربى على هذا الجوهر، خاصةً مع عملها مع أسامة أو منصور الرحباني، وحتى مروان وغدي، اللذين استمرا على الخط الذي رُسم بالأساس.
وتكمل هبة طوجي: إننا اليوم في عام 2023 وهو عالم جديد، بتُّ أمتلك فيه خصوصيتي وهويتي الفنية الواضحة، التي أضفت إليها بعض الجوانب، من خلال الخبرات التي اكتسبتها من عملي في التمثيل والإخراج.
وتزيد أن أي شخص يستمع لها؛ سيجد تأثرها واضحاً بمدرسة الرحباني؛ لأنها تتلمذت فيها، لكنها بذات الوقت تقدم أنماطاً جديدة تتماهى مع العصر والحالة الخاصة التي تشبهها فنياً في الأداء والصوت والشكل والأفكار.
وتقول هبة: «نحن نصنع الموسيقى لنقول ما يخطر ببالنا، دون أي تفكير في أن نكون هكذا أو هكذا، ربما المجتمع العربي يحب المقارنات جداً، لكنني لا أحبها، فمنصور وعاصي اللذان صنعا هذه الإمبراطورية، وانضمت إليهما فيروز باتوا كالغيوم، فهم ملوك الشعر والموسيقى والأفكار المسرحية والفكر الإنساني، وانضم لهم الصوت فشكلوا حالة فريدة باتت كالينابيع التي تروي الأجيال التي جاءت بعدها».
وتكمل بأنها تريد أن تقدم أعمالاً كبيرةً تعالج من خلالها قضايا الشعوب، وأنها وأسامة لا يسعيان للربح السريع، رغم قدرتهما عليه من خلال الغناء بالفنادق والحفلات الخاصة، وتقول هبة: «نحن نريد تقديم الفن الصعب».
لهذا السبب أقدم أغاني فيروز:
لا ينسى أحد ذلك الجدل الذي رافق غناء هبة طوجي لأعمال السيدة فيروز، خلال حفل «ليلة أمل»، الذي أقيم في عام 2022، إلا أن هبة تصف فيروز، قائلةً: «هي الأم التي تحرس البلد، والمظلة الكبيرة لنا، وهي عيدنا وتراثنا، ولا يمكن أن نفصل بين هذين الأمرين».
وتكمل طوجي: «فيروز خارج المقارنة، وشرف كبير لي أن أكون ابنة هذه المدرسة، بعيداً عن المقارنة، لو كنا نريد استنساخ أي فنان فما كنت حظيت بجمهور، لكننا نعلم كيف نغني ونبني طريقتنا الخاصة، كما عمل الرحابنة في بداياتهم بالخمسينيات».
وتقول هبة إنه لا توجد مشاكل عملية أو قانونية في تقديم أغاني فيروز، وأي شخص يستطيع تقديم تلك الأعمال، لكنني أفضل أن أركز على مشاريعي الخاصة وأعمالي الغنائية، وفي جميع حفلاتي أقدم كل ما غنيته بألبوماتي الخاصة، لكن لا بد لي بين الحين والآخر أن أقدم تحية للعظماء، سواء من الرحابنة أو غيرهم، مثل: داليدا، وجاك بريل، فما نغنيه من أعمالهم هو تحية إجلال وإكبار لهم.
لجان تحكيم برامج المواهب:
لقاء شخص بحجم أسامة الرحباني يفرض توجيه سؤال له عن آلية اختيار أعضاء لجان التحكيم من غير أصحاب الاختصاص، ويجيب على هذا الأمر، مؤكداً أنه يشكل حالة خاصة بالعالم العربي، فهو موسيقي يمتلك علاقة بالإنتاج الموسيقي، ومتخصص في الصوت، لكن المحطات الفضائية بات اهتمامها ينحصر بالحضور أكثر وشعبية الفنان، وما يحققه من مشاهدات في منصات «السوشيال ميديا».
وعن مشاركته في برنامج «ديو المشاهير»، أشار إلى أن هذا البرنامج هو نوع من الترفيه وليست له علاقة بالصوت، وبإمكان أي إنسان يمتلك شهرة، سواء بالتمثيل أو الرقص أو المسرح، أو أي مجال آخر أن يشارك به، فهو برنامج ترفيهي استعراضي خيري، ولا يأخذ الفنان على محمل الجد مع وجود استثناءات قليلة مرت به.
الجمهور العربي.. والأوروبي:
تميزت طوجي بكونها واحدة من الفنانات القليلات، اللاتي أحيين العديد من الحفلات خارج الوطن العربي، وفي عدد كبير من البلدان الأوروبية، وحققن نجاحاً كبيراً في ذلك. وتقول هبة، خلال حوارها مع «زهرة الخليج»، إن الجمهور دائماً يشبه البيئة التي يخرج منها، فبعض الجماهير تعبر أكثر من غيرها، وهنالك نوع يتميز بالإصغاء، وآخر بالتفاعل، وهذا كله يعتمد على الشعوب وثقافاتها، ففي الصين وتايوان لا يمكن سماع أي همس أو صوت خلال الغناء، حتى إن المطرب قد يعتقد أنهم لا يحبون ما يقدمه، لكنهم عند انتهاء العرض يبادلونه بتصفيق حار جداً، ويقفون احتراماً له وهو أمر يعكس بيئة الجمهور وثقافته. وفي بلدان أخرى قد تتسبب كثرة التفاعل وشدته في ما يشبه الفوضى بالحفل، ما يمنحه جمالاً خاصاً أيضاً فالفنان يحس بتفاعل الجمهور معه، ويدفعه لتقديم أفضل ما لديه.
ولا يختلف الجمهور، وفق حديث هبة، باختلاف لغته وبيئته وبلده فقط، بل بعشقه وتتبعه للمدارس الموسيقية، فهناك من يحب الموسيقى الكلاسيكية، وآخرون يحبون التقليد، وهنالك عشاق الجاز أو الروك أو البوب، لكن المؤسف أن أغلب الجمهور العربي تم تنميطه بنمط موسيقي معين، غلب عليه الطابع التجاري.
المسرح الغنائي مستمر:
يرفض الموسيقار العربي، أسامة الرحباني، فكرة انتهاء المسرح الغنائي، خاصة مع تطور الحياة وسرعتها وسيطرة التكنولوجيا عليها، ويشير في حديثه إلى أن هبة طوجي اشتركت في تقديم أهم مسرحية غنائية بالعالم، وستعرض من جديد بفرنسا في الذكرى الـ25 لانطلاقتها، وستجوب العالم أجمع بعد ذلك مع الكاست الأساسي لها.
ويضيف الرحباني أن هبة طوجي بدأت مسيرتها في المسرح الغنائي، رفقته هو والأستاذ منصور الرحباني، عندما قدما «عودة الفينيق».
ويكمل الرحباني قوله: «للأسف إننا بالأزمات العربية نخسر جمهوراً مثقفاً ومتعلماً، وهذا الجيل يريد الهروب بحثاً عن قوته، وما يأتي من بديل يستسهل المقاربة الفنية نوعاً ما».
ويوضح أن الفن دائري بجميع الأحوال، ففي بعض الأوقات يعلو المسرح الغنائي على سبيل المثال، ثم ينخفض تارةً ويعلو التلفزيون أو السينما، وأننا مع تقدم التكنولوجيا وسيطرتها على كل مفاصل الحياة، بدأنا نخسر الكثير من احترام المسارح، وبات هنالك تثاقل للحضور إليها، لذا بات واجباً علينا أن نعلن عن مسرحنا بطرق مختلفة، تدفع الجمهور لحضوره، والقدوم إليه.
ويقول الرحباني: «يبقى الأمر متعلقاً بالتربية، وإخراج جيل متعلق بالمسرح الغنائي، وهو أمر يجب أن يغرس في المدارس ومن قبل الأهالي، وتحبيب الأجيال الجديدة في هذا الفن الراقي».
حلم يقترب من الحقيقة:
لايزال حلم تقديم مسرحية «نفرتيتي» يراود أسامة الرحباني، ويشير إلى أن الفكرة تلح على رأسه، ورأس هبة طوجي منذ عام 2010، ولم يعد الموضوع فكرة فحسب، بل إنه اجتمع مع مصممي الأزياء والديكور والإضاءة من فرنسا ولندن وأميركا، ولايزال حتى اليوم يعمل لإنتاج هذا المسرح الغنائي الضخم جداً.
ويكشف الرحباني عن أهم ملامح شخصية «نفرتيتي»، في مسرحيته المقبلة، قائلاً إنها شخصية عميقة، لها علاقة بالتاريخ والغموض، وتخلف جوانب أخرى من حولها، وهي امتداد للحاضر، وقصة لم تنتهِ بعد.
ويشير الرحباني إلى أن هذه المسرحية تعد عملاً مهماً يجمع التاريخ والماضي بالحاضر، ويريد من خلال تقديمه أن يوازن بين عراقة الماضي، ومتطلبات الجيل الجديد الذي غزت «السوشيال ميديا» حياته، متوقعاً أن يكون العمل جاهزاً للعرض بعد عام ونصف تقريباً.