تطلق أسماء مختلفة على مخدر الكبتاغون الذي أغرق الأسواق الخليجية والموانئ الأوروبية؛ منها كوكايين الفقراء ووقود الحروب وحامي العرين الدموي لنظام الأسد.
فهذه الحبوب المخدرة لا تُعد عصابات المخدرات في كولومبيا وإيطاليا مصدرها الأول، بل إحدى أعرق حضارات الأرض: سوريا، التي حوّلها بشار الأسد ونظامه إلى إمبراطورية مخدرات تدر عليه وعلى شركائه مليارات الدولارات. وقد كانت تلك إحدى أهم أوراق ضغطه ليعود إلى الجامعة العربية أخيرًا.
فكيف تحوّلت سوريا إلى دولة مخدرات، وكيف لعب الكبتاغون دورًا في تحفيز مساعي عودتها إلى الجامعة العربية؟
ما هو الكبتاغون؟
توضح الباحثة في معهد نيولاينز للإستراتيجية والسياسة في واشنطن كارولين روز في حديثها لـ”أنا العربي”، أن الكبتاغون منبه من نوع “الأمفيتامين”، طورته شركة أدوية ألمانية في ستينيات القرن الماضي باسم “الفينيثيلين”.
وتضيف أن الأطباء كانوا يصفونه بصورة قانونية لعلاج عدد من الاضطرابات والمشاكل الصحية، على غرار اضطراب نقص الانتباه.
لكن خصائص الكبتاغون الإدمانية اكتُشفت في الثمانينيات، فأدرجته منظمة الصحة العالمية عام 1985 ضمن المواد الممنوعة.
وبينما قُضي على إنتاجه في غرب أوروبا في التسعينيات، دفع هذا الأمر مصنّعيه إلى التحول إلى جنوب أوروبا والبلقان، ومن هناك إلى الشرق الأوسط، حيث سوقه الكبرى، تحديدًا في لبنان ثم إلى سوريا.
وتلفت روز إلى أن سوريا كانت مركزًا رئيسًا للأدوية، وكان لديها مجتمع صيدلاني قوي للغاية وعلى صلة بالكثير من العلماء وخبراء الأدوية في جنوب أوروبا، لا سيما في البلقان.
وقد ساهمت ظروف مؤاتية في تحوّل سوريا إلى مركز لإنتاج الكبتاغون، على رأسها تفكك النظام الأمني للبلاد، ما جعل سوريا أرضًا خصبة نمت عليها عشرات مصانع الكبتاغون.
وتركزت أغلب تلك المصانع في سرغايا ورنكوس والزبداني وبلودان ويبرود وعسال الورد والجبة وتلفيتا وبخعة والطفيل ومضايا وبستان الباشا والصبورة، إضافة إلى مصانع كبرى في اللاذقية وحلب وحمص ودرعا وأخرى على حدود سوريا والأردن. وجاء كل ذلك تحت أعين النظام وبحماية من قواته.
عائلة الأسد في قلب تجارة الكبتاغون
يُعد ماهر الأسد، وسامر كمال الأسد، ووسيم بديع الأسد، ومضر رفعت الأسد، ورامي مخلوف، أسماء من بين أخرى ثبت ارتباطها بإنتاج الكبتاغون وتصديره من سوريا.
وكانت علاقة ماهر الأسد، شقيق بشار وقائد الفرقة الرابعة بجيش النظام السوري، بالكبتاغون ظهرت منذ العام 2011، عندما أدرجته إدارة أوباما على قائمة عقوبات تتعلق باستخدامه القوة المفرطة لقمع الاحتجاجات السورية، وإدارته شبكة إجرامية كبرى تشمل تهريب الكبتاغون إلى دول الجوار.
وقد أُدرج لاحقًا كل من سامر ووسيم ومضر أبناء عمومة بشار الأسد على قوائم العقوبات الأميركية والبريطانية، لارتباطهم بشبكات إنتاج وتهريب الكبتاغون من سوريا إلى جيرانها.
وسجّلت وزارة الخزانة الأميركية تورط ماهر الأسد بإدارة مصانع لإنتاج الكبتاغون في اللاذقية وتصديره من مينائها المتوسطي.
كما أثبتت تورط سامر ووسيم بإدارة مصانع كبتاغون في اللاذقية وبستان الباشا وكذلك في البقاع اللبناني.
وإلى ما تقدم، يُضاف رجال أعمال ومقربون من النظام منهم خضر طاهر وعامر خيتي ومحمد شاليش وطاهر الكيالي وحسن دقو وعبد اللطيف حميدة وعماد أبو زريق وخالد قدور.
ويشكل هؤلاء شبكة مصالح معقدة تؤدي كل طرقها إلى دمشق وإلى عائلة الأسد ونظامه، الذي تُدر عليه تجارة الكبتاغون مليارات الدولارات.
سيل من الحبوب يغرق جيران سوريا
ضُبطت وصودرت مئات الشحنات التي تحتوي على ملايين حبوب الكبتاغون من فرنسا غربًا إلى ماليزيا شرقًا. وكان أكبرها في ميناء ساليرنو الإيطالي عام 2020، مع 84 مليون حبة كبتاغون بقيمة نحو مليار دولار.
لكن ثقل تلك الشحنات الحقيقي ومرساها الأساس في الشرق الأوسط، وتحديدًا في شبه الجزيرة العربية، حيث لا يكاد يمر شهر إلا وتعلن دولة عربية أو أكثر اعتراض شحنات كبتاغون.
وبينما وقعت مئات ملايين الحبوب في أيدي السلطات، دخلت ملايين أخرى الأسواق العربية، بعدما خُزنت في مواد غذائية من الحليب والشاي إلى الفواكه والخضروات.
وفي السنوات الأخيرة، ازدادت اضطرادًا عمليات تهريب حبوب الكبتاغون، ومصدرها الرئيس ميناء اللاذقية الخاضع لسيطرة النظام. فمن عشرات ملايين الحبوب عام 2017، إلى مئات الملايين عام 2021.
حينها، كشف تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” أن أكثر من 250 مليون حبة كبتاغون أُحبط تهريبها في العام 2021، وهو العام نفسه الذي وصفت فيه “فورين بوليسي” السعودية بعاصمة المخدرات في الشرق الأوسط مع غرق موانئها ومعابرها بالكبتاغون.
وتشير التقديرات إلى أن تجارة تهريب الكبتاغون أدرّت نحو 3.4 مليار دولار عام 2020، ونحو 5.7 مليار دولار عام 2021، أي 5 أضعاف صادرات سوريا الرسمية التي كانت بنهاية عام 2021 نحو مليار دولار فقط.
ويذهب جل ريع المبالغ الطائلة إلى النظام، الذي قلّصت حربه على الاحتجاجات السورية صادرات البلاد إلى أقل من عشر ما كانت عليه في عام 2010، بحسب البنك الدولي، وفتحت شبكة علاقاته سوريا برًا وبحرًا مغرقة جيرانه بمئات ملايين الحبوب المخدرة.
دول عربية تتهافت على دمشق
توافدت البعثات العربية إلى دمشق خاطبة ود النظام بعد أكثر من نحو عقد من المقاطعة. وكان الكبتاغون حاضرًا في كل اللقاءات.
وتشير كارولين روز إلى استخدام النظام الكبتاغون ورقة سياسية في مناقشات التطبيع مطالبًا بالأساس بتعويضات، وعارضًا على نظرائه إبطاء إنتاج الكبتاغون والاتجار به مقابل الحصول على صفقة جيدة.
وقد وضع اجتماع مبدئي في جدة المحددات الأولية للتطبيع مع النظام، ثم نصّ البيان الختامي لاجتماع في عمان على “تعزيز التعاون بين سوريا ودول الجوار” لوقف تهريب المخدرات.
كما نص على تشكيل فريق مشترك بين سوريا والأردن والعراق “لتحديد مصادر إنتاج المخدرات في سوريا وتهريبها” من أجل إنهاء هذا الخطر المتصاعد على المنطقة برمتها.
وجاء بعد ذلك إعلان عودة النظام السوري إلى الجامعة العربية في اجتماع وزاري بالقاهرة، في حين نقل مصدر مقرب من دمشق عرض السعودية 4 مليارات دولار على النظام لتعويضه عن مداخيل تجارة الكبتاغون التي اجتاحت المملكة وجاراتها.
غير أن كارولين روز، الباحثة في معهد “نيولاينز” بواشنطن تستبعد تخلي النظام عن تجارة الكبتاغون بسهولة.
وتعزو ذلك إلى امتلاكه مجموعة متنوعة من الأدوات ومنشآت الإنتاج وسلاسل التزويد اللوجستية الموجودة بالفعل، والتي سيكون من الصعب للغاية نقلها.
وتردف بأن “ليس لدى النظام ما يكفي من الحوافز الاقتصادية للتخلي عن تجارة الكبتاغون، بغض النظر عن حجم الحزم المالية التي يقدمها السعوديون أو الإماراتيون أو أي دولة أخرى تطبع معه”.