قبل نحو نصف قرن بدأت في الـ13 من أبريل (نيسان) 1975 حرب لبنان رسمياً، ولم تتوقف إلا عام 1990، بعد اتفاق الطائف، لكنها لم تتوقف عملياً.
وإذا كان كارل فون كلازفيتز يقول إن “الحرب هي استمرار للسياسة بوسائل أخرى”، فإن الواقع اللبناني يقول إن السياسة هي استمرار للحرب بوسائل أخرى، والحرب انتقلت عملياً من مرحلة إلى أخرى، وبقيت حرباً مركبة، لا توصيف واحداً لها، فلا هي حرب أهلية فحسب، ولا هي حرب عربية فحسب، بل ولا هي حرب إقليمية فحسب، ولا هي حرب دولية فحسب، إنما خليط من كل ذلك.
وبدلاً من أن يقود اتفاق الطائف إلى مسار جديد نحو شراكة حقيقية في إدارة البلد وخلق الظروف الملائمة للانتقال إلى دولة مدنية، جرى “انقلاب” على الطائف وتطبيق جزء منه ضمن مفهوم خاص للوصي السوري وتجاهل الأجزاء الأساس المهمة منه، حتى عندما حدثت “ثورة الأرز”، وأخرجت القوات والوصاية السورية من لبنان في 2005، فإن الوصاية الإيرانية كانت البديل على حساب “الاستقلال الثاني”.
ولا خطر من حرب أهلية يتخوف ويحذر منها كثر، فالحادثة التي عنوانها “بوسطة عين الرمانة” كانت مجرد شرارة لبدء الحرب، وما حدث ويحدث منذ “الطائف” أخطر بكثير من “بوسطة عين الرمانة” من دون الاندفاع نحو حرب أهلية.
في 1975 كانت ظروف الحرب جاهزة بوجود أزمة وطنية سياسية داخلية ولاعبين إقليميين لديهم أهداف مختلفة هم الفلسطيني والسوري والإسرائيلي وبعض الدول العربية المارقة، وبوجود لاعبين كبار هم الأميركي والسوفياتي وبعض الأوروبيين.
ولا حرب من دون قرار إقليمي ودولي مهما تكن الظروف المحلية ناضجة، فضلاً عن أن تجربة الحرب علمت اللبنانيين دروساً مهمة، وعن أن الطرف القوي القادر على بدء حرب لا مصلحة له في ذلك لأنه يتحكم بالبلد من دون حرب.
والوضع في لبنان اليوم أخطر مما كان عليه في 1975، فهناك خلل كبير في الديموغرافيا، وانحسار شديد للديمقراطية، وأزمة مالية واقتصادية واجتماعية خانقة وضاغطة فوق السطو على ودائع الناس في المصارف، ومجتمع في شيخوخة لأن الشباب المتخرج في الجامعات مضطر إلى العمل في الخارج، مع نزوح سوري فوق قدرة البلد على التحمل، بحيث صار عدد النازحين السوريين أكثر من نصف عدد اللبنانيين.
أضف إلى ذلك عودة فصائل فلسطينية إلى القتال من جنوب لبنان في إطار الجبهة التي فتحها “حزب الله” لإسناد “حماس” في حرب غزة، وانحدار الدخل القومي للبلد من 55 مليار دولار عام 2017 إلى 21 مليار دولار، اليوم، كما أن 70 في المئة تحت خط الفقر وأقل من 10 في المئة من اللبنانيين يعيشون في بحبوحة.
البلد بلا رئيس للجمهورية منذ خريف 2022، مع أنه شهد خلال الحرب انتخاب ثلاثة رؤساء، ولا حكومة إلا حكومة تصريف أعمال مستقيلة دستورياً، ولا مجال لبديل منها قبل انتخاب رئيس.
والأخطر فوق كل ذلك هو أن يصبح مشروع بناء الدولة الوطنية مهمة مستحيلة، فنحن رهائن المشروع الإقليمي الإيراني، وكما في لبنان كذلك في سوريا والعراق واليمن، حيث ميليشيات مسلحة خارج الشرعية مرتبطة بـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، وهذه وصفة لمنع قيام دول، وفرض “محور المقاومة” الذي مهمته حماية نظام ولاية الفقيه في إيران.
وإذا لم يكن هذا استمراراً للحرب بوسائل أخرى فكيف تكون الحرب؟ إذا كان السلاح جزءاً من السياسة فكيف نسميها سياسة بالمعنى الأصيل لها منذ أفلاطون وأرسطو، وهو فن الإدارة الراشدة لشؤون الناس؟ وأي سلم أهلي هذا حين يستمر قتل الناشطين ويبدو البلد عاجزاً على مدى 34 عاماً عن تأمين الكهرباء وحتى عن إدارة مؤسسة كهرباء بلا كهرباء؟
يقول المسرحي الألماني الكبير برتولد بريشت، “ليست محظوظة البلدان التي تحتاج إلى أبطال”، وعلى طريقته يعلمنا الواقع أن البلدان التي تحتاج إلى ميليشيات ليست محظوظة.