أحياناً نعتاد الصورة وننسى رمزيتها وأخطار ما وراء الصورة. في لبنان وحده بين كل الدول العربية، رجل معمم يقود حزباً ويسعى إلى “جمهورية إسلامية” على نسق “ولي الفقيه” في إيران، ويغلق مؤسسات تكوين السلطة ويفتح الحروب يمنة ويساراً. رجل معمم وعربي يأتمر بمعمم آخر غير عربي في طهران. حتى “داعش” و”القاعدة” لم يتزعمهما شيوخ وأئمة مساجد. لذا عندما يطغى خطاب مستل من ماضي التراث الديني لا عجب أن تتفكك أوصال الدولة اللبنانية في مسار انحداري عمره عقدان من السنين في الأقل. وإذا كانت الأرواح رخيصة لأنها تخدم هذا الخطاب، فما بالك بجدوى دولة مبنية أصلاً وفق قوانين وضعية معاصرة تناقض عقيدة إيران؟ ولماذا هذا العناد عند خصوم “حزب الله” بحمل “صخرة سيزيف” على رغم كل السقطات؟ في آخر اجتماع للحكومة اللبنانية طالب رئيس تصريف أعمالها نجيب ميقاتي “بوجوب أن نعلن منطقة الجنوب منكوبة زراعياً”. اللافت أن ميقاتي قبل تطرقه إلى “النكبة الزراعية” وتضرر 800 هكتار ونقل 340 ألف رأس ماشية، عدد في بيانه ما خلفه قرار حسن نصرالله بفتح الحرب، وأورد نزوح 100 ألف ومقتل 331 وسقوط 1000 جريح حتى الآن. من بين كل هذه الأرقام استنتج ميقاتي أن “النكبة” زراعية. قبل أسابيع أثارت سجية ميقاتي لغطاً سياسياً عندما سبقت اختياره للكلمات فأقر في حديث متلفز أن قرار السلم والحرب عند نصرالله وإيران. وراء هذه السجية اعتياده صورة المعمم الذي يقفل وسط العاصمة ويجتاح رجاله المسلحون شوارعها. صورة رجل دين شيعي مقلد لـ”الولي الفقيه”، نصب ميقاتي مرة رئيساً للحكومة بعد انقلاب على سعد الحريري تزامن مع لحظة دخول الحريري إلى البيت الأبيض للاجتماع مع الرئيس باراك أوباما عام 2011.
الصورة أداة تدجين. كل السياسيين يعتاد الجمهور على مشاهدتهم في أوضاع عادية، يمشون ويلتقون الناس ويركبون السيارات ويأكلون على الموائد الرسمية ويحضرون المؤتمرات، لكن نصرالله المعمم يطل من “صنمية” الصورة المتلفزة التي لا تتحرك قيد أنملة، ولا مجال فيها لتقريب وتبعيد zoom in, zoom out)). وعندما يقبع الشخص في الشاشة تصبح إطلالاته النادرة خارجها نوعاً من “ظهور” الأولياء والقديسين. وبقدر ما تستفز هذه الصورة غير المأخوذين بجريرتها، يصدق صاحبها “صنميته” وتراه مجبراً في كل إطلالة أن يتماثل معها ويغدق عليها الماورائيات. لكأنه في لحظات “غيابه” التلفزيوني آلة تخطيط ونضال وإدارة معارك، لا مجال فيها لإنسان عادي يهتم بالعاديات من الشؤون الأخرى. وعندما يتناول نصرالله ألد خصومه السياسيين في الداخل اللبناني، وفي اللحظات الحرجة، يقلل من شأنهم في أخلاقهم وإنسانيتهم، ويضعهم إما في خانة الازدراء أو التخوين والتكفير السياسي، ويشعرك بأنه يحط من قدره ويتنازل طوعاً ليصبر عليهم. هذه “الصنمية” تحل لغز عدم وجوب الشوائب والعثرات والأخطاء، وهذا السيل من الانتصارات التي لا تنضب، وهل يخطئ إلا البشر العاديون؟