أستطيع الجزم اليوم بأن وصول سليمان فرنجية الى قصر بعبدا – إذا حصل – خطرٌ سيحدق بوحدة لبنان، أو، على الأقل، سيدمِّر فكرة العيش المشترك ومستقبل المسيحيين.
لو أوردتُ ذلك قبل أيام للُمتُ نفسي على المبالغة. لكن جلسة مذاكرة صريحة ضمَّت نخبةً مسيحية مميزة ثبَّتت لديّ هذه القناعة. هذا سياسي متمرس متشبث بـ”الطائف”، وذاك موظف رفيع وإلى جانبه أستاذ جامعي مثقف، أو اقتصادي لامع، أو طبيب مُجَلٍ ومحام ناجح هاجسهما الشأن العام، أو سفير عميق الرؤية حنبَلي المبدئية، أو محترف ارتياد كواليس عاصمة القرار. وهؤلاء ما التمُّوا أساساً إلا لشعورهم بأنّ الوطن على مفترقٍ خطير وبأنّ خطة تغيير وجه لبنان تصل الى خواتيمها إذا أفضى استحقاق الرئاسة الى انتخاب مرشح 8 آذار، وأن فرنسا التي صنعت دولة “لبنان الكبير” تخاطر بتدمير معنى “بلاد الأرز” بالتكافل مع أعداء الديموقراطية والحرّيات.
والمسألة مقلقة لتعلُّقها بخيار سياسي جرَّبناه منذ اغتيال رينه معوض، وتُوِّج بـ”زبدة” الممانعة ميشال عون. وهو خيارٌ فلَّس الدولة وسرق ودائع الناس ورهَن السيادة للسلاح غير الشرعي، وعمَّم “الإفلات من العقاب”، ناهيك عن تسبّبه بهجرة أكثر من مليون مسيحي والسماح لمليوني نازح سوري بالحلول في ربوعنا مضطرين أو مختارين.
وإذا صحَّ أن كأس “المنظومة” المرّة لم يوفّر مسيحياً أو مسلماً أو متحرراً من هذين التصنيفين، فالأصحُّ أن أمَرَّها أصاب المسيحيين لقلقهم الوجودي وخوفهم من فقدان وطن صغير كانت لهم أسبقية إعلانه كبيراً بمعادلة يصعب تطريزها في أي بقعة من “الوطن العربي”. ولذا ترتفع وتيرة اعتراض هؤلاء على تهميش “حزب الله” لهم أو استتباعهم في شأنٍ هُم الأولى به بحكم الواقع الطائفي والعرف الدستوري. اعتقد المسيحيون أن التقاءهم مع الشريك المسلم على عنوان “لبنان أولاً” بعد “انتفاضة الاستقلال” أنهى جذرياً زمن التعيين المشين لرؤساء الجمهورية، ليجدوا أنفسهم مجدّداً مسلوبي الإرادة بفعل السمسرة الفرنسية، وسطوة الثنائي الشيعي، وضعف المناعة السنية تحت عنوان رفض “الفتنة” أو “ربط النزاع”.
على هامش الاستحقاق الرئاسي وفي متنه لم يعد المسيحيون المعتدلون تاريخياً مختلفين كثيراً عمّن رأوا دائماً “العيش المشترك” سلماً أهلياً جاهزاً للاشتعال. والمتشدّدون لا تعوزهم التواريخ والوقائع ليثبتوا أن أفضل حلّ هو الإقلاع عن فكرة الدولة المركزية ومواجهة الحقائق للوصول الى صيغة قابلة للحياة، إما عبر “لامركزية موسعة” هي أضعف الايمان، أو اتحاد فيديراليات لها خرائط تقرِّبها من الأذهان، وصولاً الى طلاق هو “أبغض الحلال”.
إذا كُسرت إرادة المسيحيين هذه المرة أيضاً، فستجد غالبيتهم نفسها أمام خيارين: يأس محفِّز على تسريع وتيرة الهجرة من لبنان، أو راديكالية نضالية تفتح الباب على مشروع حلّ مكلف أو انتحار. وسيتحمّل المسلمون أولاً مسؤولية الاحتمالين، فيتحسَّر بعضهم على “النكهة المسيحية”، ويُسرُّ آخرون متضامنون مع أمراء حرب يرون الفرصة سانحة لتصفية الحساب مع العصب المسيحي التاريخي. ذلك أن كسر الإرادة السياسية للأغلبية المسيحية هذه المرة بواسطة رئيس أقلوي التمثيل والقناعات والتحالفات سيلغي الأمل بقيام أكثرية وطنية أو متوازنة تريد الدولة فوق الجميع، ومؤسساتها الشرعية ضمانة نهائية للحياة الديموقراطية والمساواة.
إذا هبَّت رياح فرنجية السَّموم، فإن فرنسا قد تحقق مصالحها، لكن سيتحمّل المسلمون أولاً، ومَن يجاريهم من المسيحيين، وزر جريمة سياسية وطنية، لأنها ليست مجرد اقتراع تحت قبة البرلمان، بل مشروع تهجير وُضع حجر أساسه قبل ثلاثة عقود بالانقلاب على الطائف، وشُيِّد بنيانه بالفساد والوصاية، ويتم رصُّه بالهيمنة. أما محفِّزاه الأساسيان فانطلق صاعقاهما في عهد عون. وهما الانهيار الاقتصادي والمالي العام، وجريمة 4 آب التي تحفر عميقاً في وجدان أكثرية المسيحيين وتوجِّه بوصلة موقفهم من الشراكة الوطنية في وقت تواجَه بحساسية إسلامية ضعيفة تجاه الجريمة السياسية والحق في العدالة.
جلسة المذاكرة انتهت على أمل معاودة اللقاء، لكن الحاضرين أكدوا بشبه إجماع ضرورة أن يقلع مَن يأتي برئيسٍ من 8 آذار عن حديث العيش المشترك والحرص على مسيحيي لبنان.
كتب المقال : بشارة شربل – إقرأه من المصدر