في آب 2020، أُدخل أليكسي نافالني، المُعارض الرئيسي لـ«القيصر» فلاديمير بوتين، مستشفى في سيبيريا بحال طارئة بعدما فَقَدَ وعيه خلال رحلة جوّية، ليُنقل بعد ضغط ديبلوماسي غربي إلى مستشفى في برلين، وأُجريت له فحوص مخبرية بيّنت تعرّضه للتسميم بمركّب «نوفيتشوك»، وهو مادة سامة تُصيب الجهاز العصبي طوّرت إبّان الحقبة السوفياتية السوداء. لكنّ نافالني الذي عاد بعد نجاته بأعجوبة وتعافيه إلى بلاده، احتُجز في كانون الثاني 2021 وبدأ يعيش نوعاً جديداً من الاضطهاد داخل «سجون بوتين»، لينتهي به الأمر في سجن «آي كيه 3» الموروث من «معسكرات الموت» السوفياتية الذي يبعد أكثر من 1900 كلم إلى شمال شرق موسكو والمعروف بـ»الذئب القطبي»، حيث دفع نافالني حياته ثمناً لحرّيته لافظاً أنفاسه الأخيرة أمس.
بدأ نافالني مسيرته الحافلة بصفة ناشط سياسي ضدّ الفساد في العام 2007، وقاد تظاهرات حاشدة في العامَين 2011 و2012. هذه النشاطات أغضبت النظام الروسي الذي سارع إلى استخدام «سلاح» القضاء ضدّه. وعلى الرغم من «أدوات القمع» الهائلة المتوفرة في «جعبة» الكرملين، استمرّ نافالني بكشف ملفات فساد مرتبطة بمسؤولين روس، كان أبرزها نشره عام 2017 فيديو تناول فيه الحياة المترفة التي يعيشها رئيس الوزراء حينها ديمتري ميدفيديف وثروته العقارية، متطرّقاً إلى منزل فخم يملكه وفيه مزرعة للبط وسط بحيرة، ما أدّى إلى تظاهرات مندّدة، بينما مُنع نافالني في العام التالي من الترشّح للرئاسة في مواجهة بوتين، بسبب إدانته بتُهمة الاختلاس.
وفي أواخر 2020، اتهم نافالني في تحقيق مصوّر بوتين بأنه يبني قصراً فخماً يطلّ على البحر الأسود. وكان لهذا التحقيق وقع كبير، دفع ببوتين شخصيّاً إلى نفي ما ورد فيه. وفي آذار 2022، شُدّد الحكم بالحبس الصادر في حق نافالني إلى 9 سنوات بعد إدانته بتُهم جديدة، لا سيّما الاختلاس وازدراء المحكمة. وفي آب 2023، حُكم على المُعارض «الشجاع» الذي أصبح هزيلاً بعدما فَقَدَ الكثير من وزنه بسبب تداعيات تسميمه وإصراره مراراً على الإضراب عن الطعام، بالحبس 19 سنة لإدانته بـ»التطرّف»، ليكون عِبرة لكلّ مُعارض سياسي يتجرّأ على رفع صوته في وجه بوتين ويُنظّم تظاهرات ضدّ النظام، لكن الزنزانة لم تنل من عزيمة نافالني الذي استغلّ كلّ فرصة في قاعات المحاكم لمهاجمة «القيصر».
وفي رسائله عبر الإنترنت كان يسخر من العقوبات التي تفرضها عليه إدارة السجون. فكانت تُجبره خصوصاً على الاستماع بشكل متواصل للخطاب نفسه للرئيس الروسي. صحيح أن فوز بوتين بالانتخابات المرتقبة في آذار مضمون مع زجّ المعارضين في السجون أو حملهم على مغادرة البلاد أو تصفيتهم، بيد أن وفاة نافالني عن 47 عاماً تحرم المُعارضة في أحلك ظروفها من «قائدها» الذي عارض بصلابة الحرب المشؤومة في أوكرانيا.
وكان لافتاً بالأمس كلام زوجة المُعارض يوليا نافالنايا التي كانت تُعاني في حبس دموعها خلال مؤتمر ميونيخ للأمن، حيت توجّهت لـ»بوتين وجميع موظّفيه» متوعّدةً إيّاهم بأنّهم «سيُعاقبون على ما فعلوه ببلدنا وبعائلتي وبزوجي»، وأكدت أنّه «علينا محاربة هذا النظام المروّع» و»محاسبة فلاديمير بوتين شخصيّاً على كلّ الفظائع المرتكبة»، فيما التقت نافالنايا وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي قدّم لها تعازيه وشدّد على أن روسيا «مسؤولة» عن وفاته.
وشهدت مدن أوروبّية عدّة تظاهرات وتجمّعات لتكريم نافالني مع إضاءة شموع حول صوره التي «سيّجتها» باقات الورود أمام السفارات الروسية. وبينما حذّر النظام سكّان العاصمة الروسية من أي تظاهرات «غير مرخّصة»، اصطفّ شباب روس في عدّة مدن في البلاد لوضع الزهور أمام النصب التذكارية لضحايا القمع السياسي في ظلّ الاتحاد السوفياتي، تكريماً لنافالني. وعلى جسر بولشوي موسكفوريتسكي، على بُعد خطوات من الكرملين، وضع معارضون الزهور في المكان نفسه الذي قُتل فيه المُعارض بوريس نيمتسوف عام 2015. وزُيّنت صورة للرجلين المبتسمين بأكاليل الزهور.
وتُوّجت سلسلة مواقف غربية مندّدة بمصير نافالني ودعوة أممية إلى تحقيق «ذي صدقية»، بتحميل الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الروسي و»زمرته» مسؤولية مباشرة عن وفاة نافالني، واصفاً المُعارض بأنه «صوت قوي من أجل الحقيقة». وأعرب بايدن عن «غضبه»، مقدّماً تعازيه لزوجة نافالني وولديه. واعتبر أن «ما حصل لنافالني هو دليل آخر على وحشية بوتين»، مؤكداً أنه «يدرس عدداً كبيراً من الخيارات» للردّ. كما رأى أن «هذه المأساة تُذكّرنا بمخاطر هذه اللحظة»، إذ «علينا أن نوفّر التمويل لكي تتمكّن أوكرانيا من مواصلة الدفاع عن نفسها في مواجهة هجوم بوتين الشرس وجرائم الحرب».