هل اختبرت يوما معنى أن ينغرس في قلبك وجع الفقد والتهجير في آن واحد، ومع كل ذلك تتسلل دموع فرح دخيل يحاول لململة الجراح؟.
إن لم تفعل فتفحص ملامح النازحين اللبنانيين وهم يحتضنون ركام منازلهم بعد غياب، وتابع نظراتهم وهم يجوبون في تفاصيلهم القديمة وقد استحالت أنقاضا تروي ألف محنة ومأساة.
«عودة الروح»
فور دخول وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل حيز التنفيذ، عادت أم محمّد بزيع إلى قريتها في جنوب لبنان، لتتفاجأ بحجم الدمار الذي لحق بمنزلها وأشجار حديقتها ومساكن جيرانها.
ومن غرفة الى أخرى، تنتقل السيدة التي طغت ملامح التعب على وجهها بعد شهرين من النزوح مع أطفالها الأربعة إلى جبل لبنان.
كانت تكنس الزجاج والحجارة التي تغطي الأرضية جراء عصف غارات إسرائيلية أدت إلى تدمير معظم المنازل المجاورة لمنزلها في بلدة زبقين بقضاء صور.
وتقول السيدة الأرملة (44 عاما) لوكالة فرانس برس “رغم كم الدمار والحزن، نحن سعداء بعودتنا”، مضيفة “شعرت وكأن الروح عادت إلينا”.
وتوضح “أنظّف الغرف لنبقى.. رغم أن النوافذ محطمة والبيت غير قابل للسكن وسط الشتاء”.
وأم محمّد تعد من بين قلّة من السكان ممن عادوا اليوم الأربعاء إلى القرية، مستغلة بدء سريان وقف إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل، ليتفاجأوا بحجم الدمار الذي يتكرّر في قرى وبلدات عدّة.
كانت محتويات الغرف في منزلها مبعثرة وزجاج النوافد في كل مكان والستائر ممزقة وكتب مكتبتها متناثرة.
طعام متعفن
في المطبخ، كانت أطباق لا تزال مليئة بطعام متعفن تركته العائلة على عجل عند نزوحها في 23 سبتمبر/أيلول الماضي، حين بدأت إسرائيل استهداف القرية في إطار حملة جوية واسعة النطاق على معاقل حزب الله قرب بيروت وفي جنوب البلاد وشرقها.
ولدى خروجها إلى شرفة فسيحة تحيط بها الزهور وتشرف على حديقة، تتحسّر السيدة النحيلة والمحجبة على شجرة الجوز التي تساقطت ثمارها وعلى مواسم الرمان والقشطة التي اعتادت قطفها.
وتقول “على هذه الشرفة، كنت أشعر براحة نفسية، كانت حياتنا مختلفة تماما”، قبل أن تضيف “لكن سلامة أفراد العائلة أهم من الأضرار كلها”.
وشاهد مراسلو وكالة فرانس برس خلال جولة للصحفيين نظّمها حزب الله في عدد من القرى المتضررة من الغارات الإسرائيلية في قضاء صور، هياكل سيارات متفحمة ومنازل مدمرة أو تصدعت واجهاتها وطوابقها العليا.
وطارت واجهة أحد المقاهي، بينما صمدت ماكينة القهوة وصور معلقة على جدرانه بينها صورة مقاتل من حزب الله قضى على الأرجح في القتال مع إسرائيل.
وعلى بعد أمتار، تتدلى أوراق تبغ جافة، الزراعة التي تشكّل مصدر رزق لعائلات كثيرة في المنطقة.
وفي نهاية الطريق الذي يجتاز القرية، راجمة صواريخ مثبتة على شاحنة صغيرة بدت متفحمة بعد استهدافها.
“لمَ هذا الدمار؟”
في بلدة قانا التي شهد شارعها الرئيسي على غارات لم تبقِ حجرا على حجر وأحدثت دمارا هائلا، يجول أحمد حلوم (55 عاما) بين الركام الذي يكاد يحجب الرؤية.
ويقول حلوم بتاثر لفرانس برس “لا أتوقع أن يرى أحد هذا الدمار ولا يبكي”.
ويشرح “صحيح أن كل ذلك يمكن أن يُعاد بناءه… لكن لم هذا الدمار؟ ما ذنب المحال التجارية والمنازل الخالية من سكانها التي استهدفوها؟”.
ورغم أن منزله نجا من القصف الإسرائيلي ولم يتعرض متجره لبيع الطلاء في قرية مجاورة لأذى، لكنه يشير إلى دمار خلفه قائلا “المنظر خلفي يدمي القلب”.
ويتابع “الناس تعبوا كثيرا”.
ومع تكثيف إسرائيل عملياتها العسكرية في لبنان، نزح أكثر من مليون لبناني من منازلهم خصوصا من جنوب لبنان حيث تعرضت عشرات البلدات لدمار واسع النطاق.
وقرب مؤسسة تجارية باتت عبارة عن ركام متكدّس فوق بعضه البعض في قانا، وقفت سيدة تعانق قريباتها بتأثر شديد وهن يذرفن الدموع.
وتقول الفتاة ملاك قليط (15 سنة) بينما تقف والدتها على بعد أمتار منها، وهي تحاول أن تتمالك نفسها “لم نتوقع أن نعود ونرى هذا الدمار، كننا نتتظر أن نجد البيوت كما تركناها وأن نجد كل أحبابنا”.
لكن عوضا عن ذلك “خسرنا كثرا، وخسر أحباؤنا منازلهم”.
وفي ثانوية البلدة، كانت الفتاة ذات العينين الزرقاوين التي تطمح أن تصبح محامية تتابع دروسها في السنة الأولى قبل انقطاعها عن التعليم ونزوحها مع والديها وشقيقتها.
وتقول: “تجربة النزوح لا يمكن نسيانها. كانت موجعة للغاية”.
وبينما كانت تستعد مع عائلتها للتوجه إلى منزلهم الذي لا يعلمون شيئا عن حالته، تضيف الفتاة والركام يحيط بها من كل ناحية “لا نستحق أن يحلّ ذلك بمنازلنا.. ما كان يجب أن يحدث لنا هذا”.
وتتابع “لم يرغب أحد بذلك. كنا اعتقدنا أن الحرب ستبقى قرب الحدود”.