لكنّني أقتلع نفسي لأزور الدير في بيت مري، وأذرف ولو دمعة، في حضنه، وهي دمعة صادقة في سيل الدموع الاصطناعية البلهاء، والتي يحاول مُمتهنو الجبانة والكذب استغلالها لتزوير حقيقتهم البائسة. وأجمُدُ، بذهول، أمام طيف الأب ألبير شرفان، وأغضب. أغضب من سحق نقاء الأصفياء، بانحطاط همجي لم يعبرْ، يوماً، الى ضفة الرقيّ، بل تعفّن في أقبية التخلف، وعصر الظلام، وأدمن التنكيل والقهر، مجرماً حليفاً لمجرمين مشدودين الى تزمّت أرعن.
الأب ألبير شرفان، وراءه ألف إله حي، وهو المتواضع الذي احتفلت معه، الموهبة بثمارها، ومع ذلك، لم يسُقْ جواهره الى متاهات الأضواء اعتداداً، بل خطا في عشق الظل شوطاً قيمته أبلغ من تكاثُف النور. لقد سرح عينيه في معالم الكون، وسرعان ما أدهشه فعل الخلق، وبلا مادة، فمال الى الترهب الذي كان معه، إصباحاً مُستغنياً بنفسه عن كل شمس، فجلس به، الى مائدة فردوسيّة، لأنه لقح ذاته بنعمة الله.
الأب ألبير، تلمس شعاع السعادة بسلوكه درب التألّق في الترهُّب، وفي الموسيقى، وكلاهما من ثروة واحدة، فالترهُّب مشاهدة لنقوش السماء، والموسيقى صياغة لحقائقها. وهو عاش في حماهما، مُتأبطاً الإيمان بيد، والموسيقى بيد أخرى، وقد بسط فيهما جهده الطليق والمُشرق، فلم يكن منهكاً أو على ركود. هذا الراهب الذي يُطل على لُطف المعشر، وطُهر الخُلُق، إطلالة الثغر على الابتسام، كان يجمع الى أدب النفس، حلو الحديث، وسرعة الخدمة، وكان يجري، بين يديه، فيض الغلة فيهما.
الأب ألبير شرفان المُتبتّل، والخجول على كبر، تظلل قلبه بكوم القيم، لأنه آمن بأن أي إنسان لا يمكن أن يشعر بوجوده، أو يحقق أهدافه، إلّا إذا كان يُخزن في ذاته إيمانه بالله، ومبادئ الأخلاق. وتحت جنح الدعوة، قال لربه: “فلْتكُنْ مشيئتُك”، وكانت بينهما مناجاة حملت قلبه المشتاق الى الله، فعاد الى صدره وعاء ود للخالق، ناشراً فضله، وواقفاً على عهده، وهذه هي بالذّات، النذور الرهبانية.
الموسيقى، مع الأب ألبير، أدب تسبيحي صاغه بالنغمة والإيقاع ورسم معجمه من مقدار إيمانه وسليم موهبته، فجاءت مصنّفاته تيقُّظاً فرِحاً بالتهليل لله، وترنيماته كُتبت بخطوط مُثلثة تُكون زاوية تحتفظ بالبقاء. لقد اختالت صيغاته النغميّة بين مقامات المزامير، فنقلتنا الى مدارس السّريان لنرى طيف مار إفرام يعبرُنا بنقّارته. إن تأثُّر الأب ألبير شرفان بالميازين الجمالية في مزامير مار إفرام، جعله يتخذ، في طائفته اللحنية، المذهب النّيوسُرياني، وبرع في نسج ترنيمات دينية نشطت الطابع الموسيقي الكنسي بالجوقات والاحتفالات، ولم يكن ابتهالها، أبداً، صوتاً صارخاً في البرّية.
لقد حقق الأب ألبير، بالموسيقى المزموريّة، نقلة نوعيّة إذ أخرج الإيديولوجيا من قمقم التقليد، وكأنها ميثولوجيا مُحنطة في تماثيل جامدة، الى أغنية عذبة مُفعمة بالحياة، هي شاهدة موسيقية على براعته التي نقشها على ضوء قنديل. وقد جابت ألحانه الشفاه والحناجر، وألقت بظلالها على جدران الكنائس وأعمدتها، لتعلنه واحداً من الكبار الذين نذروا موهبتهم الخلّاقة للموسيقى الطّقسية، فحل فيها طقس بديع.
الأب ألبير شرفان الذي لم تُنبت حديقة أخلاقه إلّا ثمار اللّطف، والتواضع، والذوق المتوقد، لم يجعلنا مرة نلمح في سلوكه شبح البطل. وعندما اختُطف ظلماً، أفلتت منا قدرتنا على اللّابُكاء، وانتفضنا في وجه المخادعين الذين لا يزالون يعدون كذباً، بأنّ قضيّة الأب ألبير هي قضيتهم، لكنهم لا يعلمون بأننا لن نسمح لهم بتكرار وعدهم الزّائف، كل مرة في ذكرى اختطافه، فنحن سمعنا صوت الأب ألبير يقول: “كفى دجلاً”…