ولكن عند التدقيق في الأرقام، نرى أن تصفير العجز دفتري ووهمي لا يتماشى مع واقع الحال. ونتوقع أن يتخلل العام 2024 عجزاً محققاً يحتاج إلى تمويل غير واضح المصادر. وكان مشروع الموازنة المقدم أساساً من وزارة المالية قد قدر العجز بـ 41.73 تريليون ليرة. ولكن بعد مناقشات لجنة المال والموازنة، تم تصفير العجز على الورق من خلال رفع الإيرادات بحوالي 37 تريليون ليرة وتخفيض النفقات بمعدل 5.41 تريليون ليرة. وتفترض الأرقام المعدلة نموّاً للإيرادات يبلغ حوالي 12 ضعفاً للنمو الاقتصادي المتوقع للبنان للعام 2024. ويدل ذلك على مبالغة وتضخيم للتغطية على واقع العجز. ويعود عجز الموازنة العامة في النسخة الأساسية لوزارة المالية إلى زيادة نفقات الحكومة للعام 2024 بحوالي 100 تريليون ليرة (أي زيادة بحوالي 50% عن نفقات العام 2023)، وسيذهب معظمها إلى موظفي القطاع العام. وبمعنى آخر، كان من الأجدى تصفير العجز عن طريق زيادة النفقات بنسبة 25% (بدل 50%) عوضاً عن استنباط إيرادات وهمية. ويشكل تضخم النفقات على موظفي الدولة لب مشكلة العجز، ولا يمكن للبنان الانتقال إلى توازن مالي طالما توهمت الحكومة والمشرع أن بإمكانهما رفع النفقات بوتيرة 50% في السنة بينما ينمو الاقتصاد بنسبة 1.7%.
أما في إيجابيات المشروع، فقد وضعت لجنة المال والموازنة قيوداً أكبر على طريقة تمويل العجز بحيث حصرت الإجازة بالاقتراض بالعجز المقدر بدلاً من العجز المحقق. كما حددت طريقة فتح اعتمادات العقد والدفع للقروض وتشددت في موضوع سلفات الخزينة. ورغم هذا الجهد المحمود لفرض ضوابط على الاقتراض، إلا أن هذه القيود لن تكون كافية لوضع المالية العامة على سكة مستدامة. فالمشكلة الأساس هي، كما ذكرنا آنفا، في النمو المطرد للنفقات العامة التي تنتج مشاكل العجز والاقتراض. لذا بات من الملح أن يعتمد لبنان قاعدة سقف الإنفاق (Spending Cap) تكون مشابهة لتلك التي تستخدمها سويسرا وهونغ كونغ لتنظيم الإنفاق الحكومي. وتعتمد قاعدة سقف الإنفاق على تحديد السقف الأقصى لزيادة النفقات العامة بنسبة النمو الاقتصادي للبلد. فإذا كان النمو الاقتصادي المقدر للبنان في العام 2024 1.7%، يمكن للحكومة زيادة نفقاتها بالحد الأقصى بنسبة 1.7%. وتعتبر هذه القاعدة آلية فعالة للوصول إلى التوازن المالي ومنع الزيادة الجنونية في الديون الحكومية وضمان استدامة الإنفاق وزيادة الأموال العامة واستخدامها بشكل فعال.
كما يُسجل لمشروع موازنة 2024 شطب جميع المواد التي ترفع الضرائب والرسوم والغرامات ووضع شطور منطقية تتناسب مع انهيار سعر الصرف لضريبة الدخل والتنزيلات. ويعطي وقف الزيادات الضريبية بارقة امل نتمنى أن تؤسس للخروج من النظام الضريبي الحالي الذي يشجع على التهرب ويعاقب الأنشطة الإنتاجية ويقلل من تنافسية لبنان. إذ يعتمد لبنان عدة أنواع من الضرائب، منها ضريبة تصاعدية على الدخل وضريبة على رؤوس الأموال المنقولة وضريبة على أرباح الشركات. وللمقارنة، لا ضريبة في دولة الإمارات العربية المتحدة على الأجور بينما الضريبة على أرباح الشركات المحلية 0% في حال لم تتجاوز 100,000 دولار. وفي دولة قطر، تُعتبَر ضريبة الدخل موحدة بنسبة 10%. وتقدم هذه الدول بيئة مؤاتية للأعمال من حيث سيادة القانون والاستقرار الأمني والنقدي والبنى التحتية عالية الجودة. أما لبنان، فيفرض ضرائب مرتفعة ومعقدة في غياب أي من مقومات سهولة الأعمال. لذا، من الأجدى أن يلغي لبنان جميع الضرائب الحالية ويعتمد ضريبة منخفضة وثابتة (Flat Tax)، تسمح بجذب الشركات إلى السوق اللبناني. ويسمح هذا الإصلاح الضريبي بزيادة مداخيل الحكومة من خلال توسيع القاعدة الضريبية.
وفي المحصلة، يتضمن مشروع الموازنة عدداً من المزايا تجعله متقدماً على سابقاته، أبرزها السعي لتصفير العجز، ما يشير إلى نضوج بالمقاربة السياسية للأزمة والتنبه إلى مخاطر التضخم وانهيار سعر الصرف والفجوات المالية التي تنتج عن عدم توازن الموازنة العامة. كما يسعى المشروع إلى وضع ضوابط على الإنفاق والقروض التي تغذي العجز ووقف عشوائية الضرائب والرسوم التي تؤذي المواطن والنمو الاقتصادي على حد سواء. ولكن الإجراءات المتبعة في مشروع موازنة 2024 تبقى قاصرة عن تحقيق هذه الأهداف الثمينة ما لم تقترن بعقلانية في زيادة النفقات ووضع سقف على الإنفاق وتحسين تنافسية لبنان الضريبية. ويبقى الأمل في أن نرى في مستقبل قريب موازنة تحقق فعلا، لا قولا فحسب، هذه الأهداف.