تنشيطُ الدور الفرنسي في لبنان وتحفيزُ الأطراف المحلية على إخراج الاستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة في ملاقاة المَساعي لإطفاء جمر حرب غزة ونفْض الرماد عنها. هكذا أَمْكَنَ وَصْفُ مهمة جان – ايف لودريان، الموفد الشخصي للرئيس ايمانويل ماكرون، في بيروت التي عاد إليها بعد أكثر من 4 أشهر على آخِر جولةٍ من وساطته التي باتت لها موجباتٌ أكثر إلحاحاً في ضوء «طوفان الأقصى» وما أعقبه من تفعيل «الأوعية المتصلة» بين جبهة الجنوب وملعب النار اللاهب على مدى 47 يوماً، وبما جَعَلَها حُكْماً «مربوطةً» أيضاً بمسار أي حلّ سياسي لا تراه واشنطن وتل ابيب إلا تحت عنوان «7 اكتوبر لن يتكرّر».
وتَقاطعتْ المعلوماتُ التي توافرتْ أمس عن المروحةِ الأولى من لقاءات لودريان مع مسؤولين وقادة سياسيين لبنانيين، والتي يستكملها اليوم، عند أن الموفدَ الفرنسي لا يحمل في جعبته أي طرح محدَّد كفيل بأن يقلبَ المناخ الرئاسي السلبي المستحكم منذ نوفمبر 2022 والذي ازداد تعقيداً منذ 7 أكتوبر الماضي بفعل اتساع رقعة واحتمالات المقايضات الداخلية – الاقليمية – الدولية التي باتت تشكّل جزءاً مهماً من «مسرح العمليات» الذي يتحرّك فوقه ملف رئاسة الجمهورية، وإن حتى الساعة على قاعدة جمودٍ متمادٍ منذ 13 شهراً.
ولم يكن مُمْكِناً في رأي مصادر مطلعة عزْلُ توقيت عودة لودريان إلى لبنان، عن المحاولات الجارية لتجديدِ تمديدِ هدنة غزة وتكثيف الوسطاء الدوليين جهودهم للتوصل إلى وقفٍ دائم لإطلاق النار وفق قواعد فك اشتباكٍ تحت سقف مزاجٍ دولي لا يحبّذ استمرار الحرب واستئنافها وهدفٍ تَراجُعي لاسرائيل أملتْه دينامية الميدان وبات يقتصر على «بتْر» أي قدرة لـ «حماس» على أن تمدّ يدها الى مستوطنات غلاف غزة وما يثار عن ترتيباتٍ تتصل بإبعاد خطر «حزب الله» عن جبهتها الشمالية، ومن دون أن يعني ذلك بالضرورة بلوغ حل نهائي مستدام يتطلّب عناصر أخرى أكثر شمولية لا تتوافر حتى الساعة.
وعبّرت مضامينُ محادثات الموفد الفرنسي عن هذا البُعد، الذي أوْجَدَ ارتباطاً بين الملف الرئاسي والمسار الذي «يُحفر» لإخراج غزة من تحت الركام وحكومة بنيامين نتنياهو من مأزقِ عدم القدرة على التقدّم أكثر، حيث أشارت تقارير إلى أن لودريان أبلغ مَن التقاهم أمس أن لبنان لا يمكن أن يستمرّ من دون رئيس للجمهورية ولا سيما أن حرب غزة تسلك مسارات تفاوضية لا يجوز لـ «بلاد الأرز» أن تكون غائبة عنها ولا سيما أنها ستشمل الوضع على الجبهة الجنوبية، ناصحاً بعدم تفويت فرصة أن تكون بيروت في صلب المعادلات التي تُرسم لِما بعد «طوفان الأقصى»، وهذا ما يتطلّب وجود رأس للدولة واستعادة المؤسسات الدستورية انسيابية عملها.
وبحسب هذه التقارير، فإن لودريان الذي كرّر المطالبة بتحديد موعد لجلسة انتخابٍ رئاسية مفتوحة وبدورات متتالية، على أن يسبقها تشاور بين الأطراف السياسية حول الأسماء المطروحة وبرنامج عمل الرئيس العتيد، شدّد على وجوب إبقاء لبنان بمنأى عن أي تطورات ميدانية جديدة قد تحصل في غزة وتهدئة الجبهة الجنوبية وتطبيق القرار 1701، مع إشادة بدور الجيش اللبناني باعتباره ركيزة في هذا الأمر مع قوة «اليونيفيل» ومؤكداً ضرورة تفادي الشغور في موقع قيادة الجيش، وهو التحدي الذي يشكله إحالة العماد جوزف عون على التقاعد في 10 يناير من دون الاتفاق حتى الساعة على التمديد له أو تعيين خلَف له أو تولي رئيس أركان (يُعيَّن) مهماته بالإنابة، في ظل حكومة تصريف أعمال يقاطع جلساتها وزراء «التيار الوطني الحر» بمن فيهم وزير الدفاع الذي يتعيّن أن تمرّ عبره مختلف المَخارج المحتملة.
السعودية وقطر
واستوقف أوساطاً سياسية أن لودريان (وهو ايضاً رئيس وكالة التنمية الفرنسية في العلا) استأنف مهمته من «البوابة» السعودية (المملكة شريك في مجموعة الخمس حول لبنان مع الولايات المتحدة وفرنسا ومصر وقطر) حيث التقى في الرياض (الثلاثاء) المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا، قبل أن يصف السفير الفرنسي في الرياض لودوفيك بوي الاجتماع بأنه «كان مثمراً، وفرنسا والمملكة العربية السعودية تعملان يداً بيد من اجل استقرار لبنان وأمْنه ولإجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية في أسرع وقت».
كما برز لقاء لودريان رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني في اليوم نفسه حيث تم تأكيد وجود «إرادة واحدة للعمل معاً دعماً للبنان ولشعبه»، مع تشديد على ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية في «أسرع وقت».
علماً أن الدوحة تضطلع بمهمة موازية في الملف الرئاسي وعاود موفدها جاسم آل ثاني (أبو فهد) زيارة بيروت قبل أيام.
وعلى وقع اقتناعٍ بأن لودريان لن يكون قادراً على توفير «مهبط آمن» للاستحقاق الرئاسي، في ظلّ نفور فريق «الممانعة» في لبنان من موقف ماكرون المتطرف في دعم اسرائيل خلال حرب غزة وفقدان المعارضة الثقة بأداء باريس المتذبذب والذي سبق أن سلّف «حزب الله» وحلفاءه «نقاطاً ثمينة» في انطلاقة السباق الرئاسي بعدم ممانعة انتخاب مرشحها سليمان فرنجية، فإن تحريكَ جبهات المسانَدة لغزة وأبرزها جنوب لبنان ضمن حدودٍ لا تحرق خطوط الرجعة وتمت هنْدسة جرعاتها بين واشنطن وطهران عبر قنواتِ عدة، يجعل «حزب الله» الأقرب الى قطف ثمار هذا الانضباط النسبي لبنانياً من ضمن مسارٍ أكبر، طرفاه الولايات المتحدة وإيران ولا مكان فيه لأي «شريك مُضارِب» مثل فرنسا.
رسالة ماكرون
وكان سبق وصول لودريان توزيع نص الرسالة التي وجّهها الرئيس الفرنسي الى رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لمناسبة عيد الاستقلال والتي عكستْ الخطوط العريضة لمهمة موفده وأكد فيها ماكرون «أن تهيئة الظروف المناسبة لانتخاب رئيس وتشكيل حكومةِ عملٍ أمر مُلِحّ»، مشيراً إلى أن ممثله الشخصي، (لودريان) «يواصل العمل في هذا الاتجاه».
وأضاف: «ان امتداد رقعة الصراع إلى لبنان ستكون له عواقب وخيمة على البلد وعلى الشعب اللبناني (…) ويجب ألا يَستخدم أي طرف الأراضي اللبنانية بشكل يتعارض مع مصالحه السيادية. وعلينا اليوم تجنُّب الأسوأ. لذلك أحضّكم على مواصلة جهودكم في هذا الاتجاه».
وتابع ماكرون «بالإضافة إلى هذه القضية الأساسية، هناك حاجة ملحة لتحقيق الاستقرار في المؤسسات اللبنانية. فالشغور الرئاسي المستمرّ منذ أكثر من عام يلقي بثقله على قدرة البلاد على الخروج من الأزمة الحالية وتجنب التدهورالأمني المرتبط بالحرب المستمرة في غزة. فمن دون رئيس أو حكومة فاعلة، لا احتمال للخروج من المأزق الأمني والاجتماعي والاقتصادي والمالي الذي يعاني منه في المقام الاول الشعب اللبناني».
ميقاتي
في موازاة ذلك، تطرق ميقاتي خلال جلسة مجلس الوزراء أمس الى اللقاء الذي جمعه بلودريان والوضع في غزة، لافتاً إلى أنّ «مروحة اللقاءات والاتصالات التي أجريتُها، تؤشر إلى ان الاتجاهات الدولية تسعى إلى وضع حل على أساس قيام الدولتين ونظام العدالة الانسانية».
وقال «الموفدون، من الأشقاء العرب وأصدقاء لبنان الدوليون الذين يزورون لبنان ويُجْرون الاتصالات لإنهاء الحرب وإرساء قواعد السلام، مشكورون على مَساعيهم الهادفة إلى الحض على الإسراع بانتخابات الرئاسة ورصد ما يجري في الجنوب من اعتداءات واستفزازات اسرائيلية وسقوط ضحايا. وهذا الوضع أبلغتُه اليوم الى الموفد الرئاسي الفرنسي وأكدتُ أن الأولوية هي لوقف العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان وغزة».
وكان مكتب ميقاتي أعلن أن الموفد الفرنسي شدّد على أن «زيارته للبنان تهدف الى تجديد تأكيد موقف (اللجنة الخماسية) بدعوة اللبنانيين إلى توحيد الموقف والإسراع في انجاز الانتخابات الرئاسية، وإبداء الاستعداد لمساعدتهم في هذا الإطار»، مشيراً إلى انه «سيُجْري لقاءات واجتماعات عدة تهدف إلى تأمين التوافق اللبناني حيال الاستحقاقات الراهنة».
يُذكر أن لودريان التقى أمس أيضاً رئيس البرلمان نبيه بري وقائد الجيش جوزف عون، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط ونجله تيمور (على مائدة غداء) ثم البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ورئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع فالمرشح سليمان فرنجية، على أن يستكمل اليوم اجتماعاته التي تشتمل على لقاءٍ مع رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل و رئيس كتلة نواب «حزب الله» محمد رعد ونواب مستقلين.