تفاعلنا في الأيام القليلة الماضية مع عودة سوريا إلى الجامعة العربية بعد عقد كامل من الغياب الذي لم يغير شيئا في المعادلة، تماما كما ستفعل العودة التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فضعف القرار العربي على الساحة الدولية لا يمكنه أن يصنع شيئا لسوريا أو أن يردع إسرائيل ويمنعها من استهداف دمشق ومحيطها ومطاراتها، أو أن يدفع الغرب للاعتراف بشرعية الرئيس السوري بشار الأسد “المنتصر على شعبه” لا على “المؤامرة الصهيونية الأميركية الإمبريالية الماسونية الشيطانية” كما يحلو للإعلام السوري تسميتها، وإن كنت أؤمن فعلا بوجود مشروع شرق أوسط جديد يعمل على تفكيك الجمهوريات إلى دويلات جديدة إلا أنني أؤمن كذلك بأن غياب العدالة والقانون والحرية والديمقراطية قد كان بمثابة الوقود لذلك المشروع.
تناقلت المعارضة الإيرانية وثيقة مسربة من وزارة الخارجية الإيرانية تكشف أن حجم الديون التي تستحقها طهران من دمشق قد بلغ 50 مليار دولار، وأن ما تم إنفاقه خلال 8 سنوات من الثورة السورية قد بلغ 11 مليار دولار ما بين دعم عسكري وفواتير النفط، وبسرعة خرج المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني ليفند صحة تلك التسريبات معتبرا أنها محاولة فاشلة من المعارضة السورية لخلق نوع من البلبلة الإعلامية، وللعلم فإن الرئيس السابق للجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحت بيشه قد تحدث سابقا عن دين بلغ 30 مليار دولار.
ولكن عندما يعطي النظام في طهران أهمية لتلك الوثائق المسربة ويتجاهل الرد على العديد من الوثائق التي سربها الموساد حول برنامجه النووي مثلا فإنه يزيد من مصداقيتها أو يفتح الباب لفرضية أخرى وهي أن النظام الإيراني في الأساس قد سهل عملية الاختراق أو أرادها أن تقع أصلا ليرسل رسائل مشفرة بعد أن تمكنت سوريا من فك العزلة العربية، وأن طهران هي الأولى بمشاريع إعمار سوريا من منطلق أنها قدمت الكثير من الدعم المالي الذي ساهم بشكل كبير أسوة بالدور الروسي في عدم انهيار النظام في سوريا.
وإن صحت تلك الوثيقة فإنها تكشف بوضوح أن الدعم المالي الضخم في سبيل استمرارية نظام بشار الأسد يوازي أهمية الحفاظ على قطعة الدومينو الأساسية في محور المقاومة والتي من دونها لا يمكن ربط لبنان بفلسطين، وأن هذا المبلغ الثقيل على إيرادات الدولة سيجعل قرارها مرهونا بالقرار الإيراني وهو كفيل بأن يجعل مبنى وزارة الخارجية السورية في طهران وليس في دمشق، يكفي فقط أن نرى كيف يملي صندوق النقد الدولي سياساته على دولة مدانة بمليار واحد لنفهم كيف يمكن أن يتحكم نظام بنظام آخر مدان بـ50 مليار دولار.
زيارة إبراهيم رئيسي إلى دمشق، والتي حشد لها وفدا على مستوى عال من الأهمية ضم وزراء النفط والدفاع والشؤون الخارجية والاتصالات والطرق وبناء المدن، تؤكد أنها لم تكن زيارة لمباركة العودة السورية إلى الحضن العربي أو لتباحث مسائل سياسية وإقليمية فحسب، وإنما فرصة لتذكير النظام السوري بأن مسألة التطبيع العربي – السوري لا ينبغي أن تنسيه الالتزامات المالية تجاه طهران، وهي في نفس الوقت رسالة موجهة إلى دول تريد أن تنافس إيران أو تقتسم معها كعكة “الإعمار السوري”، وما تسريب تلك الوثيقة ما بعد الزيارة إلا خير دليل على أن نظام الملالي يريد حماية مصالحه الاقتصادية في سوريا بالدرجة الأولى.
لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تسمح إيران للدول العربية باقتسام “كعكة الإعمار السوري” وهي تعلم بأن بعض الأنظمة العربية التي أعطت موافقتها على إعادة سوريا إلى الجامعة العربية قد فكرت تفكيرا براغماتيا نابعا من فكرة أن سوريا التي خسرت أكثر من 500 مليار دولار في فترة الربيع العربي هي الآن بعد أن تمكنت من حسم المعركة أرض خصبة للاستثمار في مسألة الإعمار، فضلا عن أن خصخصة الشركات الوطنية المتعثرة أمر لا مفر منه في ظل وضع اقتصادي كارثي، وبالتالي فإن البحث عن الغنيمة من التطبيع مع سوريا أهم من الحديث مع الأسد عن الديمقراطية والعملية السياسية والجرائم والمصالحة السورية وما شابه، فالجميع ينتظر سقوط قانون قيصر الأميركي ضد سوريا ليباشر حصد الغنائم، ولكن طهران لها رأي آخر فهي لا تهتم لمسألة الإعمار بقدر ما تهتم ببقاء سوريا تحت سلطتها وإن تطلب ذلك 50 مليار دولار أخرى.
النظام الإيراني يجيد تسويق أسطوانة دعم الشعب السوري وتعزيز الصمود ومساعدة سوريا في تعمير ما خلفه “الإرهاب” لكنه لا يمكن أن يخدعنا بفكرة أنه يريد الخير لسوريا والسوريين، فالتكنولوجيا تسمح لنا بالحصول على المعلومات وتكشف لنا كيف يعيش سكان إقليم الأهواز في غياب تام للتنمية والإعمار والطرقات المهترئة وشح المياه وضعف شبكة الكهرباء والخدمات الصحية.. هنا يجدر بنا أن نذكر نظام الملالي بأن الإيرانيين هم الأولى بالمعروف والأولى بالمال الإيراني من غيرهم.