سنعود الى الوراء قليلاً و بنظرة سريعة و متجردة لنعرف فعلاً من هي تلك المجموعات التي ارتبطت ارتباطاً عضوياً بالخارج و كانت قراراتها دائما متماهية معه و سنطرح بعدها اشكالية تلك العلاقات المتشعبة التي شكلت السبب الفعلي و الدائم لهذا الارتباط .
كلنا نرى اليوم و ندرك الارتباط الكبير لحزب الله بإيران و التماهي المطلق مع سياساتها لحد الذوبان و لكن و ما يتجاهله البعض عمداً أو عن غير قصد هو الفهم العميق لهذه العلاقة ، فهل حزب الله هو بالأساس كيان مستقل أم نشأ أصلاً على أنه فصيل من حرس الثورة الإيراني و هو بالنالي ينتمي و بالجوهر العقائدي الى هذا النظام و تلك الأيديولوجيا ؟ أي أنه جزء لا يتجزأ من الثورة الإسلامية في إيران و نظرية ولاية الفقيه و بالتالي هو ليس كياناً مستقلاً يتماهى معها ، مع ما يحمله ذلك من تبعات على نظرته العامة للأوطان و الكيانات و منها لبنان و انتمائه اليها وولائه لها ؟
طبعاً نحن لا ندين جماعة حزب الله فهم أحرار بالاعتقاد كما يشاؤون و هذه أيديولوجيتهم و علينا احترامها ان اردنا منهم احترام نظرتنا نحن للأمور ، نحن نوصف فقط وضعية معينة لنجري مقارنة بينها و بين مجموعات أخرى ارتبطت تاريخيا بخارج ما و لنفهم عمق هذا الإرتباط و أسبابه المختلفة تماماً عن بعض ما يقوله سطحيي هذه الأيام و بعض الوصوليين و المتملقين .
اذا و بصلب عقيدة حزب الله هناك “الأمة الكبرى” هذه الأمة التي لا يمكنها الإعتراف بحدود و كيانات لأنها كيان قائم بحد ذاته و لو بطريقة غير معلنة لديه نظمه و شرائعه المنبثقة من الشريعة الدينية التي ينتمون اليها و هذا حقهم كما سبق و ذكرنا .
من هنا تحديداً لا يمكن الاستغراب إن تصرّف هذا الحزب عملياً على اساس عدم وجود الأوطان و الحدود التي نعرفها نحن و نعيش بداخلها ، و من يعتقد غير ذلك فهو لديه قصور كبير في المعرفة التاريخية للمنطقة و الأيديولوجيات و الأفكار و الشرائع التي تجاذبتها طويلاً و ما زالت .
و من هنا أيضاً و بالتحديد يمكن فهم تماهي جزء غير قليل من سنة لبنان سابقاً حتى الذوبان مع الحركة الناصرية و المفاهيم القومية ذات البعد المذهبي المغلف بشعارات جميلة في تلك الحقبة و من هنا أيضاً يمكن فهم التحالف العميق بين أحزاب الحركات التي سميت وطنية أو قومية عربية انذاك و منظمة التحرير و تسليمهم بقيادتها و زعامتها وقتها و من هذا المنطلق أيضاً يمكن فهم مراعاة بعض المجموعات و الشخصيات السنية الدائم للملكة العربية السعودية قائدة العالم السني اليوم أو الدول السنية النافذة كتركيا حاليا و مصر سابقا ، هؤلاء و في مكانٍ ما يشبهون بطريقة غير مباشرة و باختلاف الأساليب طبعا حزب الله و أتباع ولاية الفقيه فهم يرتبطون بأمةٍ معينة لها شرائعها و أيديولوجياتها التي لا تستطيع الاعتراف بأوطان و حدود و هذا حقهم أيضاً و لا يمكن لنا مناقشتهم في صلب عقيدتهم أو نقضها كما لا نسمح نحن لأحد بنقض عقائدنا الدينية أو الانسانية الخ …
الخلل هنا تحديدا ، من يسبق ماذا في الأولويات ؟ الأمة الكبرى أو الوطن الصغير المؤقت الذي يعيش فيه البعض لا إراديا بانتظار تحقيق الدولة الموعودة “للأمة الواحدة” ؟
يقول البعض و عن حق ربما أن هذه الأفكار و في التاريخ الحديث كان لها منبع وحيد تقريباً هو “فكر الإخون المسلمين ” من حسن البناّ حتى أسامة بن لادن و ما بينهما ، هذا الفكر الذي استند دائماً الى حقائق تاريخية لا يمكن نكرانها حتى لو كنا على طرفي نقيض معه و حتى لو كان و ما زال و سيبقى بنظرنا فكر شمولي الغائي للآخر المختلف ، فحتى لو اعتنق البعض تلك الأفكار بنعومة كإخوان تركيا أو بخشونة كأئمة طهران ، لا فرق لأن الجوهر واحد و الهدف النهائي واحد “الأمّة” .
من هذا المنطلق لا يمكن تسخيف انتماء تلك المجموعات لخارجٍ ما أو وضعه في إطار صراع سلطوي مرحلي على مكاسب و نفوذ ، إنه انتماء فكري ديني عقائدي يتخطى بعض العقول المحدودة التي تقزّمه لغاية في نفسها أو عن جهل ، و من هنا أيضاً لا يمكن التعميم و القول أن كل المجموعات اللبنانية تنتظر الخارج و سنعطي أمثلة :
صحيح أن الحركة الوطنية كانت بزعامة قائد درزي هو كمال جنبلاط و صحيح انه تماهى كثيراً مع منظمة التحرير ببعدها القومي و الفكري و ليس فقط ببعدها المقاومتي ضد الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين ، لكن هذا التماهي خاصة ببعده الفكري كان لأسباب مختلفة عن الآخرين وقتها ، فكمال جنبلاط تحالف أساساً مع منظمة التحرير لا لإيمانه بأمة معينة و انتظار قيام دولتها الموعودة (ان افترضنا مجازا ان تلك المنظمة حلّت وقتها في عقول البعض مكان الزعامة السنية التاريخية لجمال عبد الناصر)، هو تحالف معها لأسباب لها علاقة بالتوازنات الداخلية اللبنانية و بنظرته التاريخية المتعلقة بالدروز و الموارنة و صراعاتهم السابقة على السلطة و السيطرة إضافة طبعاً الى إيمانه الفعلي بأحقية القضية الفلسطينية التي يشاركه بها كل اللبنانيين من مختلف الطوائف و الانتماءات .
اذاً الدروز و الذين هم طائفة مؤسسة للكيان اللبناني لم يرتبطوا فعلياً بخارجٍ ما و عندما ارتبطوا به كان ارتباطهم لأسباب مختلفة عن غيرهم و هي بالتحديد استعادة دور مفقود في المعادلة اللبنانية و ليس لأي سبب آخر .
مكون ثان لم يرتبط يوماً ارتباطاً عضوياً أو أيديولوجياً بالخارج و هو المكون المسيحي ، لا بل العكس هذا المكون استثمر علاقاته الخارجية و جيّرها لمصلحة لبنان منذ انشاء الكيان و حتى يومنا هذا و الأمثلة على ما نقول أكثر من أن تحصى و تعد ، لكننا لن نغوص في التفاصيل كي لا نخرج عن موضوع المقال .
المسيحيون و الدروز الذين تشاركوا تاريخياً في انشاء الكيان اللبناني أتت علاقاتهم الخارجية دائماً في سياق مصلحة داخلية كانت بأغلبها سلطوية ضمن صراعهم على السيطرة و النفوذ ، هاتين الطائفتين و ببساطة لا ملجأ آخر لهما في هذه البقعة المضطربة من العالم سوى الكيان اللبناني ليعيشوا قناعاتهم و ثقافتهم و تقاليدهم بحرية ، لذا و طبيعياً أي ارتباط خارجي لهم سيصب بنهاية المطاف لمصلحة استمرارية هذا الكيان و الحفاظ عليه حتى لو استعمل أحياناً ضمن إطار الصراع الصغير و شد الحبال على السلطة تبقى حدوده الكيان اللبناني و لا شيء سواه .
نحن بالتأكيد لا نتهم احداً لا سمح الله او نوزع شهادات الانتماء التي لا حق لنا بتوزيعها أصلاً ، نحن فقط نوصّف واقع تاريخي لنفهم بعمق أسباب و مبررات ارتباط بعض المجموعات اللبنانية بالخارج و ليس لأي سبب آخر .
اردنا في هذا المقال القول أن بعض المجموعات في الطوائف أو المذاهب اللبنانية لا يمكن لها الا أن تكون مرتبطة عضوياً بالأمة التي تنتمي اليها و الا فهي تخرج عن جوهر و صلب عقيدتها الدينية التي تلزمها بذلك .
و اردنا القول أيضاً أن هذا حقهم و لا يمكن لأحد أن يمنع عنهم هذا الحق أو يتدخّل في معتقداتهم و إيمانهم ، فإن اردنا منهم احترام معتقداتنا كما هي علينا احترام معتقداتهم كما هي أيضاً لا كما نحب أن نراها أو كما نريد أن تكون .
الأهم أردنا من هذا المقال وضع الأمور في نصابها و رفض سياسة التعميم القاتلة التي يعتمدها البعض منهجا في عمله و بغوغائية قلّ نظيرها و التي تأتي بالتالي بنتائج عكسية تبرر أفعال المرتبطين حقا بالخارج على حساب المصلحة العليا اللبنانية .
كفى تسخيفاً و تسطيحاً للأمور ، الصراع اللبناني عميق جداً و جوهري جداً و ربما حان الوقت للبحث عن صيغة قابلة للحياة تنظّم هذا الإختلاف العميق بين المكونات اللبنانية و أولى خطوات البحث عن تلك الصيغة هو الإعتراف الصريح و الواضح بجوهر مشاكلنا علّنا نتمكن يوما من إصلاح ما يمكن اصلاحه بعد ما أصابنا من وهن و ضعف و اختلال نتيجة الإخفاء المزمن و القاتل لعلّتنا الأساسية و المكابرة الدائمة و عدم الاعتراف بها .
(ملاحظة : الكلام الوارد في المقال يشمل حصراً الملتزمين بتلك الأفكار و الأيديولوجيات لا أي أحد آخر لأي عقيدة أو دين انتمى )