من أفضل محافظ بنك مركزي في العالم إلى طريد للعدالة وعنوان لإفلاس لبنان، ودخوله واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية منذ قرن، هكذا تتلخص مسيرة رياض سلامة حاكم مصرف لبنان السابق، الأمر الذي لا يثير تساؤلات فقط حول مصداقية النظام السياسي والمصرفي اللبناني؛ بل أيضاً مصداقية الأنظمة المصرفية الدولية والقوى السياسية الدولية التي نصّبته في هذه المكانة قبل أن تنقلب عليه بعد اندلاع الأزمة المالية في البلاد عام 2019.
وتنحى رياض سلامة عن منصب حاكم مصرف لبنان في ظل أزمة أدت إلى انهيار الليرة من نحو 1500 ليرة للدولار إلى أكثر من 100 ألف ليرة، وهو مستهدف بمذكرتي توقيف دوليتين بتهمة الاختلاس وغسيل الأموال، بعد 30 عاماً على رأس المصرف المركزي اللبناني المعروف باسم مصرف لبنان.
رياض سلامة نال قائمة طويلة من الجوائز الدولية، منها تكريم رئاسي فرنسي مرتين
قبل بضعة أشهر من انهيار الاقتصاد اللبناني وسقوطه في واحدة من أسوأ الأزمات منذ قرن، نشرت صحيفة النهار اللبنانية المرموقة والتي توصف بالليبرالية، تقريراً عنه في عام 2019، بعنوان “سيرة مليئة بالإنجازات.. رياض سلامة من أفضل حكام البنوك المركزية في العالم”.
تشير الصحيفة في هذا التقرير إلى أنه للمرة الرابعة، حاز حاكم مصرف لبنان درجة “A” من بين 94 حاكم مصرف مركزي بالعالم في تقرير عام 2019 لمجلة “غلوبال فاينانس” Global Finance التي تعد من أهم المجلات الاقتصادية في العالم، بعدما حاز هذا التصنيف في أعوام 2011 و2017 و2018.
كما حاز جائزة أحد أفضل حكام المصارف المركزية في العالم من مجلة “غلوبال فاينانس” لسنة 2016، وجائزة EUROMONEY، كأفضل حاكم مصرف مركزي في العالم لعام 2006، وأفضل حاكم مصرف مركزي لعام 2003 (رجل العام 2003).
وجائزة أفضل حاكم بنك مركزي في الشرق الأوسط، عدة مرات نالها من عدة جهات، منها في أعوام 2005 و2009 و2013، وجائزة مجلة Global Finance كأحد أفضل 6 حكام مصارف مركزية في العالم لعام 2011.
وحاز سلامة وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، قلّده إياه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في 1997، ووسام جوقة الشرف من رتبة ضابط، قلّده إياه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في 2009.
كان أول محافظ عربي يقرع الجرس في وول ستريت
ورياض سلامة مسيحي ماروني، إذ يُعَد اختيار مسيحي ماروني هو العرف في ظل نظام تقاسم السلطة الطائفي في البلاد.
وُلد رياض سلامة، في 17 يوليو/تموز 1950. ودرس بالجامعة الأمريكية في بيروت، حيث نال إجازة في الاقتصاد.
بين عامي 1973 و1985، اكتسب رياض سلامة خبرة واسعة في شركة ميريل لينش، متنقلاً بين مكاتب بيروت وباريس، الأمر الذي أدى إلى تعيينه في 1985، نائباً للرئيس ومستشاراً مالياً. وقد شغل هذا المنصب حتى تعيينه حاكماً لمصرف لبنان في سنة 1993.
أعيد تعيين سلامة حاكماً لمصرف لبنان لأربع ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011 و2017، وكان منصبه يوصف في بعض الأوقات بأنه أهم من منصب الرئيس.
عندما تولى سلامة رئاسة المصرف المركزي عام 1993 كانت البلاد والاقتصاد مُحطَّمين من جرَّاء 15 عاماً من الحرب الأهلية، ويعود الفضل له في الحفاظ على ربط العملة بالدولار، والذي أدَّى في النهاية إلى إرساء الاستقرار في الاقتصاد المعتمد على الواردات.
وكان سلامة قد أصبح في عام 2009 أول حاكم مصرف مركزي عربي يقرع جرس بدء التداول ببورصة نيويورك، وتُرجِمَ ذلك باعتباره مكافأة على المهمة التي أداها باستعادة الاستقرار خلال تاريخ لبنان السياسي والمالي المضطرب. وقد ورث مؤسسة تملك حصة جزئية في الملهى الوحيد في البلاد، ويملك أيضاً شركة طيران الشرق الأوسط. وظل الرجل البالغ من العمر 73 عاماً، حاكماً لمصرف لبنان على مدى عهود 12 رئيس وزراء و11 وزير مالية.
ولكن هذا السجل المثير للإعجاب تحول للنقيض تماماً، عندما انهارت المصارف اللبنانية عام 2019، في ظل تظاهرات احتجاج نشبت بعد قرار الحكومة فرض ضرائب على استخدام تطبيق واتساب لمواجهة الأزمة المالية المتفاقمة، خاصة بعد أن هجر الناس استخدام شبكات المحمول العادية الباهظة التكلفة التي كانت تمثل مصدر دخل أساسي للحكومة.
أدَّت الأزمة إلى محو مدخرات الناس، لكنَّها أيضاً حطَّمت الثقة بمصارف لبنان، التي تمثل منذ استقلال البلاد حجر زاوية لاقتصاد البلاد، وكانت تاريخياً تمثل أهمية للمنطقة كلها، وليس للبنان فقط.
وفي مايو/أيار 2023، حاول مئات المحتجين، بالأساس من أفراد الأمن المتقاعدين، اقتحام مباني البرلمان وسط بيروت، حيث كان أعضاء البرلمان في جلسة، بعدما تجاوزت الليرة مستوى 140 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد، وهو تراجع قياسي. بل لجأ بعض اللبنانيين لسرقة المصارف من أجل استعادة أموالهم.
اتهمت السلطات الأوروبية سلامة بالانتفاع غير المباشر من بيع السندات المقوَّمة باليورو عبر شركة وساطة يملكها أخوه، رجا. واستجوب المحققون الأوروبيون رياض سلامة وآخرين في بيروت عدة مرات هذا العام. وأصدرت الشرطة الدولية (الإنتربول) نشرة حمراء عقب إصدار مذكرات توقيف من جانب فرنسا وألمانيا بشأن مزاعم تزوير وغسيل أموال. وينفي سلامة كل المزاعم.
واتهمه البعض بوضع خطة بونزي واسعة النطاق للنظام المصرفي اللبناني (نظام مركب للاحتيال يفضي في النهاية لإفلاس بعض المشاركين فيه).
بينما يقول آخرون إنه عرقل الإصلاحات، إضافة للاتهامات الموجهة ضده باختلاس الأموال العامة وغسيل الأموال والتي هي قيد التحقيق في أوروبا، (وهي الاتهامات التي يدحضها).
“أنا كبش فداء للنظام”
لا يزال رياض سلامة مصراً على أنه لا يتحمل المسؤولية عن انهيار لبنان، مثلما فعل قبل تنحيه بخمسة أيام في مقابلة مع قناة LBCI اللبنانية، ويقدم الرجل البالغ من العمر 73 عاماً،ً نفسه على أنه “كبش فداء للنظام”.
توقف رئيس الوزراء نجيب ميقاتي ورئيس مجلس النواب نبيه بري عن اقتراح تمديد فترة ولاية رياض سلامة، حيث حذرت فرنسا والولايات المتحدة من أن ذلك من شأنه تقويض مكانة لبنان في النظام المالي الدولي.
ومع ذلك، لا يوجد إجماع بين المسؤولين اللبنانيين على من سيخلف سلامة في هذا المنصب، الذي يُعهد تقليدياً إلى مسيحي ماروني.
وسيعمل نواب الرئيس الأربعة كمديرين مؤقتين بقيادة أولهم وسيم منصوري، الذي أصبح القائم بأعمال الحاكم اعتباراً من الثلاثاء 1 أغسطس/آب 2023، وهو خبير محترم، ومحامي ضرائب فرنسي لبناني شيعي مقرب من نبيه بري، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Le Monde الفرنسية.
وسبق أن مثل منصوري مصرف لبنان في الخارج بدلاً من سلامة، الذي منعته مشاكله القانونية من السفر.
“رياض سلامة ليس سبب الأزمة الاقتصادية والمالية. لم يتسبب في عجز في شركة كهرباء لبنان ولم يوظف كل هؤلاء الموظفين الزائدين. لكنه لم يمنع ذلك من الحدوث”. هكذا قال بيير دوكين السفير الفرنسي السابق المكلف بتنسيق الدعم الدولي للبنان، حسبما نقلت عنه صحيفة Le Monde الفرنسية.
وأضاف قائلاً: “واعتباراً من عام 2019، أصبح جزءاً من المشكلة”.
ووافق نائب رئيس الوزراء اللبناني المنتهية ولايته، سعد الشامي، على ذلك بقوله: “إنها مسؤولية مشتركة، لكن في رأيي، يتحمل رياض سلامة مسؤولية أكبر من الآخرين، لأن مصرف لبنان مستقل”.
وقد يكون ذلك صحيحاً لحد كبير، رياض سلامة ليس مسؤولاً وحده عن أزمة لبنان.
النموذج الذي بناه الحريري زالت أسباب استمراره
فالوضع الاقتصادي اللبناني الحالي هو محصلة ثلاثة عوامل:
- الأول نظام المحاصصة الطائفية العقيم الذي ازداد تدهوراً وعزلة عن العالم مع سيطرة حزب الله على البلاد، وصعود حليفه العماد ميشال عون لرئاسة البلاد.
- العامل الثاني، تعقد البيئة العربية المحيطة بلبنان، بدءاً من الأزمة السورية التي أدت لتوتر طائفي داخلي لفترة، إضافة إلى تراجع حاد في السياحة الخليجية التي كانت تعد من أهم مصادر الدخل اللبناني.
- العامل الثالث الذي قد تكون له أهمية كبيرة ولكن لا يتم الالتفات إليه، هو النظام الاقتصادي الذي اتبعه لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في مطلع التسعينيات والذي أرساه رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري مؤسس تيار المستقبل.
وقام هذا النظام على أن يكون لبنان مركزاً مالياً وخدماتياً وسياحياً في المنطقة، واستند إلى تثبيت سعر صرف الليرة أمام الدولار، ونظام مصرفي فعال ومنفتح سمح له من قبل الأمريكيين سادة النظام المصرفي العالمي بأن يتوافر به مقدار من السرية المصرفية الاستثنائية، مما أتاح المجال لتدفق مليارات من أموال الجالية اللبنانية المزدهرة في الخارج، (بعضها أموال مشبوهة أو أموال محولة من دول فقيرة تفرض قيوداً على التحويلات الرسمية)، إضافة إلى تدفق السياحة والاستثمارات الخليجية سواء على القطاع المصرفي أو في المجالين العقاري والسياحي بشكل خاص، بجانب المال السياسي من دول الخليج وإيران.
كل ذلك مع استمرار الفساد والمحاصصة الطائفية، على أساس أن الحرية الاجتماعية والاقتصادية الاستثنائية التي يتمتع بها لبنان مقارنة ببقية الدول العربية سوف تجعله مركزاً للاستثمار والسياحة والتحويلات المالية، مع دور داعم رئيسي للمساعدات الخارجية التي أنقذت البلاد عدة مرات عبر مؤتمرات باريس الشهيرة.
قام هذا النظام على تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، مع تقديم فوائد عالية، مما جعل المودعين يحققون أرباحاً هائلة، وفي الوقت ذاته تقوم المصارف اللبنانية باستخدام أموال المودعين لإقراض الحكومة اللبنانية بفوائد مرتفعة نسبياً، خالقة واحدة من أكبر معدلات الديون السيادية بالنسبة للناتج المحلي في العالم.
النظام أضعف الإنتاج واعتمد على المساعدات والسياحة بينما حزب الله يعادي داعمي البلاد
أدى هذا النظام إلى إضعاف الإنتاج المحلي وشجعت قوة الليرة اللبنانيين، على الرغم من مهاراتهم التجارية والصناعية على الاستيراد، من دول مثل تركيا والصين (حتى إن لبنان كان يستورد الأسماك من تركيا التي تشاركه في البحر المتوسط)، بينما أضعف الصناعة والزراعة المحليتين التي تعاني أصلاً من ارتفاع أسعار الطاقة وانقطاعها وقلة الأرض الرخيصة (بسبب الطبيعة الجبلية والحساسيات الطائفية) والأجور المرتفعة والفساد وتهريب المنتجات من الخارج.
بالنسبة لكثير من رجال الأعمال اللبنانيين كان من الأفضل شراء مزرعة في مصر أو تأسيس مصنع في تركيا أو شركة في دبي من وطنهم الذي يعاني من ارتفاع كبير في أجور العمالة وتكلفة الإنتاج، مع حجم سوق صغير.
كان يعوض ذلك إيرادات السياحة والمساعدات الخارجية والتحويلات السياسية، ولكن السياحة الخليجية توقفت تقريباً بسبب التوتر بين حزب الله ودول الخليج بعد تدخل الحزب عسكرياً في سوريا، كما توقف الخليجيون عن شراء مزيد من العقارات في لبنان، بعد أن أصبح ما يملكونه من عقارات خاوياً في ظل احترازهم من السفر للبنان، ثم أخيراً بدأ معين المساعدات الخارجية ينضب، سواء بسبب شعور السعودية تحديداً بعد صعود الأمير محمد بن سلمان بأن الرياض تستثمر في لبنان، بينما إيران هي التي تجني المكاسب عبر حزب الله.
كما أن كثيراً من الرعاة الدوليين والعرب سئموا ليس فقط من استفادة حكومة يسيطر عليها حزب الله من أموالهم، ولكن أيضاً من المحاصصة والفساد ورفض الإصلاح الذي تتسم به نخبة البلاد التي تخاطر بالمصالح الوطنية لأسباب طائفية مع المراهنة دوماً على الدعم والتدخل الخارجيين، كما بدا واضحاً من رفض النخب السياسية مبادرة ماكرون لتشكيل حكومة أقل طائفية تضم بعض التكنوقراط، وممثلي المجتمع المدني.
فلقد اعتاد ساسة لبنان دوماً مساومة الداعمين الخارجيين وابتزازهم بمقدرات مواطنيهم.
قوى المجتمع المدني لها نصيبها من المسؤولية
أدى توقف السياحة والدعم الخارجي مع توسع العجز المالي جراء نقص الإيرادات إلى انهيار التوازن الهش للمالية العامة اللبنانية، ولكن لا يمكن استبعاد أيضاً أن إقرار زيادة الرواتب عبر ما يعرف بسلسلة الرتب والرواتب عام 2017، ساهم في تفاقم المشكلة.
تم فرض هذه الزيادة عبر ضغوط واعتصامات قادتها النقابات والتجمعات المهنية، ولعب اليسار اللبناني والقوى الناصرية والمجتمع المدني دوراً كبيراً في الدفع بهذه الزيادة، وهي قوى تصنف على أنها غير حاكمة وبعيدة غالباً عن الفساد الذي يميز النخب الحاكمة، ولكن هذه القوى تفترض عن حق، أن النخب تنهب البلاد، وبالتالي من حق الطبقات الوسطى والفقيرة توسيع مكتسباتها، ولكن هذا دون التفات للأثر الاقتصادي لهذه المطالبات، بحكم أن طبيعة هذه القوى ذات نزعة اجتماعية غير ملمة بالاقتصاد.
وأيدهم حزب الله الذي يتبنى عادةً خطاباً اقتصادياً واجتماعياً قريباً من اليسار، لمغازلة أنصاره من أبناء الطائفة الشيعية الذين ينظرون إلى أنفسهم كطائفة محرومة.
بينما عارضها سياسيون تقليديون متهمون بأنهم جزء من نظام المحاصصة الفاسد مثل القيادي بتيار المستقبل، الاقتصادي البارز فؤاد السنيورة، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط الذي حذر من تكرار أزمة شبيهة باليونان، ولكنه قال إن العرب لن ينقذوا لبنان مثلما فعل الأوروبيون مع أثينا، وهو ما تحقق حرفياً.
لم تقبل القوى التي طالبت بزيادة الأجور تحذيرات ممن تراهم ناهبين للبلاد.
يظهر ذلك أن أسباب الأزمة خليط من نهج اقتصادي ومالي غير إنتاجي، وسوء تقدير من قبل القوى غير الحاكمة ذات الخطاب اليساري، مع فساد النخب الحاكمة وفقدانها للقدرة على المبادرة الاقتصادية منذ رحيل رفيق الحريري، إضافة إلى سياسات حزب الله التي أدت فقدان لبنان للغطاء العربي والدولي.
يعني كل ما سبق أن أزمة لبنان أكبر من رياض سلامة، ولكن السؤال المهم المتعلق بدور سلامة (إضافة إلى الاتهامات الغربية بالفساد)، هو مدى معرفته بأن النظام المصرفي اللبناني سينهار، وهل كان على علم بما قيل إن جزءاً من النخب قد حوّل الأموال للخارج قبل أن تنهار المصارف وتضيع مدخرات المواطن العادي.
أما السؤال الذي يتجاهله الغرب وهو يوجه الاتهامات واللوم لسلامة، فهو: لماذا تمت الإشادة بالرجل كل هذه السنين، وهل اكتشفت السلطات والمؤسسات الغربية فجأةً الاتهامات الموجهة له بعد انهيار الاقتصاد اللبناني، أي بعد فوات الأوان؟