فالجريمة التي يُراد لها أن تُصنف حادثاً فردياً عابراً، تشبه جرائم مماثلة اقتصرت التحقيقات فيها على شكليات من المرجح أن تُظهر عجز الجهات الأمنية عن رسم صورة واضحة لملابساتها، ليطوى الملف ويُقَيَّد ضد مجهول/ معلوم، ينفّذ التعليمات وهو مطمئن إلى أنّ لا سلطة ستتجرأ عليه أو على مرجعيته العليا.
ولا غرابة في المسألة، إذ تكثر السوابق التي يصبح إيراد الأمثلة عنها تكراراً مجوفاً لا صدى لارتداداته. المهم أنّ الجريمة لا تزال تحقق أهدافها لتستكمل مشروعها المستمر عبر خطة محكمة ترمي إلى السيطرة السياسية بالتزامن مع السيطرة الأمنية والعسكرية على البلد بأكمله، ما يتطلب انتشار وحدات، إمّا من عناصر الحزب أو من القوى التي تدور في فلكه، والإمساك بالمرتفعات والجرود، لتبقى الحدود البرية والبحرية والجوية والمناطق اللبنانية، ساحلاً وجبلاً، مضبوطة بشبكات تؤمّن الغاية المرجوة لتطبيق هذه السيطرة.
وليست بعيدة عن الذاكرة، موقعة عرسال، حيث اِفْتُعِلَت، قبل سنوات، قضية «الدواعش» الإرهابية المشكوك بأمرها ومساراتها، والتي دفع الجيش اللبناني من دماء جنوده ثمنها، ليُصار إلى إقصائه، بعد تمثيلية هزلية أسفرت عن تسهيل «حزب الله» لخروج الإرهابيين في باصات مبرّدة، ومن ثم وضع يده على المنطقة.
ولا تخرج القرنة السوداء عن هذه الخطة التي بدأت مفاعيلها تظهر جلية مع «السرايا الصديقة»، المعزز وجودها بالسلاح والعتاد اللازمين، مع طموح من يحميها برئاسة الحكومة، أو في عمق جبل لبنان من كسروان إلى جرود جبيل التي تطل سفوحها الشرقية على البقاع، حيث الحواجز «الطيارة» التي تهبط على مفارق الجرود من كواكب مجهولة، تفاجئ العابرين لتؤدي المهمة المطلوبة منها ثم تنسحب.
من هنا، فإنّ جريمة القرنة السوداء، تحمل في ظاهرها مسألة ترسيم الأراضي بين أهالي بشري وبقاعصفرين، لكن في باطنها، ما هي إلا حلقة من حلقات ربط المناطق اللبنانية من قممها بخطوط عسكرية تؤمن انتقال مقاتلي «حزب الله» وقوافل إمداداته وسع الأراضي اللبنانية عبر سوريا ذهاباً وإياباً.
أي كلام آخر سيبقى كلام مبتدئين غير محترفين لأبعاد الاستراتيجيات الجغرافية والديموغرافية التي ينحتها «الحزب» في الجسم اللبناني المتهالك، حتى يسهل قضمه. وهو يعلم يقيناً أنّ التحقيقات في هذه الجريمة لن تختلف عن سابقاتها.
وكما جاءت المعلومات المفخخة من طبيب شرعي عن كيفية إرداء الضحيتين، ستتحفنا الشائعات المبرمجة بمعلومات مشابهة متناقضة واحتمالات تغتال بعضها البعض لتضيع الحقيقة.
فأبواق الممانعة بدأت تروِّج بأنّ التحقيق يراوح مكانه، ما يعني أنّه على ذوي الضحايا اجترار الظلم اللاحق بهم والبقاء على حافة انتظار العدالة في بلد لا أمل بعدالة تنصف ضحايا أي جريمة مرتكبة بحقهم، حتى لو شملت الجرائم نصف سكان بيروت، كما في جريمة تفجير المرفأ. وإذا قاموا بأي رد فعل انتقامي يصبحون خارجين عن القانون وأصحاب أجندات مشبوهة بسبب الجغرافيا التي يمكن تصنيفهم من خلالها، ولا يبدو مستبعداً أن تكشف الأجهزة الأمنية العاجزة عن القاء القبض على قتلة أولادهم أنهم عملاء ينفذون مطالب الشياطين، الكبار منهم والصغار.
ويبقى علينا توقع أحداث مقبلة تصرف الاهتمام عن مأساة آل طوق، الذين خسروا ولدَيهم، كما خسرت عائلة الضابط الطيار سامر حنا ابنها… ليدفع المزيد من شباب لبنان حياتهم ثمناً للمشروع ذاته.