+ لماذا انتميت في الأساس إلى الحزب الشيوعي؟
– اتجهت نحو الحزب في أواخر الستينات وانتميت رسمياً بين 1971-1972. كان الصراع السياسي في الجامعات هو الطاغي في معايشتنا للواقع. وزاد حدّة بعد توقيع «اتفاقية القاهرة» (3 تشرين الثاني 1969). كنت آمل وقتها أن تكون العلاقة بيننا كلبنانيين وبين الفلسطينيين أفضل مما كانت وأن نكون متّفقين كلّنا على سياسة معقولة لدعم القضية الفلسطينية لا تقوم على العداء العنصري. الفلسطيني لم يكن مسؤولاً عن وجوده في لبنان ولا كنّا نحن مسؤولين. ولم يكن مطلوباً اقتلاعه من لبنان بعد اقتلاعه من أرضه. شعار الدولة وقتها أنّ قوة لبنان في ضعفه كان خاطئاً. لأنّ الدولة تخلّت بذلك عن حماية الحدود بالكامل بينما كل الدول العربية المحاذية لإسرائيل شاركت في حرب 1967.
+ ولكنّها خسرت الحرب والأرض
– وهل نحن نربح اليوم؟ ولو خسرت. لكنّها حافظت على حقّها الحصري بالسيادة.
+ هل المهم أن تقاتل فقط؟
– مين عم يقاتل؟ قلْ لي من؟ الدولة خسرت حصريتها بالسيادة أولاً للفلسطيني بعد «اتفاق القاهرة»، وثانياً للسوري عام 1977، وثالثاً للإيراني بعد تفاهم الدوحة 2008.
ما حدا عملني شيوعي
+ من كان الأبرز في الحزب عندما انتسبت إليه؟
– كان جورج حاوي هو الأبرز مع أنه كان نائب الأمين العام نقولا الشاوي. مرحلة الحزب الشيوعي علّمتني الكثير. تعلّمت معنى الإنتماء إلى حزب إيديولوجي دوغماتي وأخذت الدروس بكاملها. أكثر من ذلك. تعلمت أنّ المسألة الأولى التي يفترض بالأحزاب تطبيقها هي أن تكون جزءاً من بناء الدولة الوطنية وليس جزءاً من مشاريع عالمية، أو إقليمية. وعليها احترام الأفراد وليس العقل الجماعي المتماهي مع الطوائف والعشائر. الأوطان هي الحافظة لأمن المواطنين الأفراد أولا. الإبداع والتميز إنجاز الأفراد وليس الجماعات.
+ لماذا ذهبت إلى الحزب الشيوعي وليس إلى «الكتائب» أو «الوطنيين الأحرار» مثلاً؟
– لم أكن أحب «الكتائب» و»الأحرار». السؤال الأصح هو لماذا لم أذهب إلى الأحزاب القومية؟ الجواب بسيط وهو لأنني لم أتحمّل أفكارهم. الحزب الشيوعي لم يكن معارضاً بحدّية قصّة الدولة اللبنانية بشكل خاص. نقولا الشاوي كان مع الوفد الذي ذهب مع رياض الصلح إلى فرنسا للمفاوضة من أجل استقلال لبنان. أنا لم أدخل إلى الحزب لأنّه لم يكن يوجد غيره مثلاً. «عندنا في بلدتي الرميلة ما كان في حدا بالحزب الشيوعي». كنت وحدي. حتى أنّني لم أتعرّف إلى شيوعي واحد من صيدا مثلاً. كان شغفي في الحياة القراءة. في ذلك الزمن الجميل عشت عملية الإندماج بيني وبين الكتب. قرأت نحو ألفي كتاب من الأدب الروسي إلى الهندي والأميركي والفرنسي والإنكليزي والإيطالي وطبعاً العربي. القراءة أخذتني إلى وعي مختلف للحياة. قبل ذلك كنت مؤمناً إلى درجة جنونية وغير طبيعية. بطبيعتي أنا متطرِّف في حياتي. وأعتقد أنّ السبب طفولة معذّبة بالفقر واستجداء العطف والأمان. كنت أنا الماروني أعترف وأتناول كل يوم في صيدا وعند الكاثوليك، واستلمت تنظيماً مسيحياً هو الشبيبة الطالبة المسيحية (JEC). وكانت تضم نحو 350 منتسباً وكان يشرف عليها الأب سليم غزال (صار مطراناً لاحقا). وكنت أعمل لهم إجتماعات وخلوات في دير المخلص قرب جون.
+ ما الذي نقلك إلى الجو المعاكس؟
– ما حدا. القراءات. لا بيئة ولا أي إنسان. لا يمكن لأحد أن يقول أنّه وراء انتسابي إلى الحزب الشيوعي. أنا رحت وفتّشت عن الحزب وعن الشيوعيين. كنت أهرب من الواقع المعاش وأعيش عالماً إفتراضياً مستعاراً من الكتب. أعجبتني اليوتوبيا الشيوعية ولكن إلغاءها للفرد لم يكن محتملاً فجمّلتها بالوجودية، وهو توفيق غير موفق.
+ اين بحثت؟
– في الجامعة (اللبنانية). صرت أسال عنهم: مين في شيوعي بالجامعة؟ هل هناك مسؤول عن الطلاب؟ قالوا لي يوجد واحد. لن أقول اسمه. أعتقد أنّه توفي. جلست معه. وجدت أنّه لا يفهم ولا يعرف شيئاً. لا ثقافة ولا قراءات. يعرف كلمتين عن الماركسية. أخذت قراراً: «ما بقا بدّي فوت عالحزب». تأخّرت سنة. كان ذلك سنة 1970. أنا كنت نزلت إلى بيروت عام 1968 – 1969. وتعرفت إلى كل التيارات بما فيها القوميون السوريون. عملت حواراً مع هنري حاماتي أحد كتاب ومفكري الحزب القومي. أخذوني لعنده وكان يسكن قرب مرفأ بيروت. جلسنا نحو ساعتين. لم يستطع أن يقنعني.
كنت مولعاً بالفلسفة. نيتشه وكانت وشوبنهاور وسبينوزا وآدم سميث وديكارت… أهم واحد بالنسبة إلي كان نيتشه. لا أزال مولعاً به. عندما كوّنت قناعاتي، ذهبت إلى الأب سليم غزال وقلت له «أريد أن أترك الشبيبة الطالبة المسيحية». سألني: «لماذا؟». قلت له: «لأنني لم أعد مؤمناً». قال لي: «خلينا نحكي». قلت له: «منحكي». حكينا. قلت له: «هذه الأسئلة التي تسألني إياها طرحتها على نفسي وكوّنت قناعاتي وانتهيت. الإيمان نعمة لا برهان. لهذا السبب أعيد إليك مفاتيح المركز». قال لي: «دخلت النفق المظلم». بعد حرب إقليم الخروب والشوف عام 1985 عدت والتقيت به. قلت له: «الله يلعن هذا النفق المظلم كم كان طويلاً». صرت أكثر ميلاً إلى الفلسفة المادية ولا أزال في التفكير نفسه. ولكن ليس عندي موقف من الإيمان. ولكنني متمسك بالوعي الفردي كتجاوز للوعي الجماعي.
+ ذهبت إلى الحزب الشيوعي كملحد أم كموقف سياسي؟
– أبداً. لم يكن عندي موقف من موضوع الإلحاد ومن الإيمان. لم يسألني أحد عن هذا الموضوع ولا أنا سألت أحداً.
في مواجهة احتلالين
+ كان الحزب تابعاً عملياً للإتحاد السوفياتي؟
– أكيد. كان تابعاً. ومن دون أن تسأل.
+ أنت لم تسأل؟
– بلى سألت. هذه أحزاب إيديولوجية وتعتبر فروعاً للمركز في موسكو.
+ وقتها كنت تعرّفت إلى جورج حاوي؟
– كلا. منذ دخلت إلى الحزب كان بُعدي طلابياً ثقافياً. صرت مسؤولاً عن الطلاب في الجامعة اللبنانية. كان التنظيم الطلابي الشيوعي أكبر منظمة حزبية في الجامعة. أكبر من الكتائب واليسار الثاني.
+ كيف صرت مسؤولاً عسكرياً؟
– خلال الحرب.
+ عملت دورات عسكرية قبل 1975؟
– كلا. كنت حملت السلاح سنة 1973 بعد اغتيال إسرائيل قادة «فتح» في فردان في 10 نيسان ثم اندلاع اشتباكات في 3 أيار بين الجيش اللبناني والفلسطينيين. ولكن في الحقيقة كنت مرعوباً من السلاح ومن رؤية الحربة على فوهة بندقية السمينوف. كنت في إيطاليا عندما اندلعت جولة القتال بعد السبت الأسود مطلع العام 1976. كنا نحضر احتفال الحزب الشيوعي الإيطالي بدعوة رسمية وكنت موفداً من الحزب ولم أكن بعد عضواً في المكتب السياسي. كان لا يزال نقولا الشاوي أميناً عاما للحزب. جورج حاوي كان نائبه منذ 1972 وصار أمينا عاماً عام 1979.
وأنا دخلت إلى المكتب السياسي أواخر عام 1979. وقد عرض عليّ لاحقاً أن أكون نائبه. كنت صرت مسؤولاً عسكرياً في الحزب. كنّا معاً في السيارة على طريق ضهر البيدر متوجهين إلى البقاع. وكان هناك خلاف داخل المكتب السياسي. بعد الإجتياح الإسرائيلي عام 1982، بذلنا جهوداً كبيرة حتى نحوّل الحزب إلى حزب مقاومة سرّية. قلت له «يجب أن يبقى سرّياً لأنّنا في مواجهة احتلالين سوري وإسرائيلي». قال لي: «هذا كلام خطير».
كلمة احتلال كانت مرفوضة. المسموح وجود سوري. كنّا طالعين من بيروت وذاهبين إلى الفرزل عام 1984. كان على اطلاع على موقفي. أوقف السيارة وسألني: «شو اللي مش عاجبك بالحزب؟ هل تريد أن نغيِّر السكريتاريا؟» أي القيادة المصغّرة. قلت له: «لماذا تسأل؟ لا مشكلة عندي مع أحد في الحزب». سألني: «هل تقبل أن تكون نائبا للأمين العام؟». قلت له: «لا أعمل في الحزب إلا ما أعمله اليوم. والرفاق أحسن مني وأكفأ مني. أنا مختلف معك في السياسة ولست مختلفاً معك لا في الموقع ولا في التنظيم ولا في أي شيء آخر. أشتغل في الزبالة، ولكن غيّروا الخط السياسي». كنت أعرفه منذ العام 1971. وكنا نلتقي في مركز الحزب. لم يكن أميناً عاماً ولكنه كان كأنّه الأمين العام. نقولا الشاوي عرض أكثر من مرة أمامي «اعملوا المؤتمر العام وخلّصوني». كنت وقتها نائب خليل الدبس مسؤول التنظيم عام 1977.
+ ماذا يعني مسؤول التنظيم؟
– كان بمثابة الرجل الثاني في الحزب عملياً. مسؤول عن تنظيم كل الهيئات في الحزب في المناطق والمحافظات. يحضّر الإجتماعات وينقل أجواء التنظيم ويعالج المشاكل على الأرض.
الرجل القوي في الحزب
+ كان جورج حاوي الرجل القوي في الحزب؟
– كان الرجل الأقوى منذ العام 1968، وربما 1964.
+ كريم مروة؟ جورج بطل؟ نديم عبد الصمد…؟
– لا لا. لم يكن هناك رقم 2 في الحزب.
+ كان فقط نقولا الشاوي وجورج حاوي؟
– حتى نقولا الشاوي لم يكن الرقم 2. عمل جورج معركة التغيير في المؤتمر العام عام 1968 ثم عام 1972. لم أحضر هذا المؤتمر. تغيّبت. كان بعدني جديد بالحزب. في هذا المؤتمر انتُخب حاوي نائباً للأمين العام وكان ذلك لأنّه الرجل الأقوى. سنة 1968 أخرجوا القدامى. كان الحزب موحّداً مع الحزب الشيوعي السوري برئاسة خالد بكداش ثم حصل الإنفصال. وكان حاوي يريد أن يُلَبنِن الحزب. وهو لبنَنَه فعلاً. معه أخذ الحزب كيانيته.