ببزة خضراء يرتديها قادة الجيش والثوريون، وقف الحاكم الفعلي الجديد لسوريا، أحمد الشرع، الذي لطالما عرف باسم أبو محمد الجولاني، مخاطبا حشدا من المصلين في الجامع الأموي بدمشق من أجل إعلان “النصر”، في مشهد يعكس تحولا جذريا في صورة الرجل الذي سبق أن عرضت واشنطن ملايين الدولارات للقبض عليه.
بات قائد “هيئة تحرير الشام” يستخدم اسمه الحقيقي بعدما وصلت قواته إلى دمشق وهروب الأسد، ليصبح على الأقل بحكم الأمر الواقع الآن، قائدا لنحو 23 مليون سوري، في أعقاب رحلة استمرت نحو عقدين في الجماعات المسلحة.
خلال تلك الفترة، تحول تدريجيا من قائد إسلامي متشدد يرتدي العباءة التقليدية التي تفوح منها رائحة “المجد الإسلامي”، إلى قائد لايزال محتفظا بلحيته لكنه يرتدي ملابس غربية نوعا ما، وبزة عسكرية تشبه تلك التي يرتديها الرئيس الأوكراني الذي تخوض بلاده حربا مع روسيا.
هذا المظهر المتطور يلخص رحلة الشرع من كنف الجماعات المتشددة التي تعمل في الخفاء، إلى السلطة الفعلية في العلن، وإجراء المقابلات الإعلامية، وآخرها مع “سي أن أن”، التي تحدث خلالها عن رؤيته لسوريا الجديدة المعتدلة “التي تستوعب الجميع تحت مظلة واحدة”.
بدأت رحلة الشرع، الذي كان ملقبا بأبو محمد الجولاني، في العمل المسلح في عام 2003 عندما عبر الحدود إلى العراق لمحاربة الأميركيين، حيث انضم إلى تنظيم “القاعدة” بقيادة مصعب الزرقاوي، وانتهى به المطاف هناك إلى السجن خمس سنوات، وبعدها عاد إلى سوريا لخوض معركة جديدة، هي القتال ضد بشار الأسد.
في سوريا، أسس الجولاني “جبهة النصرة” التي أعلنت الولاء لتنظيم القاعدة، وفي 2013، صنفته الولايات المتحدة “إرهابيا”، وقالت إن تنظيم “القاعدة” في العراق كلفه إطاحة حكم الأسد، وفرض الشريعة الإسلامية في سوريا، وإن “جبهة النصرة” نفذت هجمات انتحارية قتلت مدنيين وتبنت رؤية طائفية.
أجرى الجولاني أول مقابلة إعلامية له، في 2013، وكانت مع قناة “الجزيرة” لكن ظهر وجهه ملفوفا بوشاح ولم يظهر للكاميرا سوى ظهره. وفي حديثه وقتها، دعا إلى إدارة سوريا وفقا للشريعة الإسلامية.
وفي عام 2016، ظهر بالعباءة التقليدية، وألقى خطابا من مكان غير معلوم، للإعلان عن فك ارتباطه بالقاعدة، وكانت تلك أول مرة يظهر فيها وجهه.
تحولت “جبهة النصرة” إلى “هيئة تحرير الشام” وتغيرت مهمتها إلى حكم الملايين في محافظة إدلب في شمال غرب سوريا.
على الرغم من الانفصال عن “القاعدة” وتغيير الاسم، ظلت “هيئة تحرير الشام” مصنفة “إرهابية” في الأمم المتحدة والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ودول أخرى، ورصدت الولايات المتحدة مكافأة قدرها 10 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى القبض عليه.
لكن الجماعة أصبحت تحكم فعليا شمال إدلب، بعد أن تخلصت من معظم منافسيها، وعزز الجولاني سلطته بدمج الزعماء الدينيين والسياسيين المحليين.
وفي إدلب، أنشأ حكومة أشرفت على التعليم والصحة وإعادة الإعمار، وشوهد ببنطال وقميص، أثناء زيارة لمعرض للكتاب والفنون والثقافة في إدلب وتفقد أحوال الناجين من كارثة الزلزال، في 2022، وأشرف على جهود الإغاثة.
بعدعا ظهر الجولاني، الذي بدا ساعيا لتغيير صورته، في مقابلة مع برنامج “فرونت لاين” على محطة “بي بي أس” الأميركية، في 2021، مرتديا قميصا تقليديا على الطريقة الغربية، ووصف تصنيفه إرهابيا بأنه “غير عادل” وشرح بالتفصيل كيف توسعت جماعته من ستة رجال رافقوه من العراق إلى 5 آلاف في غضون عام، لكنه اعتبر أن جماعته لم تشكل أبدا تهديدا للغرب.
صباح الأحد الماضي، دخل الجولاني بلحيته التقليدية وبزي عسكري أخضر المسجد الأموي في دمشق، ليعلن أن سقوط الأسد “انتصار للأمة الإسلامية” ويدعو إلى مرحلة جديدة.
والاثنين، أعلنت الفصائل المعارضة أن الجولاني بحث مع رئيس الحكومة السورية، محمد الجلالي، “تنسيق انتقال السلطة”، فيما تم تكليف رئيس حكومة الإنقاذ في إدلب، محمد البشير، لتولي رئاسة حكومة انتقالية في سوريا.
وبعدما أصبحت “هيئة تحرير الشام”، في صدارة المشهد السوري، طرحت تساؤلات ملحة عن كيفية تعامل الولايات المتحدة مع الحركة، التي تصنفها واشنطن “إرهابية”، وكذلك زعيمها الذي وضعته من قبل على لائحة الإرهاب.
وبعدما بات في الحكم، يبدو أن المواقف بدأت تتغير في العواصم الغربية إزاء “إرهابي” عرضت الملايين للقبض عليه، لكنه أيضا الزعيم الفعلي لسوريا.
وقال الرئيس الأميركي، جو بايدن، في تصريحات، الأحد، “سنبقى يقظين”، في إشارة إلى أن “بعض جماعات التمرد لديها سجل في الإرهاب”. وأضاف: “نتابع تصريحات القادة السوريين الجدد، وهي تبدو جيدة حتى الساعة ونراقب أفعالهم أيضا”.
والاثنين، أكد مسؤولان من فرنسا وألمانيا، أن معاملة “هيئة تحرير الشام للأقليات في سوريا ستحدد موقف باريس وبرلين منها.
وكشف وزير شؤون مجلس الوزراء البريطاني، بات مكفادن، أن بلاده قد تدرس رفع الحظر عن الجماعة.
ولم يستبعد مسؤول أميركي، تحدث مع صحيفة واشنطن بوست أن تقدم واشنطن على إزالة هذا التصنيف. وقال المسؤول الذي لم تكشف الصحيفة عن هويته ردا على سؤال ما إذا كانت الإدارة الأميركية ستزيل التصنيف: “يتعين علينا أن نكون أذكياء.. وأن نكون أيضا واعين جدا وعمليين بشأن الحقائق على الأرض”.
وتلفت صحيفة الغارديان إلى أن “هيئة تحرير الشام” عرضت، عندما استولت على حلب الشهر الماضي، العفو عن جنود النظام السابق، وطرقت أبواب المسيحيين لطمأنتهم بأنهم لن يتعرضوا للأذى، وأرسلت رسالة إلى الأكراد مفادها أن “التنوع قوة نفخر بها”.
الشرع نفسه قاد هذه الجهود الدبلوماسية الشعبية لكسب الزعماء المحليين وبالتالي تأمين المدن الرئيسية للمتمردين دون خسارة.
والخميس، الذي سبق الوصول إلى دمشق، أجرى مقابة مع “سي أن أن” قالت إنها جرت في وضح النهار ومع قليل من الاحتياطات الأمنية، وأشارت إلى أن الجولاني “الذي عمل في الظل، أظهر خلالها الثقة وحاول أن يبرز إيمانه بالحداثة”.
وتقول إنه بدأ يعمل كشخصية سياسة أكثر من كونه شخصا إرهابيا مطلوبا، ووصفت المقابلة بأنها “تحول جذري” عن الخطاب المتشدد الذي استخدمه خلال أول مقابلة تلفزيونية له على الإطلاق عام 2013.
وعرض الشرع، الذي استخدم اسمه الحقيقي لأول مرة، في المقابلة الجديدة رؤية مختلفة لبلد مزقته الحرب، محاولا في الوقت ذاته إبعاد نفسه عن وصم الجماعات الإرهابية، وقال: “الناس الذين يخشون الحكم الإسلامي إما أنهم رأوا تطبيقاً غير صحيح له أو لا يفهمونه بشكل صحيح”،
وحاول طمأنة الأقليتين العلوية والمسيحية في سوريا قائلا: “لقد تعايشت هذه الطوائف في هذه المنطقة لمئات السنين، ولا يحق لأحد القضاء عليها”.
وقال ملمحا إلى وصوله إلى مرحلة من النضج السياسي: “الشخص في العشرينيات من عمره له شخصية مختلفة عن شخص في الثلاثينيات أو الأربعينيات، وبالتأكيد شخص في الخمسينيات من عمره”.