في لبنان، يمكن أن تكون أي نقطة ساخنة على البحر الأبيض المتوسط مكلفة للإقامة فيها. وقد تكلف الرحلة التي تستغرق 4 ساعات من دبي، المركز المالي في المنطقة، 1000 دولار في كل اتجاه.
ويدفع المصطافون أكثر من 450 دولاراً لغرف الفنادق، و100 دولار لأطباق السمك المشوي. يمكن أن تكلف تذاكر الدخول اليومية إلى نوادي الشاطئ 25% متوسط الأجور الشهرية للمواطنين اللبنانيين، ومع ذلك فإن هذه النوادي مكتظة. وعندما اتصل أحد المقامرين بمكان شهير للحجز في اللحظة الأخيرة في شهر يوليو/تموز، سأله موظف الاستقبال المذهول عما إذا كان يقصد شهر يوليو 2024، كما يقول تقرير لمجلة Economist.
وهذه ليست الريفييرا الفرنسية أو جزيرة ميكونوس في اليونان. إنه لبنان، حيث دفعت الأزمة المالية البلاد إلى واحدة من أسوأ حالات الكساد في التاريخ الحديث. ومنذ عام 2019، فقدت العملة 98% من قيمتها وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 40%. وتجاوز معدل التضخم السنوي 100% منذ يوليو/تموز 2020. وتحاول البلاد الحصول على خطة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي.
كيف يشهد لبنان طفرة سياحية منفصلة عن واقع الحياة اليومية؟
تقول مجلة الإيكونومست إن الأزمة الاقتصادية الطاحنة لم تمنع ملهى “سكاي بار”، الشهير في بيروت، من إعادة افتتاحه هذا الصيف بعد توقف دام ثلاث سنوات. ويحتسي رواد الحفلات في هذا الملهى الكوكتيلات الغريبة الباهظة ويرقصون طوال الليل على سطح مشتعل بالنيون، في حين أن الدولة في الشوارع بالأسفل لا تستطيع تحمل تكاليف إبقاء أضواء الشوارع مضاءة. وقال أحد الكوميديين في الملهى ساخراً: “إن شاء الله، صندوق النقد الدولي ما يشوف ستورياتنا على إنستغرام”.
ويتوقع وليد نصار، وزير السياحة، استقبال مليونَي زائر هذا الصيف، وهو ما يعادل 40% من سكان لبنان. سيكون معظمهم من المغتربين اللبنانيين الذين يعتبرون رحلة الصيف إلى الوطن تقليداً عزيزاً بالنسبة لهم. واعتماداً على من تسأل، فإن زياراتهم إما أن تكون بمثابة دفعة مطلوبة بشدة للاقتصاد المدمر، أو تذكير بالمشاكل التي دمرته في المقام الأول.
لماذا يشهد لبنان أزمات اقتصادية رغم موقعه المميز؟
تنبع الأزمة من مفهوم “مخطط بونزي” الذي استمر لسنوات يديره البنك المركزي اللبناني، والذي اقترض الدولارات من البنوك بأسعار فائدة مرتفعة لتمويل العجز المزدوج الضخم والحفاظ على ربط العملة. وبحلول عام 2019، لم تعد هناك ودائع جديدة كافية لدعمها. وأغلقت البنوك أبوابها لأسابيع، ثم فرضت ضوابط تعسفية على رأس المال، حتى تعثرت البلاد بالكامل في عام 2020.
لقد مرت سنوات من الجنون النقدي في لبنان. وكانت الليرة مربوطة منذ عام 1997 عند 1500 دولار، لكن السعر الرسمي سرعان ما أصبح غير ذي صلة. وتم تقديم أسعار شبه رسمية مختلفة للإعانات والبنوك، في حين انخفض سعر السوق السوداء بشكل مطرد. يوجد في لبنان 18 طائفة دينية معترفاً بها رسمياً؛ لبعض الوقت، قال الناس مازحين، كان لديها 18 سعر صرف مختلفاً أيضاً.
وهذا جعلها وجهة رخيصة للزوار الأجانب. قبل صيفين، على سبيل المثال، سمح نظام الدعم لمستوردي المواد الغذائية بشراء الدولار مقابل 3900 ليرة، في حين كان سعر الصرف في الشارع حوالي 20 ألف ليرة. وعندما أجرى مراسل مجلة الإيكونومست بعض الاتصالات لتناول وجبة غداء على شاطئ البحر، وصلت الفاتورة إلى 765 ألف ليرة، أي أكثر من الحد الأدنى للأجور الشهري في لبنان: 196 دولاراً بسعر دعم الغذاء، ولكن 39 دولاراً فقط مع تغير الدولار في السوق السوداء.
الأسعار لحقت بالواقع. وأوقفت الحكومة معظم الدعم؛ لأنها لم تعد قادرة على تحمله. ورفع سعر الصرف الرسمي إلى 15 ألفاً، وهو ما يعني زيادة الرسوم الجمركية عشرة أضعاف. وارتفع سعر منفصل يعرف باسم صيرفة، يستخدم لمجموعة واسعة من المعاملات، إلى أكثر من 80 ألفاً. فيما تحولت أجزاء من الاقتصاد اللبناني إلى الدولار، وغالباً ما يتم إدراج أسعار المطاعم بالدولار الأمريكي بالفعل.
اللبنانيون لا يستطيعون تغطية نفاقاتهم اليومية
هذا التضخم جعل من الصعب على معظم اللبنانيين تغطية نفقاتهم. الأسعار تبدو أعلى من أي وقت مضى. وارتفعت تكلفة سلة المواد الغذائية الأساسية بأكثر من 1700% منذ عام 2019. ونصف الأسر اللبنانية لا تستطيع تحمل ما يكفي من الطعام، ناهيك عن قضاء عطلة.
ومع وصول معدل البطالة إلى 30%، تعد السياحة أحد القطاعات القليلة التي تخلق فرص العمل. ويقدر نصار أن السياح سينفقون 9 مليارات دولار هذا العام، وهو مبلغ يعادل 41% من الناتج المحلي الإجمالي للبنان المنكمش. ومع ذلك، لا يتدفق سوى القليل من الأموال. قد يكسب النوادل في المطاعم ما لا يقل عن 150-200 دولار شهرياً.
“المرض الهولندي”
في عام 1977، ظهر مصطلح “المرض الهولندي” الذي نحتته مجلة الإيكونومست نفسها، لوصف كيف يمكن للثروة السلعية أن تلحق الضرر باقتصاد الدولة. ويعرف هذا المرض الذي أصاب هولندا سابقاً وقد يصيب لبنان الآن في علم الاقتصاد، بأنه العلاقة الظاهرة بين ازدهار التنمية الاقتصادية بسبب وفرة الموارد الطبيعية وانخفاض قطاع الصناعات التحويلية.
ولا يملك لبنان مثل هذه الموارد (على الرغم من أن الشركات الأجنبية تستنشق الغاز الطبيعي قبالة ساحل البحر الأبيض المتوسط). ما لديها هو الشتات المترامي الأطراف. وهذا يسبب تشوهات خاصة به: أطلق عليها “المشكلة الفينيقية”.
وعلى مدى عقود من الزمن، سمحت أموال المغتربين للبنان بإدارة واحد من أعلى مستويات العجز في الحساب الجاري في العالم (بلغ 26% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014). كان الاقتصاد غير منتج، لكن الربط سمح للعديد من اللبنانيين بأن يشعروا وكأنهم يعيشون في بلد متوسط الدخل، يشترون العلامات التجارية المستوردة ويحجزون عطلات أجنبية. وكانت الدولة التي يبلغ معدل البطالة فيها رقماً مزدوجاً، كان بها 400 ألف عامل مهاجر يضخون البنزين وينظفون المنازل، ولم يكن أي من هذا مستداماً.
ورغم أن المغتربين توقفوا عن تخزين أموالهم في بنوك لبنان المفلسة، فإن التحويلات المالية السنوية تعادل الآن نسبة مذهلة تبلغ 38% من الناتج المحلي الإجمالي . وهذا يكفي لإبقاء البلاد تترنح. لكن هذه التدفقات لا تدعم إلا القليل من الاستثمارات العامة أو الخاصة. وبدلاً من ذلك، فإنها تتدفق عائدة إلى الخارج، لتمويل الاستهلاك في اقتصاد لا يزال يعتمد بشكل كبير على الواردات. أي مثل اندفاع السكر للجسم: كوب من الآيس كريم في يوم صيفي حار، تستمتع به لفترة وجيزة، ولكن سرعان ما يُنسى.