تشير التطورات الأخيرة إلى تحوّل كبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط، وينعكس ذلك في واشنطن لاسيما لجهة إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض. وقد أولت إعادة انخراط الرئيس دونالد ترامب في المنطقة بقوة خلال عام 2025، والتي تُوجت الشهر الماضي بجولته في الشرق الأوسط، الأولوية للاستثمار الاقتصادي والتعاون الأمني والتحالفات الدبلوماسية الجديدة، بما في ذلك الاتفاق النووي المحتمل مع إيران.
ويتم بعيداً عن الأنظار إعادة تنظيم مجلس الأمن القومي لتبسيط عملية صنع القرار وتمكين شخصيات مثل وزير الخارجية ماركو روبيو والموفدين الرئاسيين لاسيما سيتف ويتكوف وتوم براك ومسعد بولس أن يدفعوا باتجاه خيارات سياسية عملية واستجابات تنظيمية أسرع.
والجدير بالذكر أن الإطار الذي يسعى ترامب إلى تثبيته لمجلس الأمن القومي يسمح بمزيد من المشاركة، وبعملية سياسية أكثر تركيزاً على النتائج، مما قد يُسرّع من وتيرة التحولات في السياسة الخارجية الأميركية.
هذا التغيير الجذري الجيوسياسي الأميركي في الشرق الأوسط بدأ ينعكس على لبنان في أروقة الإدارة الأميركية. فالاهتمام بالملف اللبناني بدأ بالتراجع، فيما بيروت تقف عند مفترق طرق حاسم مليء بصراعات النفوذ الإقليمية والدولية. ورغم أن وقف إطلاق النار المستمر منذ ستة أشهر بين إسرائيل و”حزب الله” هدّأ من التوترات على الجبهة الجنوبية، إلا أن الظروف التي تحكم وقف إطلاق النار هذا لا تزال هشة. ولا يخفى على أحد التململ الأميركي من الخطوات “البطيئة جدًا” التي تقوم بها بيروت لجهة نزع سلاح “حزب الله”، أو لجهة إنجاز الإصلاحات التي لا تزال تصطدم بالزبائنية والمصالح الحزبية الضيقة، مما يزيد الوضع تعقيداً. وقد أشارت المصادر أن واشنطن تريد من المسؤولين اللبنانيين “To walk the walk, not only talk the talk”، أي أنها تتطلع لأن تتحرك الحكومة اللبنانية باتجاه تذليل هذه التحديات، وليس فقط الحديث عنها.
ويؤكد الخبراء على الدور المزدوج للبنان كنقطة ضغط وساحة معركة للاستراتيجيات الجيوسياسية المتنافسة. فلبنان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنافسات الإقليمية والتدخلات الأجنبية، ومستقبله مُعلّق في الميزان. وفيما يراهن عدد من اللبنانيين إيجابياً على تداعيات نجاح الاتفاق الأميركي الإيراني. يلفت الخبراء إلى أن المراهنة على كسب الوقت ليست في صالح اللبنانيين، فعقارب الساعة لن تعود إلى الوراء، وهذا يعني بوضوح أن “إضفاء دور شرعي إيراني على لبنان يُعزز من مكانة “حزب الله” من جديد كلاعب إقليمي قد سقطت”. وحسب المصادر الأميركية، فإن الدور الإيراني يمكن أن يُعقّد استقرار لبنان الهش ليس إلا.
في المقابل، يلفت مصدر أميركي إلى أن غياب الشخصيات المتشددة والمؤيدة لإسرائيل في مجلس الأمن القومي قد يلعب على تناقضات السياسة الأميركية، لكن عندما يتعلق الأمر بملف نزع سلاح “حزب الله” فإن هناك إجماعاً على أن هذا الملف “ثابت وأولوية ملزمة” لتعزيز الاستقرار الأمني والاجتماعي والاقتصادي في لبنان.
وتشير المصادر إلى أن حملة الضغط الأميركية ستتكثف لتسريع نزع سلاح “حزب الله”، رغم مخاوف بعض الخبراء من أنه من غير المرجح أن ينزع الحزب سلاحه دون حوافز كبيرة. من هنا تلفت المصادر إلى سعي باريس لتسهيل تقديم بعض المساعدات والقروض لإعادة الاعمار كـ Bonus لاستكمال نزع سلاح الحزب جنوبي نهر الليطاني.
غير أن المملكة العربية السعودية والدول العربية “المانحة” الأخرى ترفض هذا الإجراء من أساسه وتصر على استكمال نزع السلاح غير الشرعي من كامل الأراضي اللبنانية قبل المبادرة إلى ملف إعادة الإعمار. وهو ما تتفق عليه الرياض مع واشنطن. من هنا تستخدم الولايات المتحدة أدواتها الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية للضغط من أجل إنجاز الإصلاحات ونزع سلاح “حزب الله” لتؤكد ان الاستقرار والمساعدات وإعادة الإعمار مشروطة بتحقيق تقدم ملموس – وليس مجرد وعود – نحو معالجة تحديات لبنان المتجذرة.
باختصار، إن إعادة تقييم السياسة الخارجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط، والتغييرات في بعض هيكلية وشخصيات الإدارة الأميركية هي عوامل تُشكل مخاطر وفرصاً للبنان. وسيكون الاختبار الرئيسي هو ما إذا كان المسؤولون اللبنانيون قادرين على تجاوز الخطابة وتنفيذ الإصلاحات والضمانات الأمنية التي تطالب بها واشنطن وحلفاؤها الآن.