“طوال حياتي كانت لدي فكرة معينة عن فرنسا، مثل أميرة القصص الخيالية أو مادونا في اللوحات الجدارية على الجدران، محكومٌ عليها بمصير بارز واستثنائي، أشعر غريزيًا أن العناية الإلهية خلقتها لتحقيق نجاحات كاملة أو مصائب نموذجية”، بهذه الكلمات وصف الجنرال الفرنسي شارل ديغول فرنسا.
وأضاف في مذكراته أنه على الرغم من ذلك، “إذا حدث وأشارت العلامات المتوسطة إلى أفعالها وإيماءاتها فإنني أشعر بشذوذ سخيف، يعزى إلى أخطاء الفرنسيين وليس إلى عبقرية الوطن الأم”.
ففي أواخر عام 1946، أقام شارل ديغول في قرية صغيرة بمقاطعة كولومبي ليدوكس شمال شرقي فرنسا معتزلًا العمل السياسي حيث تفرغ لكتابة مذكراته.
وعلى طريقة القادة الكبار الذين شاركوا في الحرب العامية الثانية مثل تشرشل وأيزنهاور ومونتغمري، خطّ ديغول فصول مذكراته عن سنوات الحرب ولم يكن يعرف وقتها أن دوره السياسي لم ينته كما خيل له.
إذ سيعود الجنرال مرة أخرى للسياسة التي قرر اعتزالها ليؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة، وليكمل فصول مذكراته لما بعد الحرب العالمية الثانية.
والمذكرات التي صدرت في 4 أجزاء هي: النفير، والوحدة، والخلاص، والأمل، وفيها تظهر شخصية ديغول الذي أحب فرنسا حبًا صوفيًا امتزاج بوجدانه واعتبرها جزءًا من روحه، فخصها بأول جملة من سيرته وأطلق مقولته الشهيرة “أنا فرنسا وفرنسا أنا”.
أكثر من مذكرات
ويرى المؤرخ الفرنسي هنري لورنس أن كتابات ديغول ليست مجرد مذكرات تروي الأحداث، إذ عمل الجنرال على صياغة مذكراته مرفقة بمستندات ومراسلات “وهنا تكمن قيمتها علاوةً على قيمتها الأدبية المتجلية بمشاعره وخوفه”.
ويردف لورنس أن المذكرات “تقدم نظرةً ثاقبةً حول الأشياء و منظورًا للأحداث وهو ما يشكل مساهمةً كبيرةً للتاريخ”.
بدوره، يستبعد أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة “8 ماي” أن يكون الجنرال ديغول قد تحدث في كتاباته عن كل شيء، معتبرًا أنه لم يتطرق إلى الجرائم المقترفة من طرف فرنسا خاصة في الجزائر عام 1945 حين قتلت القوات الفرنسية 45 ألف جزائري أعزل بأوامر منه، فضلًا عن الجرائم التي ارتكبت تحت سلطته بين أعوام 1958 و1962.
انكسار الجيوش الفرنسية
أما قصة ديغول وفرنسا فتبدأ مع انكسار الجيوش الفرنسية أمام الهجوم الألماني يوم التاسع من مايو/ أيار عام 1940، حيث كان الهجوم خاطفًا وغير متوقعًا فأربك كل الحسابات العسكرية الفرنسية التي كانت تعتقد أن الهجوم سيبدأ من جهتها الشرقية حيث حدودها مع ألمانيا.
وكانت فرنسا قد أنشأت وقتها خط دفاع قوي عرف بخط ماجينو نسبة لوزير الدفاع الفرنسي آنذاك، وكان سدًا حصينًا مدعومًا بالمدافع ومرابض الدبابات ومخزونٍ كبير من الأسلحة والذخائر.
إلا أن الهجوم الألماني بدأ من الشمال عن طريق بلجيكا وهولندا، وهو ما سبب إرباكًا كبيرًا للقوات الفرنسية لتصبح المدرعات الألمانية في غضون أيام قليلة تسابق بعضها في شمال وغرب فرنسا، مندفعةً إلى قلبها.
ودخلت القوات الألمانية باريس يوم 14 يونيو/ حزيران عام 1940، حيث وقع المارشال فيليب بيتان وثيقة استسلام فرنسا.
لكن شخصًا واحدًا رفض هذا الاتفاق، وكان الجنرال شارل ديغول نائب وزير الدفاع في وزارة بول رينو ومنسق العمليات على جبهة النورمندي بين الجيوش الفرنسية والجيوش البريطانية.
ويقول المؤرخ الفرنسي جيل مانسرون إن “ديغول عارض فكرة الهدنة مع الألمان وقبول الهزيمة. وعلى الرغم من أنه كان ينتمي لدائرة الجنرال بيتان لكنه اختار مسارًا مختلفًا عنه ففرّ من فرنسا إلى إنكلترا”.
“فرنسا الحرة”
وفي خطاب إذاعي بثته الـ”بي بي سي” يوم 18 يونيو 1940 قال ديغول في رسالة جريئة: “للفرنسيين الذين يريدون البقاء أحرارًا للإصغاء إلي واتباعي.. عاشت فرنسا حرة بشرف واستقلال”، ومن لندن قاد العماد الفرنسي حركة “فرنسا الحرة”.
وعن هذا اليوم كتب ديغول في مذكراته: “هل قلنا كلمتنا الأخيرة؟ هل علينا أن نفقد الأمل؟ هل الهزيمة نهائية؟ لا! فرنسا ليست وحدها هناك إمبراطورية شاسعة تدعمها ويمكن أن تتشارك قضيتها مع الإمبراطورية الفرنسية مهما حدث، لا ولن تنطفئ شعلة المقاومة الفرنسية”.
ويقول خيرالدين سعيدي الباحث في التاريخ بجامعة سطيف لـ”العربي”، إن ديغول أراد إظهار حكومة فيشي على أنها حكومة غير شرعية لاعتقاده بأن هذه الحكومة ستحاول إظهاره بمظهر الجندي العاصي.
وكان ديغول يبحث عن نقطة انطلاق لمشروعه نحو تحرير فرنسا، من خلال قوة عسكرية ولو محدودة ستفرض أمرًا واقعًا على الاحتلال النازي وتعيد لفرنسا هيبتها التي تراجعت بعد الهزيمة.
لذلك، طلب الجنرال ديغول من الفرنسيين التطوع في جيشه، فيما لمّح رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل إلى أن هذا الفرنسي ينبغي أن يتحول إلى رمز للمقاومة.
فقد كان تشرشل بحاجة إلى رجل فرنسي قادر على طمأنة البريطانيين إلى أنهم ليسوا معزولين كما يشعرون.
حول ذلك، يلفت لورنس في حديثه ضمن برنامج “مذكرات” إلى أن ديغول كان كما عبر دائمًا في مذكراته يحمل فكرة معينة عن فرنسا، والتي صورها كفردٍ هزم في سن الأربعين ولم يتقبل ذلك.
ويردف: “بالإضافة إلى ذلك كان لديه منظور عالمي عن الحرب، أي أنها لم تكن مجرد صراع فرنسي ألماني، بل انضمت بريطانيا العظمى ثم تبعتها دول أخرى تدريجيًا مما تسبب بتحول كبير في ميزان القوى”.
لكن في البدايات وتحديدًا عندما أسس “فرنسا الحرة” في لندن، لم يكن لها تأثير يذكر بحسب المؤرخ الفرنسي. لذلك عمل ديغول على بناء “فرنسا الحرة” تدريجيًا مستغلًا الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في إفريقيا والتي شكلت مصلحة عسكرية للبريطانيين.
توتر العلاقة بين ديغول وتشرتشل
وهكذا التقت مصالح الرجلين ديغول وتشرتشل لكن علاقتهما لم تخل من التوتر والشك، وعلى الرغم من أن ديغول عاش تحت حماية الإنكليز في سنوات الحرب العالمية الثانية إلا أنه لم يخف كراهيته لهم، لدرجة أن زوجة رئيس الوزراء البريطاني قالت له ذات يوم: “عزيزي الجنرال خفف من كراهيتك لأصدقائك”.
وبعد شهرٍ على خروجه من فرنسا، وجّه ديغول نداء إلى كل حكام المستعمرات الفرنسية للقبول بحركته، فاستجاب له الحكام العسكريون في تشاد، والكونغو الفرنسية، والكاميرون، ليقرر الجنرال الفرنسي زيارة هذه المستعمرات الثلاث.
ويذكر ديغول في مذكراته: “لم تعد فرنسا الحرة حين اقتربت من عامها الثاني في نظر العالم تلك الزمرة المثيرة للدهشة التي قوبلت أو أمرها بالسخرية والشفقة.. الآن أصبح الناس في كل مكان يواجهون واقعها السياسي والحربي ومجالات أراضيها”.
وتابع: “أصبح لزامًا عليها انطلاقًا من ذلك الواقع أن تنفذ إلى الصعيد الدبلوماسي وتحتل مكانتها بين الحلفاء، وتظهر فيها كفرنسا المحاربة ذات السيادة”.
لكن تشرشل كان قلقًا مما يفعله ديغول، إذ رأى أن “فرنسا الحرة” تحارب في معركة التحرير بعيدًا عن الميدان العسكري.
وفي مناقشة جرت بينهما في أكتوبر عام 1940، عبّر رئيس وزراء بريطانيا عن غضبه موجهًا حديثه لديغول قائلًا: “أنت تترك ميدان الحرب الحقيقي في أوروبا وفرنسا وتذهب إلى إفريقيا”.
فردّ عليه الجنرال: “الذهاب إلى إفريقيا رسالة سوف تفهمها فرنسا.. إن فرنسا الحرة لا تعض صديقًا لكنها لا تمانع أن يفهم من يهمه الأمر أن فرنسا ما زالت لها أسنان!”.
توسع الخلاف حول الشرق
وفي خضم ذلك، ظهرت مساحة جديدة في سوريا ولبنان قد تعرض قوات الحلفاء للخطر، وذلك عندما عرض المندوب السامي الفرنسي دانتس الموالي للنازية على القوات الألمانية استخدام القواعد الجوية السورية في مايو/ أيار عام 1941 .
وهنا تنبّهت بريطانيا للخطر سريعًا، حيث حذّرت مذكرة سرية بريطانية من أنه لن يكون من الممكن الدفاع عن مواقع بريطانيا في الشرق الأوسط، ما لم تخضع سوريا ولبنان لوصاية من دولة صديقة، أو مباشرة من بريطانيا.
وزادت الحاجة للسيطرة على تلك المناطق مع انقلاب رشيد عالي الكيلاني على السلطة في بغداد وميله إلى صف ألمانيا، وتقدم النازيين على الساحل الليبي.
فبدأ البريطانيون باحتلال سوريا ولبنان خلال شهري يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز عام 1941 متحالفين مع قوات “فرنسا الحرة” المعادية لنظام فيشي.
لكن الوجود البريطاني في سوريا ولبنان شهد نزاعًا عميقًا بين بريطانيا وديغول الذي كان مقتنعًا أن لندن تطمع بسوريا ولبنان، مستغلين السياسيين العرب الطامحين للاستقلال لتنفيذ مخططهم.
فاعتبر ديغول نفسه ممثل فرنسا الشرعي في سوريا ولبنان، لكنه في نفسه كان يتذرع أمام البريطانيين بأنه لا يملك شرعية اتخاذ قرار إلغاء الانتداب.
لكن في النهاية خرجت فرنسا من لبنان بعد ربع قرن، وبذلك يكون ديغول الذي وعد باستقلال لبنان قد أخر هدفه إلى سنة 1946.
هزيمة الألمان وعودة ديغول
أما عام 1944، فكان عامًا حاسمًا بعدما بدأت قوات الحلفاء سلسلة معارك بهدف استعادة فرنسا من يد الألمان، انتهت بهزيمة هيتلر وتراجع قواته، ودخول ديغول باريس المحررة بحراب الإنكليز والأميركيين في 25 أغسطس/ آب.
فتولى الجنرال الفرنسي رئاسة الحكومة المؤقتة التي شرعت في إجراء انتخابات، لتشكيل جمعية وطنية لوضع دستور جديد للبلاد.
التغافل عن مذابح الجزائر
لكن على الجانب الآخر كان الفرنسيون يرتكبون مجازر مروعة في الجزائر، بدأت يوم 8 مايو/ أيار 1945.
فقد قصف الطيران الفرنسي عددًا من القرى الجزائرية مسقطًا آلاف الضحايا، لكن ديغول لم يتطرق إلى هذه الفظائع في مذكراته التي لم يعطها فيها اهتمامًا يذكر.
وبعد اشتعال الثورة في الجزائر عام 1954، تحولت سريعًا إلى أزمة في السياسة الفرنسية مع تزايد تكاليف قمع الثورة، ووسط ترويج مسؤولين لفكرة وجوب تكليف ديغول بالسلطة لإنقاذ فرنسا، بعد اعتزال هذا الأخير السياسة.
فيذكر ديغول في كتاباته: “لم نكن هنا أمام وضع يقتضي حلًا وديًا إنما كنا أمام مأساة كاملة، لقد كانت الجزائر تحتل في حياتنا القومية أهمية لا مجال للموازنة بينها وبين بقية البلاد التي كانت تابعةً لنا”.
ومع تسلمه الرئاسة الفرنسية وبداية الجمهورية الخامسة، كان ديغول مقتنعًا أن الاحتفاظ بالسيادة الفرنسية على الجزائر بات رهانًا لم يبق لباريس فيه أي مكسب، فقال للجزائريين “أنا أتفهمكم”.
وحملت سياسة ديغول قدرًا من التناقض عما جاء في مذكراته، فرغم حديثه عن الخروج إلا أنه كان في نفس الوقت يخطط لإبقاء الجزائر تحت السيطرة الفرنسية تحت أي ثمن.
ويوم 18 مارس/ آذار 1962 عام وقع ديغول اتفاقية إيفان، التي نصّت على وقف إطلاق النار ووحدة الأرض الجزائري، وتنظيم استفتاء لتقرير المصير، قبل أن يعلن يوم 3 يوليو/ تموز استقلال الجزائر.