يجمع الاقتصاديون على أهمية إعادة تفعيل القطاع المصرفي لتحفيز الاقتصاد اللبناني المتعثر منذ الانهيار المالي الذي شهدته البلاد في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، إذ توقفت المصارف عن إعادة أموال المودعين بخاصة بالعملة الأجنبية، وكذلك توقفت غالبية الخدمات المصرفية والقروض والاستثمارات، الأمر الذي كانت له تداعيات سلبية على معظم القطاعات الاقتصادية.
وعلى رغم حجم الكارثة المالية التي صنفها البنك الدولي في يونيو (حزيران) 2021 بأنها ثالث أسوأ أزمة مالية في العالم خلال قرن، لم تكن المعالجات الحكومية ولا حتى الخطط الرسمية بمستوى الأزمة، إذ فشل المجلس النيابي بتشريع القوانين الملحة لمحاصرة الأزمة ولا سيما قانون تقييد الودائع (كابيتال كونترول)، وأيضاً لم تتوصل الحكومة الى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي اشترط سلسلة إصلاحات، فيما لم يقم القضاء اللبناني بالإجراءات القانونية لكشف ملابسات الانهيار وملاحقة المتورطين، لا سيما أن حجم الودائع تجاوز الـ 150 مليار دولار، فيما قدرت الفجوة المالية بنحو 73 مليار دولار.
ويضاف إلى ما ذكر أن حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، الذي أمضى ثلاثة عقود في حكم المصرف المركزي، تلاحقه اتهامات كبرى في الداخل كما في الخارج بالفساد والكسب غير المشروع، لكنه حرٌ طليق في لبنان من دون أية محاكمة أو محاسبة.
النيابة العامة تتحرك
وبعد مرور خمس سنوات على الكارثة المالية، كاد يدخل هذا الملف طي النسيان إسوة بالكثير من الملفات الكبرى في البلاد وعلى رأسها قضية تفجير مرفأ بيروت، لولا تحرك مفاجئ قام به المدعي العام التمييزي جمال الحجار بفتح ملف بنك “الاعتماد المصرفي” بشبهات ارتكاب جرائم تبييض أموال وتزوير واختلاس أموال عامة من المصرف المركزي.
بدأت القصة عندما تبين وجود فجوة في المصرف بقيمة 309 ملايين دولار “لولار” (11 في المئة من قيمة المبلغ الأساسي)، فاتخذ المصرف المركزي عبر رئيسة لجنة الرقابة على المصارف مايا دباغ قرار تعيين مدير موقت، مكان رئيس مجلس إدارة المصرف السابق طارق خليفة، بعد مداولة تقرير اللجنة الذي وردت فيه مخالفات جسيمة وصلت حد شبهة تبييض أموال واستغلال الأزمة المالية منذ سنوات من أجل التربح غير الشرعي.
تكشف مصادر قضائية أن الحجار واجه المصرف بقرائن حاسمة تدينه بشكل مباشر بالاتهامات الموجهة إليه، فعرض خليفة في المقابل تسوية تقضي بتسديد نحو 33 مليون دولار نقداً للمركزي عن قيمة العجز المالي، وذلك لحماية المصرف من الإفلاس وفي ذمته 1.8 مليار دولار من الودائع.
خليفة، الذي كانت صدرت بحقه مذكرة إحضار ومنع من السفر، نفى موكله القانوني كافة التهم الموجهة له، وشدد على أن الملف تتم معالجته تحت أحكام القانون صوناً لحقوق الجميع، وقال إن موكله يتعرض لحملة ممنهجة تهدف لزعزعة الثقة بالقضاء.
وفي دردشة مع الصحافيين، أكد الحجار المضي بملف المصارف والعمل على إعادة أموال المودعين، مشدداً على أنه سيتابع هذا الملف بعيداً من أي حسابات سياسية أو كيدية كما كان يحصل خلال المرحلة السابقة، انطلاقاً من ضرورة إعادة استقرار المصارف اللبنانية.
بنوك إضافية
وحول إذا ما ستقتصر الملاحقات القضائية على مصرف واحد أو ستتوسع لتشمل مصارف إضافية، تؤكد المصادر القضائية أن التحقيقات ستتوسع لتشمل أكثر من مصرف، كاشفة أن عدداً منها عمد إلى استغلال الفرق بين “اللولار” (وهي تسمية أطلقت على دولارات المودعين المحجوزة في المصارف والتي تم تسديدها بأقل من قيمتها الفعلية) والدولار للاستفادة بأساليب ملتوية، وكذلك تقاضي عمولات من العملاء والتزوير والاختلاس حتى قبل عام 2019.
وفي تفاصيل الارتكابات الجرمية التي يتم التحقيق فيها في “الاعتماد المصرفي” والتي قد تكون أيضاً مرتكبة في مصارف أخرى، أنه باع شيكات بـ “اللولار” واستخدمها من أجل زيادة رأسماله، وكذلك تبين في التدقيق الذي أجراه المدير الموقت وفريق عمله، أنه تم شراء مصرف في أرمينيا سجل خسارة كبيرة فاقت الـ 100 مليون دولار نتيجة تسليفات غير مستوفية الشروط، ما كان من “الاعتماد المصرفي” إلا أن حول 70 مليون دولار إلى أرمينيا، وهي من المرجح أن تكون قد دفعت من أموال المودعين.
توسع في التحقيقات
الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب، رأى أن مدعي عام التمييز القاضي جمال الحجار قرر فتح ملف المصارف بشكل واسع، وقد بدأ فعلياً مع بنك “الاعتماد المصرفي” باستدعاء رئيس مجلس إدارته السابق إلى التحقيق، وإجباره على المصالحة مع مصرف لبنان لتسديد الفرق الذي يعود إلى أموال المودعين، وأيضاً طلب حجار من هيئة التحقيق الخاصة إيداعه تقارير من مصرف لبنان ومستندات تتعلق بحسابات المصارف، وتسلمها بالفعل، وبدأ التحقيق بشأنها لمعرفة الفجوات الحاصلة والمخالفات الفاضحة التي ارتكبتها المصارف من تبيض واختلاس أموال تعود للمودعين.
ومع توسع التحقيقات القضائية في المصارف ومصرف لبنان، تبين قبل أيام وفق تقارير إعلامية أن 100 مليون دولار اختفت من المصرف المركزي، وهي صرفت ضمن ما سمي “حساب الاستشارات”، وسط شبهات باختلاس أموال عامة وتزوير داخل المركزي.
يكشف دياب في هذا الإطار أنه “من المتوقع أن تبدأ خلال أيام قليلة جلسات استجواب مع الذين وضعوا التقارير في مصرف لبنان ليصار بعدها الى استدعاء مدراء مصارف مشتبه في علاقتهم في عملية تبييض أموال”. وقال “مبلغ الـ 100 مليون دولار من غير المعروف كيف صرف في مصرف لبنان وهذا يتم التحقيق بشأنه لمعرفة أين ذهب”.
يعتبر دياب أن التحقيق اليوم لا يتعلق بأي اعتبارات أو غايات سياسية، بل هو تحقيق قضائي بحت يهدف لمعرفة أين اختفت أموال المودعين، وما إذا كانت هناك مصارف مشتركة في عمليات الاختلاس هذه أو التزوير أو التبييض أو تهريب أموال إلى الخارج. وقال “نحن في بداية المسار القضائي لكن المعلومات تقول إن هذا الملف سيستكمل حتى النهاية، والقاضي الحجار على تواصل دائم مع هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان التي تزوده بكل التقارير والمعلومات التي يطلبها في هذا الخصوص”.
ملفان كبيران
من جانبها، لفتت الصحافيّة المتخصصة في الشأن القضائي فرح منصور، إلى أن الحجار يعمل حالياً على ملفين كبيرين، ملف شركة “أوبتيموم” (تأسست عام 2012 وتدور حولها شبهات بعد تلقيها عمولات كبيرة من المصرف المركزي) وملف بنك “الاعتماد المصرفي”، وقد باشر التحقيقات بعد تسلّمه وثائق ومستندات وصوراً من هيئة التحقيق الخاصة، التي حوّلت تقريراً شاملاً شرحت فيه التجاوزات المالية التي حصلت في المصرف، والذي دفع بالهيئة المصرفية العليا إلى التحرك وتعيين المصرفي محمد بعاصيري (الذي تولى سابقاً منصب نائب حاكم مصرف لبنان) كمدير موقت للتدقيق في الحسابات المصرفية وللتأكد من وجود عمليات اختلاس وتزوير في حسابات المودعين، خصوصاً أن لجنة الرقابة على المصارف أشارت في تقريرها إلى شكوكها في عمليات تبييض أموال جرت داخل المصرف وحققت أرباحاً غير مشروعة.
وفي ما يتعلق بملف “أوبتيموم”، أكدت منصور حصول الحجار على مستندات ووثائق من هيئة التحقيق الخاصة تتناول هذا الموضوع واطلع على تفاصيلها وسيباشر قريباً عمله بهذا الشأن، إذ يشتبه بعمليات فساد تقارب ثمانية مليارات دولار، لكن حتى الآن لم يصدر عنه أي قرار قضائي في هذا الخصوص بل يقتصر الأمر على الاستدعاءات فقط.
مسرحية قضائية
بدوره، يصف الصحافي الاقتصادي منير يونس ما سرب عن اختلاس 100 مليون دولار من مصرف لبنان، وهي تسريبات يقول إنها تأتي من البنك المركزي ومن القضاء المحلي، بأنها “مسرحية”، أولاً لأن هذا المبلغ وارد في تقرير شركة “ألفاريز أند مارسال” للتدقيق الجنائي عام 2023، بالتالي هذا التسريب ليس جديداً، حينها قالت شركة “ألفاريز” إن المركزي لم يزودها بجميع المعلومات ما يعني أن الـ 100 مليون هذه هي طرف خيط، بالتالي هي لا تُقارن بالمبالغ الفعلية التي “اختفت”.
ويعتبر يونس أن هناك ضغطاً إعلامياً شهدناه خلال الأشهر الماضية وركز على عمليات مالية بقيمة 8 مليارات دولار كشفتهم شركة “كرول” بعمليات مصرف لبنان مع شركة “أوبتيموم”، وهناك أيضاً مبلغ بقيمة 330 مليون في ما يسمى بقضية “شركة فوري” الذي توصل بشأنها القضاء الدولي إلى استنتاجات مهمة.
الواضح بحسب يونس أن هناك عملية تسريبات إعلامية لإبراء الذمة، وأتت نتيجة الضغوط الإعلامية التي تقول إن المركزي لا يتعامل بشفافية وإن القضاء المحلي لا يقوم بعمله كما يجب. ويقول “مصرف لبنان اليوم وبالتعاون مع القضاء يحاولان سحب الملفات المصرفية التي كانت تعمل عليها المدعي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضية غادة عون قبل كف يدها بقرار قضائي، لاعتبارهم أنها ذهبت به بعيداً، وأن ثمة من لا يريد فتح هذا الملف كونه خطراً ومتشعباً”.