وليس لأنني خلال تلك السنوات اعتمدتُ الحوار الأخوي المستند إلى ثوابت نهج أُولي الأمر في المملكة منذ والدهم الطيب الذكر، الملك عبد العزيز وحِرْص كل منهم على اعتماد سياسة الأخ الحادب المتفهم في ساعات الشدة وغلبة العناد على الروية لدى البعض. وفي محطات حوارية كثيرة مع كل أطياف الميدان السياسي والحزبي الرحب، تفهمتُ وأفهمتُ وكانت الطمأنينة تتقدم على المحاذير.
ليس الحزن يغمر نفسي وأنا أستحضر من الذاكرة تلك السنوات، متابعاً لما هي الحال في البلد العزيز علينا شعباً وقيادة، لما آلت إليه الأحوال فيه، وإنما لأن متعاطي الشأن السياسي والحزبي والحركي والتياري في لبنان، أمسوا دون قواعد العمل الموجب تأديته بحُسن النية للشعب، وبالتالي للوطن. كما أمسوا يمارسون الواجب السياسي عكس ما هو المعروف عن لبنان بأنه البلد الذي يزهو بالممارسة الديمقراطية. وأقول ذلك على أساس أن تنوع الرؤى لا يعود حلاً إذا كان سيُبنى سلفاً على العناد. ولقد كثرت في الأشهر الماضية الدعوات إلى الحوار بهدف إيجاد حلول للأزمة المستعصية وهي تحديداً انتخاب رئيس جديد للجمهورية. لكن ما جدوى الدعوة إلى الحوار إذا كان الطرف الذاهب إلى الحوار يتمسك بالموقف الواحد ولا يتقبل المناقشة.. أي بما معناه إنه سيذهب إلى الحوار ليقول هذا موقفي الذي لا مجال لأي تعديل فيه. هنا تصبح الدعوة إلى الحوار «رفْع عتب» على نحو ما يردد اللبناني كمَثَل عن الكلام غير الملتزم. وهنا بطبيعة الحال لا يعود للحوار فرصة التوصل إلى موقف متوازن، بل إن جلسة الحوار في حال عُقدت لن تدوم أكثر من بضع دقائق ويعود كل طرف إلى عرينه.
لكن لو تم الحوار مستوحى أو مقتبسا على نحو ما سبق وحدث في «تجربة الطائف» التي أثمرت وفاقاً لا سامح الله الذين تلاعبوا وما زالوا به إما لجهة عدم الالتزام أو لجهة التفسير وفْق الهوى السياسي، فإنه لا بد سيثمر توافقاً وإن في الحد الذي لا يحرج هذا أو ذاك أو أولئك. وإذا جاز لحادب مثل حالي الاقتراح، فإنني أرى العلاج في صيغة مجلس حواري قوامه رؤساء الطوائف المسيحية والإسلامية يدعون إليه بصيغة بيان يحمل تواقيعهم كل الأطياف الحزبية والتيارية والحركية وفي أشخاص القائد الأول رتبة مترئساً وفد جماعته لهذه الأطياف، ومعهم ممثلو النقابات والقيادة العسكرية والأمنية إلى جانب مَن يمثل الهيئات النسائية والمجتمع المدني، ولا تنتهي اجتماعات المتحاورين هؤلاء إلا باتفاق يحمل تواقيع المشاركين، وبصرف النظر عما إذا كان المتحاورون انتهوا إلى صيغة لا متخوف من مخيف فيها. صيغة تضع الأمور في مساحة عريضة من الطمأنينة حاضراً وانتعاش الأحوال مستقبلاً. ومثل هذه الصيغة تنسجم مع تقاليد الديمقراطية التي يكاد العناد والتعصب وتحريك المشاعر الفئوية تهز ملامحها.
ربما لو كانت العملية الانتخابية للرئاسة اللبنانية تجري بالاقتراع الشعبي على نحو ما عايشناه هذه الأيام من خلال انتخابات الرئاسة في تركيا، لما كان للبنان أن يكابد هذه الوهدات واحدة تلو أُخرى، وتلك في أي حال تجربة تنفع كصيغة للبنان ما دام المخاض الصعب يلازم عملية انتخاب الرئيس منذ السبعينات، وما دام النواب الذين يقترعون عند واجب اختيار الرئيس يمثلون أنفسهم بأكثر من تمثيلهم للقواعد الشعبية التي انتخبتْهم نواباً. وإذا كان لبنان يتماهى بالديمقراطية نهجاً فهذه تركيا مارست العملية الديمقراطية في انتخاب رئيس ومن دون عراك وجرحى. ومع أن الفائز لم يمثل كل شعب تركيا اقتراعاً، وإنما نصف المقترعين زائداً خمسة في المئة، إلا أن الفائز رغم خسارته إسطنبوله جوهرة الشأن التركي هو رئيس النصفيْن معاً، وكذلك رئيس الذين لم يمارسوا الواجب الانتخابي.
تلك في زحمة الأحوال الراهنة مجرد خواطر وتمنيات نابعة من مشاعر أخ عربي عرف لبنان وأحبه، ويتمنى لشعبه الكريم تَجاوز العثرات التي هي عملياً صُنعت في الخارج لبلد طالما يتباهى بعبارة «صُنع في لبنان»، وبات من الواجب درءاً لما قد ينتهي أعظم لا قدَّر الله انتخاب رئيس يتسم بالحرص على وطنه، يصْدُق القول ويمارس الخبرة ويشهر سيف سلطانه ضد التحزب والفساد والطائفية البغيضة، ويعمل بتنسيق مخلص ووطني مع حكومة تعزز العلاقة مع المحيط العربي وتستعيد الثقة به من المجتمع الدولي، وتنخرط على نحو ما تعيشه بعض دول الأمة في البرامج الاستثمارية. رئيس «صُنع في لبنان» من أجْل إنقاذه ورحمة بشعبه ومعه حكومة تعمل من أجْل لبنان… وكفى هذا الوطن العزيز الذي منحه الله سبحانه وتعالى خيرات يحاول بعض أهل السياسة والتحزب بعثرتها.. هداهم الله إلى سواء السبيل. وأعان شعب لبنان على تحمُّل هذا الابتلاء الذي يقاسيه منذ ست سنوات عجاف.